د. رائد المصري*
بهدوء.. منذ اللحظة الأولى لإنطلاق ثورة “17 تشرين” وأحزاب السلطة الحاكمة تتحدث عن ضرورة فرز قياداتها وطرح برنامجها في الحكم البديل. هذه الطغمة الحاكمة لا تريد سوى إئتلافات سياسية ومجاميع ثورية تدور في فلكها وتسوق لمشاريعها التدميرية بعدما وصل الفساد إلى أقصى مداه عندما أسقطوا مرفأ بيروت ومحوا آثار حركة ملاحته، كجسر تواصل بين الشرق والغرب منذ الفينيقيين الى اليوم.
قلنا في السابق أنهم يريدون أن يتعرفوا على قيادات الثورة في “17 تشرين” لمحاصرتها وإستهدافها بالتصفيات الجسدية والخنق الإقتصادي والترحيل وإحكام الغلق على كل ناشط ثوري قال “لا” لهذه السلطة وفجورها وممارساتها.
فكانت خطوة عمداء الثورة التحريريين في تظاهرة السبت، 8/8/2020، لإحداث نوع من كسر لهذه النمطية الجامدة في حراك الشارع وثبات السلطة على تسلطها وذلك كخطوة رمزية إذ توجهوا إلى وزارة الخارجية في الأشرفية لإعلانها مقراً لثورة “17 تشرين” كهدف له رمزية سلمية وتعبير عن الحال الذي وصل إليها لبنان والقيمين من خلال سياساته الداخلية والخارجية وليتأكد اللبنانيون، كل اللبنانيين، والعالم مدى هشاشة هذه السلطة وفقدان أحزابها للتوازن لا سيما بعد صدور تعميم بمنع كل من العميدين الثوريين، جورج نادر وسامي الرماح، من الدخول إلى أية ثكنة عسكرية وهو ما يعد خطوة غير منطقية، فللعمداء حقوق قانونية وعائلية وشخصية متوجبة على الدولة ومؤسساتها العسكرية، من طبابة ومساعدات مالية وإجتماعية وإعانات مدرسية وغيرها، بحيث لا يمكن منعهم منها أو إطباق الحصار عليهم بعد أن واجَها وتجرآ وخاضا معركة حقيقية أظهرت القدرة أن في ثورة “17 تشرين” رموزاً وفكراً ورؤية وبديل قادر على النهوض بالبلد، وأن هذه السلطة أثبتت للناس وللعالم أنها كلما تمادت في العنف وتوترت في الأداء إقترب موعد رحيلها و”خلعها” عن الحكم، وهذه نظرية علمية منهجية يعرفها الجميع.
تحدث أهل السلطة عن ملفات أتلفها المنتفضون عند دخولهم الوزارات، ليتبين أن هناك من هرَّب كل الملفات الحساسة بعد إنفجار المرفأ وقبله، من مدراء عامين وموظفين من أصحاب الرتب العالية، حيث قاموا تحت جنح الظلام بلملمة كل ما يُدين السلطة وأزلامها من فساد وهدر وإهمال، وهو ليس من نسج الخيال أو أو أقوال في الهواء بل أن عدداً من المحطات الإعلامية وثَّقت الحدث صوتاً وصورةً.
لقد حفظ اللبانيون الأحرار الدرس منذ اللحظة الأولى في كيفية إستهداف الناشطين البارزين والمؤثرين في الرأي العام وأصحاب الفكر والنظرية، لذلك هم مصرون على إبراز أكبر لأوسع شريحة ثورية في الساحات من أجل تركيب ملفات أمنية لها، ولنا في ذلك العديد من الأمثلة على إستدعاء الناشطين والأكاديميين وكل فاعل ثوري على الأرض طالب بمحاكمة الفاسدين أو فتح ملفات الفساد أو صرخ ضد هذا التمادي في ظلم الناس والعباد. كلا.. لن يمنحكم الشعب فرصة إستهدافه المباشر مرة أخرى.
بالأمس تسابقت أحزاب السلطة على تدبيج وزارة لتأليف حكومة حسان دياب وبأنه الأكثر قدسية وقدرة على تحمل المسؤولية الإنقاذية في محاولة لإضفاء الشرعية الوطنية والعربية والدولية عليها، لكنهم فشلوا وأصبح الرئيس دياب فجأة من “الخوارج” بعد أن أرادوا تحميله وحكومته مسؤولية فشلهم في الحكم والفساد على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وبعد أن منعوها أصلاً عن القيام بأية مبادرات وطنية أو عربية لتنظيم الحكم ووقف “عربدة” المصارف، فحاصروها وأسقطوها ورموها أرضاً، كما كانوا في كل مرة يرمون حكومات الرئيس سعد الحريري بعد إستنزافه وإستنفاذ كل طاقاته العربية والدولية لجلب الأموال “الكاش” والمساعدات وصرفها من دون وجه حق عبر التسلط الريعي لهذه القوى المستحكمة بمفاصل الحكم وإدارات الدولة.
إن أية صيغة للحكم مع هذه السلطة وأحزابها محكومة بالفشل؛ فحتى حكومة الرئيس دياب، التي إستقالت وهي من ذات الصحن السياسي لأحزاب السلطة، لم تستمر ويكتب لها النجاح وهذا ما يدل على أن لبنان بات في مرحلة مختلفة لا يمكن له إلا إنتاج صيغة حكم مختلفة تحكمها سيادة القانون والدولة المدنية وهم اليوم متمترسون يكابرون في مواقعهم بإنتظار متغيرات دولية وإقليمية قد تحصل ليعيدوا إنتاج تسلطهم وهو ما لن ينفع.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصورة: سويس إنفو.
موضوع ذا صلة: لبنان بين الدويلات “العميقة” و”العقيمة” و”الغميقة”