د.رائد المصري*
بهدوء.. ولا يندمن أحد منكم على ثورة “17 تشرين” التي أطلقت ماكينة تغيير النظام السياسي وبُنيته الخبيثة، فصارت حديث ومطلب أهل أركان سلطة الأحزاب الحاكمة وزعماء الطوائف ورجال الدين الحامين تاريخياً لهذه المنظومة المسخ. فقد كنا نعتبر أن إعلان دولة لبنان الكبير العام 1920 وفقاً لرؤية المستعمر الفرنسي والبريطاني آنذاك التي أنتجت الكيان اللبناني القائم على تكريس التحاصص الطائفي والمذهبي في بناء وطن مريض معتل حيث زرعوا فينا “إنعدام الأهلية” في حكم أنفسنا وشعبنا وشعوب المنطقة الخارجة توّاً من إدارة السلطنة العثمانية إلى مفهوم الدولة الحداثوية، فألزمونا حجة الإنتداب الفرنسي المباشر والتحكم فيتسيير شؤون الكيان عبر عصا المندوب السامي المسلّطة على رقاب العباد.
هؤلاء العباد الذين إعتبروها أرحم من سلاطين بني عثمان الممتد حكمهم لأكثر من أربعة قرون.. فصار يعتبرها الشعب اللبناني أرحم من سلطة حكم أحزاب الطوائف التي محت ودمرت كل معالم بناء الدولة من مطارات ومرافىء وسكك حديدية وكهرباء وبنى تحتية مضافاً إليها الإنهيار المالي والنقدي والإقتصادي.
لقد أُثقل اللبنانيون بسلطة سياسية وإقطاع عائلي ومالي “كولونيالي” تابع للخارج، تناسل لمئة عام ولم ينقطع نسله لا الشرعي ولا الديني ولا المدني، فشكّلت إمتداداً وإستمرارية في رهن البلد ومقدراته وحرقه في مشاريعهم الشخصانية، وبناء نفوذ ومحاسيب لأزلامهم المشرفين على إعادة تدوير الإقتصاد الريعي في الرهونات والإستدانة والخدمات، وحشو الإدارات والوزارات بموظفين شكَّلت فصائل ميليشياوية مدنية تستخدم في حماية الزعيم الطائفي إذا ما عجزت سلطة رجال الدين عن حمايته. لقد حان وقت الحساب، وهو ما نعيشه اليوم في لبنان ونحن قد دخلنا في مئويته الثانية.
فقبل إجتماع قصر الصنوبر بين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وممثلي أحزاب السلطة الحاكمة الثمانية، ونقصد منها تيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المردة والقوات والكتائب، وزعت السفارة الفرنسية مسودة للبيان الوزاري لحكومة “أوديب” المقبلة، تحت عنوان “مشروع برنامج للحكومة الجديدة”.
بيان الحكومة – الوصاية الذي وزعه الرئيس ماكرون عليهم، متهماً إياهم بالفشل والتقاعس والإسهام في تعميم ونشر الفساد والسرقة واللصوصية والسطو على المال العام والخاص، لم يحرك ذرة واحدة في معيار الكرامة الوطنية لديهم والحس الإنساني جراء جوع الناس وفقرها وتعريتها من منازلها بعد إنفجار المرفأ. كأس من النبيذ فقط فاض على الطاولة، التي تقدم العروض السخية والمجانية للخارج، كانت كفيلة بالإنسحاب من عليها في قصر بعبدا، ولتلك الحادثة حساب بودئ الدفع به من الرصيد الخاص.
لقد جاء الرئيس ماكرون إلى لبنان عله يجد تعويضاً عن محاسبة شعبه له في فشل سياساته الإقتصادية المنحازة لصالح الرأسمال الوحشي وكارتلاته وإحتكاراته والمُعززة دوماً للتبعية الأميركية. وكما لم يستطع الرئيس الفرنسي التجول داخل شوارع باريس وفي المدن الفرنسية نتيجة السخط الشعبي ضده وضد سياساته الخاطفة لحقوق الفقراء والمتقاعدين والطبقات الإجتماعية، لكنه إستعراض قوته عبر التجوال في شوارع بيروت وأرصفتها. فها هي زعامات السلطة في لبنان وبسبب التباين الطبقي والعنجهيات العنصرية الممارسة لم يجرؤ أحد منها على التجوال في الشوارع المتضررة من إنفجار المرفأ.. فهل هذا محض صدفة؟
ونحن على أبواب المئوية الثانية، يريدون رسم حدود وظيفية جديدة تناسب مصالحهم في عملية تقاسم إستعماري كجزء من التقاسم الإمبريالي الذي يعد للمنطقة العربية من أجل مصادرة الثروات وإخضاع لبنان، تحديداً، لشروطهم في إعادة رسم معادلة تبدأ بإعادة تعويم الأحزاب الطائفية الحاكمة لأنها الأقدر على التكيف والتموضع السريع مع مصالحها، وملء الفراغ في تسوية “صفقة القرن” إستجابة للمتطلبات الإسرائيلية الجديدة على حساب ما تبقى من حقوق للشعب الفلسطيني، الذي يستوعب منهم لبنان أكثر من 500 ألف لاجىء، وتبرير معادلات الصراع الجديدة في الشرق الأوسط القائمة على التجزئة والنفط والغاز وتوزيع خرائطها.
اليوم، يعبرون أنهم خلقوا من جديد الكيان اللبناني ويريدون أن يضعوا له الوظيفة المرسومة في دمجه بعلاقات كولونيالية وتبعية مطلقة وعمياء، وهذا يشترط إستمرار النظام الطائفي والإستبداد الديني، فإستحالت معهم أية دعوة للتغيير، منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وكأنها مس بالدولة وضرب للكيان الوظيفي.
المهم فيما حصل هو تعرية السلطة الحاكمة وأحزابها وحوامل مشروعها أولاً، الذي إمتطته وعلقت على أكتافه حجة مواجهة المشروع الإستعماري الأميركي والصهيوني ونهبت البلد ومسحت خزائنه المالية وشكلت طبقة ميليشياوية من “الجنجويد” أو “الإنكشاريين”.
ثانياً، أن خطاب “17 تشرين” قد تعمم وصار دستوراً يتغنى به حتى أهل الحكم والسلطة، فها هو رئيس الجمهورية الذي كُلِّف بأن يكون ضمانة وجود النظام وبغض النظر عن صلاحياته، يدعو لتغييره وبناء دولة مدنية، وبهذا يكون قد وضع كفن هذا النظام بيديه. كذلك، الدعوات لعقد سياسي وإجتماعي جديد من قبل السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري تعبر عن قساوة المشهد الزائل الذي تنعموا به طوال سنين.
أخيراً، إننا نجزم بأن إدارة سوريا للملف اللبناني، منذ العام 1976 لحين إنسحابها في 26 أبريل/نيسان 2005، كان الأفضل والأكثر حرفية في التأديب الوظيفي وفي سير المؤسسات، على ما نشهده اليوم من خفّة وضعف سياسي جعلهم راكعين مسلمين لكي شيء لقاء بقائهم على كرسي العرش ومنع المحاسبة عنهم.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصور: اليوم السابع – إيلاف.
موضوع ذا صلة: لبنان دولة بترولية على مشارف المئوية الثانية: الإمكانيات والإنجازات والمعوقات (1/2)