د. عبدالله الأشعل*

قامت الثورات الشعبية في عدد من الدول العربية، فظن المراقبون أن صفحة جديدة قد بدأت في المنطقة وأن هذه الثورات هي “فاتحة” لتغيير الحكم وأنماطه وكذلك أنماط العلاقات الخارجية حيث عُقدت الكثير من الندوات والمؤتمرات، وفي مصر وتونس ولبنان والكثير من الأقطار العربية، لإستشراف المستقبل الواعد.

وعلى الرغم من أن هذه الثورات لم تذكر إسمي إسرائيل أو الولايات المتحدة، إلا أن بعض المراقبين، بخيالهم الواسع، قدروا بأن العهد الجديد سوف ينتصر للشعب الفلسطيني ضد إسرائيل لكنهم لم يقدروا بأن هذه الثورات كانت بمثابة “جرس إنذار” لمختلف القوي المستفيدة من الوضع الراهن قبل إنفجارها في وجهها، وأنها لا بد أن تعيد هذه الشعوب إلى أقفاص العبودية وتفرض طوقاً من الحصار عليها. بالفعل، تنادت هذه القوى واعادت الإمساك بالسلطة بعد أن درست أسباب هذه الثورات، وأدركت أن العبيد لا يثورون. لذلك، روجت مقولة أن الشعوب المسالمة تحفظ “الجميل” لحكامها، وأن ثورتهم ضد هؤلاء الحكام هي إنكار لهذا الجميل ولا بد أن تكون هناك مؤامرة خارجية، بحسب الطريقة المثلى التي قاد بها هؤلاء الحكام بلادهم وهي نفس النغمة أيضاً التي رددها فرعون عندما واجه موسى وحذر المصريين من الإستماع إليه بأنه حاقد عليهم ويريد أن يخرجهم عن طريقتهم المثلى في المعيشة وطردهم من أرضهم.

كانت النتيجة أن هذه القوى التى قامت الثورة ضدها، عادت وهي متربصة بالشعوب، فنكلت فيهم بمعظم البلدان ولم يفلت من هذا المصير، نسبياً، سوى تونس. كما ضغطت السلطات على المتعاطفين مع هذه الثورات حتى انقلب معظم الشعب ضدها ولعنوها وحملوها مسؤولية كل الشرور، في وقت تولى الإعلام تجسيد، ولو بالبركة، هذه المساؤئ، وهذا ما حدث للعُرابيين حيث عبر أحمد عرابي في مذكراته عن تأليب الخديوي والإنجليز للشعب ضد ثورته، وهو ما ذكرت في مقال نشرته، مارس/آذار 2013، حذرت فيه من هذه الظاهرة وعنوانه “حتى لا يتحول يناير إلى العُرابيين الجدد”.

لقد كان طبيعياً أن تحتفل المقاومة ضد إسرائيل بهذه الثورات لأنها تحرر الشعب الفلسطيني من هيمنة الأخيرة، لكن فتح الجبهة السورية كشف عن بعد آخر كان مجهولاً وهو أن الثورة في سوريا كانت تريد تغيير النظام ووضع أسس نظام ديمقراطي، وهذا هو المطلب العام لجميع الثورات بعد أن سُدت نوافذ التغيير أمامها.

أما حركة حماس، فقد إنحازت إلى الثورة ضد النظام رغم أنها تدرك الأبعاد المعقدة لهذا الموضوع، ذلك أن دوافع الثورة في دمشق تمتلك الدوافع ذاتها في الدول العربية الأخرى. ولكن النظام في سوريا كان يشك بأنها مؤامرة إسرائيلية على نظام قومي يدعم المقاومة ضدها حيث أدخل الثورة ضمن الصراع بينه وبينها وأصبح الثوار “ضد الوطن وضد العروبة” وأن خطوط إسرائيل والولايات المتحدة قد وصلت إليهم وهذه ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الفحص والدراسة.

لكن وفي مثل هذه الحالات، ينتظر النظام من حركة حماس، التي فتح لها أبوابه وأعانها على عملها ضد إسرائيل، أن تفهم هذه المنطلقات وتنحاز إلى النظام خاصة وأن الإستقطاب لم يكن حاداً بين الشعب بمجمله والنظام بجمله، وأن الحدة التي واجه بها النظام المتظاهرين هي نفسها التي إتسم بها رد فعل النظم العربية الأخرى ضد الثائرين عليها.

أما حزب الله، فقد إعتبر أن وضع سوريا كوسيط بين إيران والمقاومة لا يحتمل الإهتزاز بالثورات، وأن هذه الثورة سوف تفتح الباب لتنفيذ مؤامرة غرضها الإحاطة بالنظام لا سيما بعد أن فشلت عملية إغتيال رئيس الوزراء الليناني الأسبق، رفيق الحريري العام 2005، في الإيقاع بهما فور الإغتيال وأن كانت القوات السورية قد سارعت بالإنسحاب في وقت كان فيه الإنقسام المجتمعي حاداً حول وجودها من عدمه.

من هنا، قدر حزب الله أن مساندة النظام يدخل ضمن اطار “الرد الإستراتيجي” على المؤامرة الإسرائيلية وبعض الدول العربية، وهكذا كانت الثورة في سوريا مناسبة لظهور مجموعات مسلحة لعدد كبير من الدول إذ أصبحت دمشق مسرحاً لتصفية الحسابات بين القوى الإاقليمية والدولية مما عقَّدت مهمة عودة السلام إليها وتحول مصيرها إلى لعبة دولية يصعب السيطره عليها لا سيما بعد دخول إيران وحزب الله وروسيا إلى جانب الحكومة السورية بالإضافة إلى “الحماية الدبلوماسية” الصينية في الأمم المتحدة على أساس أن الولايات المتحدة هي الطرف الآخر في المعادلة، وأنه لا بد من هزيمة مخططاتها على الأراضي السورية دون أن يمس ذلك الخطط الإسرائيلية.

