مارك تشامبيون*

السنة الماضية، أثناء الإبحار عبر مضيق البوسفور الذي يفصل أوروبا عن آسيا، حيّا أسطول تركي ضريح بربروس، القرصان وأدميرال للبحرية العثمانية في القرن السادس عشر، لإحياء تقليد يعود إلى عهد الإمبراطورية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط.

على الصعيد الدولي، لم يلاحظ الكثيرون هذه الحركة ويبدو الآن أن التكريم الذي قام به البحارة العائدون من أكبر تدريب بحري في البلاد مشحونا بالرمزية. بينما تعيد تركيا بناء قوتها البحرية وتتنافس على المياه المتنازع عليها، فإنها تدخل مرة أخرى في صراع مع أعدائها الغرب التاريخيين.

تركز الاهتمام الدولي على السباق على رواسب الغاز الطبيعي البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط الذي دفع ليس فقط تركيا، ولكن أيضا قبرص ومصر واليونان وإسرائيل للمطالبة بحقوقهم في أحد أكثر البحار ازدحامًا في العالم. غير أن جذور التوترات أعمق من ذلك.

يكشف نمو البحرية عن حجم طموح الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي غالبا ما لا يلقى ترحيبا خارج تركيا، لتأكيد مصالح أمته كقوة إقليمية إسلامية على وجه الخصوص، قادرة على التعامل مع أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.

ساعدت البحرية المدعومة بالسفن السطحية والغواصات الجديدة المنتجة محليا أردوغان على نشر القوة في الخارج مع نجاح فاجأ وأقلق الدول الساحلية الأخرى. وهناك فرقاطات أكبر في طور الإعداد، ومن المقرر إنشاء حاملة الطائرات الخفيفة تزن 27 ألف طن بحلول السنة المقبلة.

حيال هذا الشأن، قال ريان جينجيراس، أستاذ في قسم شؤون الأمن القومي في البحرية في كلية الدراسات العليا بكاليفورنيا، ومتخصص في الشؤون البحرية التركية، إن “هناك مجموعة من القضايا الأكثر إثارة للانفعالات، ويجب قبول فكرة أن تركيا هي القوة الأعظم في شرق البحر الأبيض المتوسط والتعامل معها على هذا الأساس. إنها ترى نفسها محاطة بمنافسين وأعداء وستستخدم القوة لإثبات نفسها، لأنها تستطيع فعل ذلك”.

يُعتبر الازدهار حول أحواض بناء السفن البحرية التركية جزء من توسع صناعة الأسلحة المحلية، من السفن الحربية إلى المروحيات الهجومية إلى الطائرات المسلحة بدون طيار، بهدف الحصول على ما يسميه المسؤولون الأتراك “الاستقلال الاستراتيجي” عن الموردين الغربيين، الذين يُنظر إليهم الآن على أنهم منافسون أكثر من شركاء.

حدد أردوغان هدفا بحلول سنة 2023، التي توافق الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية، يتمثل في عرض تركيا جميع أسلحتها الخاصة. لكن من غير المرجح أن يتحقق هذا الهدف لأن هناك شكوك حول ما إذا كان الاقتصاد المضطرب بقيمة 750 مليار دولار يمكنه الحفاظ على طموحات أردوغان العظمى لاكتساب القوة في الوضع الراهن. كما يهدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على أنشطة تركيا في المنطقة.

مع ذلك، شق الجيش التركي طريقه إلى شمال سوريا، ليضمن مقعدا على طاولة التطورات الجادة هناك. أما في ليبيا، ساعدت السفن الحربية التركية في إمداد ودعم الحكومة المحاصرة في طرابلس، وقلبت موازين الحرب الأهلية لصالحها. كما تقوم الأساطيل البحرية التركية الآن بمرافقة سفن الأبحاث الزلزالية إلى المياه التي تطالب بها اليونان وقبرص أثناء استكشافها للغاز بشكل روتيني. في الشهر الماضي، نتج عن ذلك تصادم مع سفينة تابعة للبحرية اليونانية، حيث بلغت العداوة بين العضوين في الناتو أعلى مستوياتها منذ مواجهة سنة 1996 حول جزيرتين مهجورتين في بحر إيجه التي كادت أن تتسبب في اندلاع حرب بين الطرفين.

في خطاب ألقاه في 26 آب/ أغسطس لإحياء ذكرى معركة ملاذكرد التي خاضها السلاجقة الأتراك سنة 1071، قال أردوغان إن ” تركيا ستحصل على نصيبها العادل في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود. عندما نقول إننا سنفعل شيئا، نفعله، مهما كان الثمن”، كما تحدى أي دولة تتجرأ على الوقوف أمام طريقه.

بعد بضعة أيام، حقق أردوغان انتصارا عسكريا آخر على اليونان منذ سنة 1922، من خلال الاحتفال بإنتاج أول صاروخ كروز تركي يتم إطلاقه من السفن، بالإضافة إلى “تجارب الفضاء” لصاروخ ذو وقود سائل. ويوم السبت، بدا وكأنه يهدد اليونان بشكل مباشر، محذرا من أنها ستعاني “في الميدان” إذا لم تتوصل إلى تسوية دبلوماسية.

لكن من غير الواضح على وجه التحديد إلى أي مدى سيتم التعامل مع حديّة أردوغان. وفي مقابلة حديثة مع وكالة “بلومبيرغ نيوز”، قال المتحدث باسم أردوغان ومستشاره، إبراهيم كالين، إن تركيا تهدف إلى الضغط على الشركاء المتوسطيين للنظر والتفاوض بشأن المصالح التركية في المنطقة التي كانت موضع تجاهل لفترة طويلة.

