د. عبدالله الأشعل*
كان محمد حسنين هيكل ظاهرة لها بصماتها على الإعلام المصري، وكذلك على الحياة السياسية فيها حيث كان “معلماً” لكل حكام مصر بحكم تكوينهم العسكري وضعف ثقافتهم السياسية، ولعل أبرز مثال على ذلك هو تجمع “عبد الناصر – هيكل” الذي شكل إنموذجاً للإعجاب المتبادل والتأثير الطاغي.
لا شك أن الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، كان معجباً بهيكل والعكس صحيح، إلا أن الأخير إستطاع التخلص ممن يصرفون الرئيس عبد الناصر عنه. أذكر أن مقال الجمعة في الأهرام “بصراحة” كان مصدراً للوعي السياسي لجيل كامل، بل إن هذا المقال كان يرسل برقياً للسفارات المصرية بالخارج، كما شكل موضع تحليل للبعثات الأجنبية في مصر.
حاز هيكل على أرشيف كامل لوزارة الخارجية والرئاسة، إذ كان له نفوذ طاغٍ. كما صاغ هيكل كل أحداث مصر، منذ العام 1954 حتى وفاة الرئيس عبد الناصر. أيضاً، قام الرئيس الراحل، أنور السادات، بالتعاون معه؛ وعلى الرغم من تعيينه وزيراً للإعلام، إنتهى الأمر به في السجن ضمن آلاف ممن زج بهم السادات قبيل وفاته بأسابيع خصوصاً وأن هيكل كان يعلم عقدة الرئيس السادات من الرئيس عبد الناصر.
لقد أطال الله في عمر هيكل لكنه لم يراجع نفسه ودوره في تعزيز الإستبداد وتبريره، فهو قطعاً يعلم ظروف حركة الضباط الشبان وعلاقتهم بالإنجليز والأمريكيين، ويعلم أن الإجراءات البريطانية والأمريكية هي التي رتبت لرحيل الملك فاروق وتولي هؤلاء الضباط، وهو العليم بتعقيدات الأحداث والأوضاع. وكان بوسعه أن يفعل شيئاً لتوقي كارثة 1967، لكنه تمسك بموقفه وإمتيازاته مفضلاً إياها على مصالح الوطن.
يمكن القول بأن هيكل قدم مجموعة من المبررات لنظرية “شرعية الحاكم العسكري” رغم مظاهر فشل تلك الظاهرة. فقد أسند شرعية الرئيس عبد الناصر إلى حركة الجيش، التي حمل فيها الضباط أرواحهم على أكفهم فى سبيل تخليص مصر من الطبقية والإقطاع والرأسمالية والإستعمار، فكان الوصول إلى سدة الحكم هو مكافأة لهم على تضحياتهم فى سبيل الوطن. وبعد توليه للحكم رغماً عن هيكل، تخلص الرئيس السادات من أنصار الرئيس عبد الناصر فيما عرف بـ “ثورة التصحيح” التي أعقبها “الثورة الخضراء” ثم “ثورة الإنفتاح”، وهذا في ظنه يكفي لكي يستمر الرئيس السادات في السلطة.
ثم جاءت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وكان الرئيس السادات يحاول إيجاد “هيكل جديد” وهو أنيس منصور. رداً على ذلك، كتب هيكل حينها مقالاً من شأن الحرب كي لا تضفي قدسية على الرئيس السادات، وردد مع بعض الناصريين بأن الرئيس عبد الناصر سبق وأن خطط ومهد لها منذ “حرب الإستنزاف” معتبراً الأخيرة أهم من الحرب، حيث تحولت البلاد بعدها بسنوات من “مصر الناصرية” إلى الغرب وإسرائيل وإسقاط شعارات الإستعمار والعروبة. كما هاجم “كامب ديفيد” كيداً بالرئيس السادات وليس عن قناعة إستراتيجية منه.
وإذا كان أنصار الرئيس السادات قد اعتبروا أن التخلص من رجال عبد الناصر وإرثه أساساً لشرعية حكمه، فإن هيكل لم يجادل في أن كلا الرئيسين إستخدما الإنتخابات المزورة وسيلة للحديث بإسم الشعب الذي لم يكن له مكان عندهما.
أما فيما شرعية حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، فلم تكن الإنتخابات المزورة، التي كان يفخر بها الرئيس مبارك وبعبقرية في تزويرها، أساساً للشرعية وإنما كانت شرعيته قائمة على أنه صاحب الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر/تشرين الأول، حيث إعتبر الرئيس السادات أن هذا الجيل هو “جيل أكتوبر” والعابر من الهزيمة إلى النصر.
لكن يبدو أن شرعية حكم الرئيس مبارك لم تغطي سوى ثلاثة عقود من حكمه، فثار الشعب عليه وعلى الحكم العسكري كله وما يمثله. فسر هيكل ذلك على أنه “نكاية” بالرئيس مبارك وإنحاز إلى المجلس العسكري، ولكنه لم يعترف بالإنتخابات كأساس لشرعية “الإخوان المسلمين” وظل على عدائه لهم حتى سمى حركة الجيش، التي أنهت حكم الإخوان، بإنها ضرورة وأن المشير عبد الفتاح السيسي هو “رئيس الضرورة”، بقطع النظر عن الانتخابات التى جرت في يناير/كانون الثاني 2014.
لقد بسط هيكل نظرياته ضمن كتبه الكثيرة وأحاديثه مع الإعلامية لميس الحديدي وعنوانها “مصر أين وإلى أين”. كما ترك عدداً من المصطلحات في الثقافة السياسية المصرية والتي تكرس الحكم الإستبدادي، وأبرزها أن “حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن”، على غرار تسميته لكارثة 1967 بأنها مجرد نكسة، وأن مصر إنتصرت بدليل بقاء الرئيس عبد الناصر تماماً كما أعتبر أن مصر قد انتصرت، العام 1956، بفشل مخطط إسقاط الرئيس حيث كان بقاؤه معيار نجاح مصر وانتصارها، إذ كان رأيه أن حرب 1967 هي مجرد معركة في حرب طويلة، وأن بقاء الزعيم هو ضمان النصر في معارك قادمة.
أيضاً، أدخل هيكل مصطلحات جديدة مثل “الزعيم” و”القائد” و”الزعيم التاريخي” و”الشخصية الكارزميية” و”الخطاب التاريخي” و”القائد الملهم”.
تلك بعض التأملات في دور “فليسوف الإستبداد” الذي بدد الوعي الصحيح وكرس عباده الزعيم وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسات أعمق وأشمل، فقد شغل هيكل مصر والمنطقة لأكثر من ستة عقود.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: مخاطر إسرائيل على مصر بعد إختراقها للعرب