د. عبدالله الأشعل*
يجب أن نسجل قاعدة أساسية من الناحية الإستراتيجية وهي أن إسرائيل تستهدف مصر أساساً، وأنها تشكل العدو الإستراتيجي مهما حاول البعض أن يغفل عن هذه القاعدة. والحق أن “مصر الناصرية” كانت حارساً، ولو بالشعارات، لـ “أمة واحدة” إنهارت مع أول ضربة معول إسرائيلية، يوم 5 يونيو/حزيران 1967. ثم جاء الرئيس الراحل، أنور السادات، الذي لم يفهم أنه بصفقة “كامب ديفيد” قد فتح الباب لإنفلات مكونات الجسد العربي، وهو ضد المصالح الإستراتيجية العربية.
لقد هزمت مصر وحدها وفقدت جدرانها بالضربة الإستراتيجية العبقرية في قيادة العالم العربي لتماسك الأمة، وإن كانت الديكتاتورية العربية بشعاراتها هي العدو الأول للأمة العربية. أما في العام أكتوبر/تشرين الأول 1973، إنتصر الجيش بالعرب وبالشعب المصري الذي بدأ يقبل أصحاب المؤهلات العليا والمجندون هم معظمهم الجيش بقيادة ضباط الجيش وخططهم.
بعدها، يبدو غريباً الرئيس السادات وهو يرتكب هذه “الجريمة”، بحق مصر والعرب نكاية فيهم وفراراً من العروبة، قد أدلى بأكاذيب هائلة لتبرير فعلته إذ أن نصف الشعب المصري على الأقل صدَّق وعوده وتبريراته لتخلص منه أصحاب المصلحة في إستنفاد دوره والبحث عن بطل جديد يكمل مسيرة المشروع الصهيوني. الغريب أن هذه الكارثة لم تخضع لمناقشة عملية حرة أو بحث مدقق في مخاط هذا التطور المفصلي، والغريب أيضاً أن من اعترضوا على تلك الصفقة هم اليسار الناصري نكاية بالرئيس السادات شخصياً، الذي إنقلب على نهج الرئيس جمال عبد الناصر وسجل بطولات وهمية في عملية تصفية حسابات غبية على حساب مصر وشعبها وجيشها.
عندما فرضت مصر صفقة “كامب ديفيد” على الإجماع العربي الذي بنته في العصر الناصري في قمة الخرطوم الشهيرة، أغسطس/آب 1967، ذي “اللاءات الثلاث”، وقف العرب ضدها ولم يصدقوا أن مصر العربية تتنكر لعروبتها. بعدها، هانت العروبة على من تقدمت واشنطن لحماية عروشهم، فكانت “كامب ديفيد” في المنطقة الناصرية هزيمة للعروبة وانتصارات أمريكياً على الإتحاد السوفيتي، وهذا النقطة هي التي دفعت موسكو إلى مساندة هيئة الصمود والتصدي. فلقد انتقلت الأمة من خطر سماع الإذاعة الإسرائيلية إلى لحظة إبتهاج إسرائيل بهبوط طائرة السلام الإسرائيلية في مطار أبو ظبي بإحتفالية “دفن العروبة” في الخليج بحجة التصدي للخطر الإيراني.
لقد كانت “مصر الناصرية” تقيم أوثق العلاقات مع الهند والصين وأفريقيا، وكانت تقف بالمرصاد لأي إعتراف بإسرائيل في أي مكان في العالم. قادت مصر العرب لقطع علاقاتهم مع ألمانيا الغربية رداً على إعترافها بإسرائيل رغم أن السياق على خلفية أسطورة المحرقة تم الإعتراف بألمانيا الشرقيه، خدمة لموسكو، وليس نكاية في بون بل وتكريساً لتقسيم ألمانيا، قبل إعادة توحيدها في العام 1989 على أعتاب إنتهاء الحرب الباردة وإنهيار الإتحاد السوفياتي.
من هنا، يمكن القول بأن مصر تخسر في الجهة الدبلوماسية الصهيونية ما يلي:
1. تحيط إسرائيل بمصر من كل جانب، وتكتسب أوراق قوة جديدة كل يوم.
2. تزايد الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة والتحكم في مصيرها وإنهاء المنظمة العربية – الإسلامية.
3. هذه الهيمنة تؤدي إلى إنقسام المجتمع المصري بشكل حاد.
4. تسهيل قضم إسرائيل لشبه جزيرة سيناء بحجة مكافحة الإرهاب، الذي فشلت مصر في إنهائه.
5. لا تستطيع مصر حماية نفسها في البيئة العربية، وهو ما يشكل هزيمة كاملة لها ولأهدافها وإنهاءً لدورها التقليدي بعد أن تصبح إسرائيل مركز التفاعلات بعد إعادة رسم خرائط المنطقة.
6. إن ضياع فلسطين يشكل إنكشافاً خطيراً لمصر لأنها تعتبر “الفناء الخلفي” للأمن القومي المصري؛ فالحرص عليها ليس مجاملة لأهلها، وإنما تمسك بأركان الأمن المصري.
بإختصار، بدأت مصر خطوه إنتحارية، بجهل أو بعلم، يوم سلمت مفاتيح المنطقة لإسرائيل وواشنطن، ضمن صفقة “كامب ديفيد”، وتوارت وتراجعت تماماً فصارت “رجل المنطقة المريض”؛ والنتيجة، ضعف الدولة المصرية وإستخفاف المحيط العربي والأفريقي بها، وضياع مصالحها المائية وأوراق القوة في علاقاتها الدولية.
لكن الغريب أن مصر بعد أن كانت صخرة لصد تقدم المشروع الصهيوني، تحولت إلى الحياد ثم إلى دور المسهِّل لتوغل المشروع في الجسد العربي، وتلك أكبر حماقة ارتكبتها الأنظمة المتعاقبة فيها. على سبيل المثال، لا يشكل “سد النهضة” أزمة في مياه النيل وإنما هو نتيجة أزمة الدولة المصرية وتراجعها.
إن مصلحة مصر المؤكدة هي بتحديد علاقتها مع إسرائيل، والسعي إلى تماسك مجتمعها، وحسن إدارة الموارد بحيث تتخلص من الديون ويتعافى الإقتصاد، وإصلاح نظام الحكم فيها، وإحترام القانون، وتعظيم أوراق القوة لإدارة علاقاتها الإقليمية، ودعم الأمة والجامعة العربية.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: روسيا اليوم.
موضوع ذا صلة: تهافت دعاوى التقارب مع إسرائيل