من جهة أخرى، قالت اليونان إنه يجب أخذ الجزر بعين الاعتبار عند ترسيم الجرف القاري لأي بلد، بما يتماشى مع قانون الأمم المتحدة للبحار، الذي لم توقع عليه تركيا. وتزعم أنقرة أن الجرف القاري لأي دولة لابد وأن يقاس من البر الرئيسي للبلاد. وقد عرض كلا الجانبين الاجتماع لإجراء محادثات، على الرغم من أن احتمالات حدوث ذلك في أي وقت قريب ضئيلة للغاية. في الواقع، يحظى النهج القوي الذي تتبناه تركيا باهتمام كبير من قبل قوى البحر الأبيض المتوسط الأخرى، ولكنه ترك الدولة التي يبلغ عدد سكانها 83 مليون نسمة تبدو معزولة.

في الأسبوع الماضي، أعرب موقع إلكتروني تابع للبحرية التركية عن قلقه إزاء الخطط الروسية لإجراء مناورات بالذخيرة الحية في البحر الأبيض المتوسط في وقت لاحق من هذا الشهر. كما رفعت الولايات المتحدة جزئيا حظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ عقود، والتي قُسمت منذ أن غزت تركيا الشمال في سنة 1974 ظاهريا لحماية الأتراك العرقيين. وفي استعراض للقوة، حلقت طائرات رافال ذات الطاقة العالية التابعة لفرنسا لفترة وجيزة إلى قاعدة جوية على الجانب الناطق باليونانية من الجزيرة.

المطالبات المتنافسة على شرق البحر الأبيض المتوسط

يتمتع النهج القومي الذي يتبناه أردوغان بجاذبية سياسية واسعة، في دولة مستقطبة بين مؤيدي نزعته المحافظة الدينية وبين النزعة العلمانية التي روج لها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. من جهته، قال جيم جوردينيز، الأميرال المتقاعد والمدير السابق للتخطيط السياسي للبحرية التركية: “أنا كمالي، وأعارض تماما توظيف الإسلام في السياسة”. ومع ذلك، فهو يشارك أردوغان في اعتقاده بأن المصالح الأساسية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية تتعارض حاليا مع مصالح تركيا.

في سنة 2006، أنتج جوردينيز فكرة “الوطن الأزرق” التوسعي في المياه المحيطة بتركيا، والتي تبنتها الدولة التركية منذ ذلك الحين. ويصف جوردينيز هذه الرؤية بأنها دعوة للدفاع عن حقوق تركيا البحرية، والتي جاءت ردا على موقف اليونان. كما سخر من فكرة أن الجزر البحرية لا بد أن تحل محل مطالبات البر الرئيسي لما يصل إلى 150 ألف كيلومتر مربع (58 ألف ميل مربع) من الجرف القاري.

بالإضافة إلى ذلك، أوضح جوردينيز أن “طريقة تفكيرهم بسيطة للغاية: لقد غادرنا الأناضول بعد الهزيمة التي لحقت بنا في سنة 1923، لكننا حافظنا على بحر إيجة. إنهم يعتقدون أن الأتراك شعب الأرض، لذلك يمكنهم أخذ ما يريدون في البحر. لكن لا، لقد تغيرت الأمور”.

بناء على خطط البناء الحالية، من المتوقع أن تتفوق البحرية التركية قريبًا على منافستها اليونانية الرئيسية، التي لطالما اعتُبرت القوة الأقوى في البحر. وقد قال متحدث باسم البحرية اليونانية إن وزارة الدفاع والبحرية لن تعلق على هذا المقال.

لا شيء من هذا يجعل الحرب بين البلدين أمرا حتميا أو حتى محتملا، لكن مخاطر التصعيد تتصاعد، وذلك وفقا لهوغو ديسيس، محلل أبحاث يركز على الشؤون البحرية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث أمني يقع في لندن.

علاوة على ذلك، قال ديسيس: “ما يجب أن نقلق بشأنه حقًا هو تطوير ديناميكية الأمر الواقع، حيث بدأت تركيا في اتباع نفس الخطوات التي اتبعتها الصين”، وذلك في إشارة إلى عسكرة الأجراف القارية المستصلحة في بحر الصين الجنوبي.

كانت التدريبات البحرية الضخمة التي جرت السنة الماضية تسمى بحد ذاتها “الوطن الأزرق”. ومع تكريم الأسطول لبربروسا، كان من الممكن أن يعكس عدد قليل من الشخصيات الصدع المتنامي في المفاهيم القائمة بين تركيا والغرب.

ومع أن صيته في أوروبا كان كتاجر رقيق دمر السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، إلا أن خير الدين بربروس باشا كان يحظى بقدر عظيم من الاحترام والتبجيل في وطنه باعتباره قائدا بحريا لامعا تمكّن في سنة 1538 من هزيمة أسطول مشترك من القوى المسيحية. وفي فترة ثلاثة عقود وجيزة، حول البحر إلى بحيرة عثمانية. وفيما يتعلق بمطالب تركيا في البحر الأبيض المتوسط، قال جوردينيز إن “هذه القضية لا تتعلق بالسياسة الداخلية لتركيا. وإنما هي نزاعات لن تضمحل حتى لو تغيرت الحكومة”.

*مراسل.

المصدر: بلومبرغ.

ترجمة: نون بوست.

مصدر الصور: نون بوست.

موضوع ذا صلة: أزمة شرق المتوسط.. تصعيد سياسي أم تلويح عسكري؟!