د. وسام ناصيف ياسين*
يرسم المنتصر مسار الحجر والبشر بعد كل حرب. قبل مئة عام، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، قررت فرنسا ممثلة بالجنرال غورو، المفوض السامي على سوريا ولبنان آنذاك، تأسيس “لبنان الكبير” بعدما ضمت لـ “لبنان المتصرفية” السهول، الجنوب والبقاع وعكار، والموانئ، بيروت وصيدا، وباقي المدن الساحلية. ذلك الكيان لم يتفق عليه فعلياً في حينه سوى الجنرال غورو والبطريرك إلياس الحويك، ممثلاً معظم الموارنة. فقد تعالت الأصوات الرافضة له، فالأرثوذكس والكاثوليك والسنة والشيعة والدروز كان خيارهم الإرتباط بسوريا وحكمها العربي. لكن فرنسا “الأم الحنون” للموارنة المنتصرين بإنتصارها، قررت ما قد كان.
لعل أبرز الرموز المارونية التي عارضت “لبنان الكبير” وأيدت اإرتباط الفيدرالي بسوريا، الفيلسوف والأديب والفنان جبران خليل جبران، الذي نشر وقتذاك في مجلة “الهلال” المصرية مقالته الشهيرة “لكم لبنانكم ولي لبناني”. تلك المقالة أزعجت سلطات الإنتداب وحدت بها إلى حذفها من نسخ المجلة، دون الإلتفات لحذف إسم الكاتب وعنوان المقالة من ثبت المقالات، ما استفز فضول القراء ودفعهم إلى الإطلاع عليها أكثر.
وقد سخر جبران من الأمر في رسالة وجهها لصاحب دار الهلال ورد فيها: “لم أعلم، وحتى لم أحلم أن الرقابة في سوريا قد صارت حساسة. إنها والحق لحالة تبكي وتضحك في وقت واحد”. تلك المقالة التي شكلت انعطافة أساسية في حياته، حيث ترك جبران بعدها الخوض في السياسة منصرفاً نحو الأدب والفن، بعد أن حفر في حينه على جدار الزمن آراءه بلبنان واللبنانيين وسياسييهم، فمما قاله:
“لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، أما لبناني فمعبد أدخله بالروح”، وهو يقصد بذلك الإتفاق بين البطريرك الحويك والجنرال غورو. ويكمل في وصف “لبنانكم” بأنه “ينفصل آناً عن سوريا ويتصل بها آونة”، مشيراً للأجزاء الشمالية والجنوبية والشرقية التي كانت تسلخ عنه حيناً، وتضم إليه حيناً آخر. فهو “عقدة سياسية تحاول حلها الأيام.. ومشكلة دولية تتقاذفها الليالي”.
وهو حين يسخر من دولة “لبنان الكبير”، يأسى على اللبناني بقوله: “يضحكني اللبناني عندما يقول: دولة لبنان الكبير، ويحزنني عندما يقول: ما أفقر لبنان وما أجهل اللبنانيين”.
وفي مقابلة أخرى لم تنشر (كتاب: إقلب الصفحة يا فتى/جبران خليل جبران)، يضحك جبران من اللبناني الذي يفرح مما يوجب الحزن: “يضحكني في اللبناني أن يتكلف الضحك وقلبه يبكي”. كما يعبر عن حزنه حيال تقسيم سوريا الطبيعية لأربع دول (لبنان الكبير، دولة دمشق، دولة حلب، ودولة العلويين) بالقول: “لنضحك ونفرح لأن بلادنا الصغيرة بحدودها، تقسم إلى أربع دول عظيمة بأسمائها”.
هذا عن “لبنانكم”، أما عن “سياسييه” فيطلق جبران العنان لقلمه، صاباً جام غضبه عليهم، معتبراً أن فسادهم سيفترس الوطن الناشئ بزعمائه: “الذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم”، متسائلاً بغضب: “هل بينهم من يتجرأ أن يقول: إذا ما مت تركت وطني أفضل قليلاً مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان أو دمعة بين أجفانه أو ابتسامة على ثغره؟”
ويراهم “أجنحة متكسرة” في قيامة الوطن، فهم “الذين يسيرون أمام الجنازة مزمرين راقصين، حتى إذا ما التقوا موكب العرس تحول تزميرهم إلى نواح ورقصهم إلى قرع الصدور وشق الأثواب”. ويخاطبهم بروحه المتمردة “دينكم رياء ودنياكم ادعاء وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء”.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة مما قاله كاتب “النبي” قبل مئة عام، تلك “النبوءة” التي شهدها لبنان إبان حروبه الأهلية، ونراها الآن بأم العين شاخصة أمامنا، وكأن جبران قد قالها للتو: “لبنان يتمخض بثورة مذهبية، ومن يعش يرَ.. لبنان البلد الصغير الهادئ الآن، سيكون مسرحاً لمجزرة هائلة، يذبح فيها المسلم المسيحي والمسيحي الدرزي، وسوف يذبح المسيحي أخاه المسيحي، ومن يعش يرَ.”
ويحذر جبران من تعدد الجماعات غير المتجانسة في الكيان الناشئ، ما يجعل منه مخلوقاً غريباً متعدد الرؤوس والرئاسات. ولعل أنصع تجليات تلك “النبوءة”، عبارته “لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها.. وماذا عسى أن يبقى من لبنانكم وأبناء لبنانكم بعد مئة سنة؟”
تنبأ جبران بواقعنا قبل مئة عام، فلبنان اليوم مسلوخ عنوة عن سوريا ولو بالجغرافيا، تنهشه الطائفية بأنياب الطوائف، حكوماته ذات رؤوس لا عداد لها، داخلياً وخارجياً.
هناك من يقول بعد دراسته للتاريخ بأن “التاريخ يعيد نفسه”، إلا أن دراسة تاريخنا تشي بأمر مؤكد، هو أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. فالتاريخ في لبنان لا يعيد نفسه، إنما نحن نكرر أنفسنا، ومن يكرر نفسه محكوم بين زوال واضمحلال. عسى أن نستفيق من سباتنا ونصنع تاريخنا بأيدينا، ونبني “لبناننا”.
*كاتب لبناني
المصدر: الميادين.
مصدر الصورة: الجزيرة الوثائقية.
موضوع ذا صلة: لبنان.. السلام المفقود!