تختلف دوافع أصحاب المذكرات الشخصية والسياسية؛ فالسياسيون المصريون الذين كتبوا مذكراتهم، كانوا يسعون إلى تبرأ ساحتهم من أحداث معينة. ولكن لاحظنا أن معظمهم لم يفسر الأحداث الكبرى التي كان هو طرفاً، فيها مثل مذكرات اللواء محمد نجيب وعنوانها “كنت رئيساً لمصر”، ويفهم منها أنه كان نصيراً للديمقراطية، وأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان العقبة الاساسية في هذا الطريق؛ ولذلك، فإن التنكيل باللواء نجيب فسّرته المذكرات على أنه “عقوبة” للرجل على تمسكه بالديمقراطية.

لكن المذكرات لم توضح دور كل من الانجليز والأمريكين في أحداث يولي/تموز وتنظيم “الضباط الأحرار” ومن الذي أقنعه بالانضمام إلى التنظيم وقياداته، والسيناريو الذي رُسم له لكنه صدّق بأنه زعيم التنظيم، ولم يكن صريحاً في أنه جاء مجرد غطاء للحركة، وأن خروجه عن النص هو السبب فيما حل له بعد ذلك.

وفي نظري، أن لا قيمة لهذه المذكرات لها، من قريب من ذلك مذكرات حسين الشافعي. ولمست في مذكرات الرئيس الراحل أنور السادات أنه لم يذكر ويفسر زيارته للقدس ابتداء وللقدس بالذات انتهاء، ومعلوم أن الدكتور أسامة الباز هو الذي كتب كلمته في الكنيست – وهذه الكلمة لا يمكن أن تتطابق مع سلوك الرئيس السادات فيما بعد – فهي أبراء للذمة لا أكثر، في وقت لا يُعرف فيه سر الزيارة إلا الرئيس السادات لكنه لم يفسح عنه،ودفن معه.

إما مذكرات مراد غالب، فقد كان همها أثبات عداء الرئيس السادات للرئيس عبد الناصر. أما مذكرات العسكرين المصريين، فقد كانت أصدق من السياسيين ولكنها تحتاج إلى تقييم فني وموضوعي، مثل مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، ونموذج المذكرات الشخصية كتاب عباس محمود العقاد بعنوان “أنا”، وكان أكثر صدقاً من أمثاله الذين كتبوا كذباً في تجميل الصورة أو اظهار البطولة. ولكن العقاد كان شجاعاً وواقعياً، ثم أنه أدخل منهج التحليل النفسي في كتابة المذكرات وكذلك في الأدب.

أما مذكرات الساسة الغربيين، فإنها تُأريخ للأحداث بحرية تامة، ومن الواضح أن المذكرات تكتب لتقييم الماضي بعد أن ينقطع الأمل في المستقبل، خذا على الجانب الأول.

على الجانب الثاني، هناك مذكرات كثيرة شخصية كتبها مؤرخون وغيرهم، وكانت تهدف إلى بيان الخلل في المجال الذي يعمل فيه، مثل مذكرات أستاذ التاريخ “مشيناها خطى كتبت علينا”، وواضح من العنوان أن حياة كاتبها كانت قدراً مقدوراً ولم يكن لارادته دور في الأحداث.

وعلى الجانب الثالث، إن مذكرات الساسة الإسرائيليين كانت كلها كشفاً لجوانب المشروع الصهيوني، وسوف نقدم تحليلاً لكل هذه المذكرات في مقالة لاحقة نظراً لخطورتها في رواية الأحداث وأهمها محطات المشروع الصهيوني، وسبب أهتمامي بها ما تضمنته من أطماع إسرائيلية في سيناء وروايتها لأحداث المواجهات والمعهدات بين إسرائيل، من ناحية، ومصر وفلسطين والأردن، من ناحية أخرى. كما أن الاقتراحات الواردة في مذكرات شمعون بريز حول “الشرق الأوسط الكبير” لا تزال تنفذ حتى الآن، وسوف تقضي على عروبة العرب لأن الشرق الأوسط كان مفهوماً جغرافياً ثم أصبح مفهوماً صهيونياً لائيماً يُسقط القضية الفلسطينية وينسجم مع “صفقة القرن” الأمريكية – الإسرائيلية، ثم يستأنف الدول العربية لكي يقضي على النظام العربي ويطوعه لخدمة إسرائيل، بتمكين من واشنطن. هذا الكتاب، ليس مجرد تصوّر وإنما هو برنامج وخطة عمل شأنه شأن كتاب الدولة اليهودية الذي نشره ثيودور هرتزل وعرضه في المؤتمر الصهيوني الأول بإعتباره برنامج المشروع الصهيوني الذي نفّذ فيما بعد على مراحل. وإذا قدر بنيامين نتنياهو أن يكتب مذكراته، فسوف يوضح نظريته بأن قوة إسرائيل الخارقة وسحق الدول العربية واستئناس الحكام العرب هي أكبر ضمانة لاستكمال المشروع الصهيوني، واستقدام مزيد من اليهود إلى فلسطين ليحلوا محل أهلها.

معنى ذلك أن مذكرات الساسة الإسرائيليين هي برامج عمل وتختلف اختلافاً جذرياً عن المذكرات السياسية والشخصية الأخرى، وقد جرت العادة أن يوضح صاحب المذكرات بعض الأحداث التي تخدم المشروع الصهيوني مثل مذكرات آرييل شارون – التي صدرت باللغة العربية في بيروت العام 1990 وقدمنا لها تحليلاً مع مذكرات ألبرت أينشتاين في كتاب بهذا المعنى صدر في القاهرة العام 2003. وسوف نخصص مقالات متعددة في تحليل مواقف الساسة الإسرائيليين وتصوراتهم التي تتعلق بمصر والمنطقة العربية، وأهمها أنهم مجمعون على أسس المشروع الصهيوني وأنهم جميعاً أكدوا بأن الدكتاتورية العربية وشعاراتها الجوفاء كانت “فرصة ذهبية” لتقدم المشروع الصهيوني، وسوف نورد في المقالات اللاحقة مقتبسات من هذه المذكرات التي جمعنها تمهيداً لتحليلها.

من جهتي، إنني أشجع كل من كان طرفاً في أحداث هامة – سواء فاعلاً فيها أو شاهداً عليها – أن يكتب للتاريخ هذه الحقائق، وسوف أحاول أن أسجل تجربتي في هذا المجال فيما بعد، ولكن الأحداث التي عصرتها مؤخراً لا تتأثر روايتها بشكل كامل لأن الرواية تحتاج إلى توفيق وثانياً تحتاج إلى حرية وثالثاً تحتاج إلى اختفاء الأشخاص الأساسية الصانعة في هذه الأحداث لأن اختفاءها بعنى أن الحدث قد انتهى ولن يضيف إليه صاحبه شئ، فلا يمكن التأريخ لأحداث جارية لأن السياسة تختلط بالتاريخ؛ في هذه الحالة، إن التاريخ هو سياسة الماضي، وأما السياسة فهي تاريخ الحاضر؛ لذا، يجب أن نفصل بين كل من السياسة والتاريخ.

مصدر الصورة: العربية.

موضوع ذا صلة: الحكّام العرب أمام محكمة التاريخ: ملاحظات عامة

موضوع ذا صلة: المحاكمة الأولى: اللواء محمد نجيب

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر