د. عبدالله الأشعل*
من حق الأجيال الشابة علينا أن تعرف القطبين الذين أثرا في الحياة الفكرية والسياسية العربية لأكثر من نصف قرن.
لقد إندمج التيار الشعبي مع التيار الرسمي لفترات متقطعة، لكن هذا الإندماج تحت أسطورة الدولة الوطنية إنتهى في العام 1967 عندما هزمت مصر وإحتلت كل فلسطين وأدرك الجانب الفلسطيني أن الإطار العربي لا جدوى منه بتحرير بلادهم، وأن ركائز هذا الإطار المقاومة الفلسطينية إلى ساحة تعكس الصراعات العربية وهي في الحقيقة صراعات شخصية لا علاقة لها بالمصلحة العربية العليا.
كانت لدي الكاتب المصري الراحل، محمد حسنين هيكل، عقلية ممتازة وإطلاع وافر بسبب إلتحامه بالرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، وضباط “ثورة يوليو”. وقد كتبت مقالاً تمهيدياً لهذا المقال وكلاهما تمهيد لدراسة شاملة لا تغني عن تنازل دور الأستاذ هيكل في السياسات المصرية ضمن الأطروحات الجامعية السياسية والإعلامية.
فلاشك أنه كان أمثولة صحفية، ولكن حصيلة جهده كانت معاكسة لآمال الأمة العربية. فقد كان كسائر الحكام العرب، يعشق السلطة. ولعل خلافه مع الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، سببه أنه إرتبط إرتباطاً عضوياً بالرئيس عبد الناصر؛ فلما رحل، أفل نجم هيكل. ولقد حاول الرئيس السادات أن يعيد شحنه لصالحه، لكن الرجل كان لا يزال في وهج الناصرية، فإضطر الأول إلى إعتقاله ضمن كل ألوان الطيف السياسي المصري الذى سبق إغتياله بأسابيع. وهيكل هو بحق “فيلسوف الإستبداد العربي” أو لنقل “فليسوف الإستبداد العسكري في مصر.
من المعروف أن لكل حاكم في مصر دائماً ثورة ودستور. وإذا كان الرئيس الراحل، محمد حسني مبارك، قد تولى السلطة عقب إغتيال الرئيس السادات، فقد ورث دستوره الدائم ولكن لم يرث ثورته “ضد مراكز القوى الناصرية” كما كان يسميها “ثورة التصحيح”. فقد إخترع هيكل لكل رئيس مصري شرعية خاصة به، لكنه للحق لم يجرؤ على أن يسند شرعية أي حاكم إلى الشعب، ولم يفسر لنا أحد لماذا كان الرئيس عبد الناصر يلجأ إلى تزوير الإنتخابات ويصر على إجرائها وهو يعلم بتزويرها، رغم أنه كان يتمتع بشعبيه طاغية تكفل له النجاح والفوز بأغلبية مريحة ما دام الإستفتاء كان هو السائد.
وإستمر التزوير في الإنتخابات مع إصرار الحاكم على إجرائها. وقلنا في مقال سابق كيف أن الإنتخابات ليست هي الديمقراطية ولكنها أحد أدواتها. ففي العالم الثالث، تخترع كل فتوى التزوير فتنتج الإنتخابات أغنى صور الإستبداد بظل دساتير جديدة مبهرة ولكن لا علاقة لها بالواقع.
المهم أن هيكل كان قطباً سياسياً وإعلامياً كبيراً وصانع الحكام لا مبرر إستبدادهم، على النحو الذي نكشفه بدراسة وثائقية نجربها حالياً حول هذه الظاهرة. فلقد قُدر لهيكل أن يطل تحت الأضواء حتى بلغ خمساً وتسعين عاماً، ولم يدرك مغزى إمتداد الأجل رغم أنه حضر “ثورة يناير”، ورأى بنفسه كيف أُتيح للشعوب أن تعرف ما حرص هو وأمثاله على إخفائه، وظل يحث الشعب على أن يصلي في كعبة المستبد حتى ندخل جنته.
على الطرف الآخر، أدركت الشعوب لفطرتها بعض الحقائق وأدرك بعض المثقفين الحقائق كاملة، فالتفوا حول قطب شعبي يدعو إلى الحرية ويطارد الإستبداد هو الشاعر الأشهر نزار قباني، الدبلوماسي السوري الذي إستهوته حرفة الأدب والشعر وإنتزاعته من الدبلوماسية وإن كان قد إحتفظ منها بأناقة اللفظ موضوح المعنى.
تدور نظرية هيكل حول أن للمستبد آمال كبيرة لشعبه، ومخلص لوطنه، والذي يوزع الوطنية على أبناء شعبه، وأن فشله كان رغماً عنه. في هذا السياق، قدم هيكل تبريرات مضحكة؛ فبقاء الحاكم، هو الدليل الساطع على فشل مؤامرة الإستعمار للإحاطة به، ولم يهتز أمام كارثة 1967، لم يهتز إعلام “صوت العرب”. أما نزار، فرغم ولعة بالرئيس عبد الناصر إلا أنه أخذ عليه أنه يحذر الشعب، ويصادر حرياته، ويسيِّر أتباعه خلف الناس، وكل همه قمع المواطن وكبته، وفرض الوقائع وتفسيرها عليه مُصادراً حرية الرأي والكتابة والتعبير عنهم حتى كانت النتيجة المستحقة. مع ذلك كله، نعى نزار الرئيس عبد الناصر بعد موته، وقال “قتلناك.. يا آخر الأنبياء”. فهل كان نزار عاجزاً عن بلورة صورة للرئيس عبد الناصر تجمع بين محاسبته ونقاط ضعفه؟
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: إندبندنت عربية.
موضوع ذا صلة: هيكل ونظريات “شرعية الحاكم” في مصر