لا شك أن تواجد حزب الله في سوريا كان قراراً ملحاً، فلو تركها الحزب لمصيرها لزال الوسيط بينه وبين طهران، ولو إصطف مع الحكومة السورية دفاعاً عن وحدة أراضيها ضد المخطط الإسرائيلي لتحمل الكثير من الخسائر بما في ذلك الضغوط الداخلية عليه بإعتبار أنه خرج الإطار اللبناني الذي كان يعمل فيه ووسع دائرة المواجهة مع إسرائيل لتشمل سوريا أيضاً على ضوء انه حزب مقاوم وسلاحه يكتسب حصانته من تخصيصه ضد إسرائيل.

ما هو واضح من هذه المقدمة أن هناك اختلافاً في المواقف بين حزب الله وحركة حماس؛ فالطرف الأول إنحاز للحكومة السورية، أما الطرف الثاني فلقد ظن أنها ثورة شعبية عامة، على غرار ما حدث في مصر، فإنحاز لها. وإذا مددنا المواقف إلى مختلف المشاهد الثورية في اليمن ومصر وتونس، وهي الدول التى ثارت شعوبها ضد حكامها، لوجدنا أن ثورة الشعوب عموماً كانت انتصاراً للشعب الفلسطيني ومقاومته.

بإعتقادي، لم تكن هذه الثورة في صالح حزب الله خصوصاً أن إيرن، مع العلم بأنها قد إعتبرت أنها تأثرت بالثورة الإسلامية فيها. لكن عندما تبين لها بأن هذه الثورات تقودها قوى سُنية تكفر الشيعة، غيرت موقفها منها خاصة بعد أن تدخلت في سوريا ضد إسرائيل، فيما دعمت العديد من دول الخليج أطرافاً مناوئة للحكومة السورية، وهنا أقول أطرافاً لا ثواراً لأن الوضع المعقد في دمشق يقتضي الحذر في اطلاق الأوصاف على الأطراف المختلفة.

أما المقاومة الفلسطينية، فقد أيدت بلا تردد كافة الثورات العربية بل أن النظام العسكري في مصر قد إتهم حركة حماس بأنها شاركت في الثورة المصرية عن طريق إخراج المساجين من “الأخوان المسلمين”، سجن وادي النطرون، كما إتهم حزب الله في قضايا مماثلة. ولذلك، فإن هذا البعد بتحليل العلاقة بين السلطة المصرية اللاحقة على الثورة وبين المقاومة الفلسطينية كانت ظاهرة في التوتر الذي حدث بعد ذلك خاصة ضد الحركة وبشكل أخص بعد أن دخل الجيش المصري فى مواجهة مسلحة ضد الجماعات المسلحة في سيناء، ولكن يبقى القول بأن عداء النظام المصري للحركة يبقى متقطعاً.

أما عن علاقة النظام المصري بحزب الله، فإن الأول نأى بنفسه عن موجة العداء التي حركتها بعض دول الخليج ضده، وأن كان الحكم في مصر قد أيد، ضمن الجامعة العربية، إدراج المقاومتين الفلسطينية واللبنانية على لوائح الإرهاب.

أخيراً، إن موقف المقاومتين الفلسطينية واللبنانية من الحَراك، لبنان والعراق وغيرهما، كان متفاوتاً، في وقت كان فيه الموقف الإيراني هو العامل الحاسم بالنسبة لموقفي الحركة والحزب على الرغم من أن الأولى لم تعلق على أي من المشاهد وأن كانت تأمل ألا تؤثر على قدرة إيران فيما يخص دعم معسكر المقاومة ضد إسرائيل لأنها، وعلى ما ييبدو، كانت ترد كل التحركات والأحداث إلى الصراع بين معسكر المقاومة والمعسكر العربي المتصهين وإسرائيل.

الخلاصة، تلحظ إسرائيل هذه الظاهرة وتحاول أن تؤكد موقفها الواضح منها وهو أنها ضد الثورات العربية عموماً لأنها تهدف إلى تحرير الشعوب من الحكام، أي حلفاؤها اللذين أخضعوا هذه الشعوب ومنعوها من التواصل مع نضال الشعب الفلسطيني. لذلك، جنت إسرائيل أكبر المنافع عندما حققت الإختراق الدبلوماسي الشامل مع أغلبية دول الخليج، التي كانت تقف ضد هذه الثورات (مصر – اليمن) على الرغم من أن بعضها كلن يؤيد الثورة السورية فقط حتى باتت إسرائيل، في النهاية، هي “المستفيد الأول” من قمعها لا بل ذهبت بعض النظم العربية إلى إعتبار أن إسرائيل هي التي حركت الشعوب حتى تظفر بهذه النتيجة. أما الحَراك، فلم تعترض عليه حركة حماس، وأيدته إسرائيل، وناهضه حزب الله.. وهو ما يحتاج إلى المزيد من التحليل.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: مصر العربية – ميدل إيست أونلاين.

موضوع ذا صلة: تحليل موضوعي لسجل “الجسارة” الإسرائيلي