سمر رضوان*

أخذت الأزمة الليبية منعطفاً تصاعدياً بدأ يحدد الأدوار الدولية والإقليمية المنخرطة فيه؛ فمن جهة أولى، أصبح التدخل الدولي علنياً بعد أن كان ينادي بالحل السياسي. ومن جهة ثانية، تكشفت أدوار بعض الدول الإقليمية، خاصة الجارة لليبيا التي لا حول لها ولا قوة، بالرغم من الخطر الكبير على أمنهم القومي.

خطأ إستراتيجي

إعتقد البعض، في بداية “الربيع العربي”، أن سوريا أخذت الزخم الأكبر من الإهتمام الدولي خاصة مع يقينهم بالقدرة على إسقاط نظامها بالقوة، أسوة بما حدث في مصر وتونس وليبيا، فكان الإهتمام منصب عليها على كافة الأصعدة. فيما يبدو أن المكائد الدولية تفعل فعلها لكن بهدوء أو على الأقل عبر تقسيم أدوار خفية تركز بتهيئة الأرضية المناسبة وتعيين الأشخاص المناسبين حتى يحين دور الدول الأخرى؛ لكن مع تعقيدات المشهد السوري وتشعباته ومده وجزره ودخول روسيا على خط مكافحة الإرهاب، تمت عرقلة تلك المخططات. من هنا، بدأت الحرب الفعلية، فالدور الروسي كان حاضراً في أغلب دول الشرق الأوسط، سلباً أو إيجاباً. فإذا كان موقفها مسألة إستهداف ليبيا، العام 2011 وإسقاط نظام الرئيس الراحل، معمر القذافي، خطأً إستراتيجياً، إن لم نقل “غدراً” دولياً، فقد تم تعويضه بسوريا، وبالتالي أصبح الدرب ممهد أمامها لتصحيحه في ليبيا.

لا يخفى على أحد أن كل أطراف الصراع في ليبيا تخضع لإرادات سياسية معينة ولها مصالحها، إقتصادية في المقام الأول، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى تحليلات أو فرضيات. فلقد أسس الرئيس القذافي بنية إقتصادية قوية، من خلال الإتحاد الإفريقي وإتحاد “دول الساحل والصحراء”، ليصبح ملك القارة الأفريقية بالمعنى المجازي. من هنا، أخذت روسيا دور “المصلح” و”المعاقب”، في آنٍ معاً، لإعادة برمجة التوازنات الدولية، التي بدأت من سوريا وستنتهي في الشمال الأفريقي.

دور خجول

عندما تنحرف الثورات، أياً كانت جنسيتها، وتخرج عن طابعها ومسارها السلمي يتبين حجم المؤامرة المُحاكة ضد البلاد التي خرجت منها. فبعضها أخذ أبعاداً مذهبية وبعض منها إقتصادياً، وبعض آخر إتخذ شكلاً إرهابياً نمى الحركات الجهادية، فبرزت السلفية والوهابية والإخوانية حيث إنخرطت بتلك الثورات ضمن إطار “العمل المسلح”، وإتجاه العقائد الدينية لتكون ديانات إسلاموية متطرفة، كإنبثاق تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” و”القاعدة” و”بوكوحرام” وغيرهم من الحركات التي رأت في تلك الثورات فرصة للإنطلاق وتخريب الدول من قاعدة نشر الإرهاب، طبعاً بتحريك من أجهزة المخابرات الغربية وهذا أمر واضح وجلي. فحتى الآن، لم تتخلص سوريا والعراق ومصر وليبيا وبعض الدول الأفريقية من هذه المفرزات، بل إنها تشتد تبعاً لأهمية الدول التي تعمل وتنشط فيها.

كذلك الأمر، برز الإسلام السياسي كمكون أساس في مفاصل الحكم، لا بل وصل البعض منهم إلى سدة الرئاسة كالرئيس المصري السابق، محمد مرسي، ورئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي. وفي ليبيا أيضاً، بدا جلياً أن حكومة “الوفاق” تعد من ضمن قائمة هذا التصنيف نفسها، وبنت تحالفاتها مع الدول ذات الطابع الإخواني، كتحالفها مع تركيا، ليشتد الإقتتال بين أطراف الصراع الليبي من منطلق الحرب الإسلامية المتشددة، ويشكل وجود هذه التنظيمات حجة إستعملها التحالف الدولي للتدخل ويضرب أهداف متعددة، الأمر الذي شكل خطراً كبيراً على الجوار الليبي، كمصر والجزائر وتونس وبعض الدول الأفريقية التي شهدت حركة نزوح كبيرة إليها، ما يعني أن دائرة الخطر قد توسعت ولم يعد أي منها بمنأى عنه.

وعند النظر إلى هذه المخاطر، نلاحظ إقتصار دور تلك الدول على الوقوف في وجه الإرهاب نظرياً، إما خوفاً من مصير مشابه لليبيا أو أصبح المشهد العربي مشهداً يتغنى بالأخوة العربية من الباب النظري لا التطبيقي على قاعدة “لا حياة لمن تنادي”. فإجتماع الرئيسين الجزائري والتونسي مع القيادات التركية يعد خير دليل على أنهم يريدون إقتصار دورهم في حدوده الدنيا، تاركين الأوضاع تأخذ مجراها بحسب التدخلات الخارجية وسط ضبابية عامة في مواقفهم تجاه شقيقتهم المنكوبة.

محاولات للضبط

مع التباينات العربية تجاه الأزمة الليبية وحتى السورية، نرى إنقساماً إلى معسكرين، معسكر يؤيد إسقاط النظام وآخر يدعم صمود النظام. ومع الخلاف الخليجي – الخليجي بين قطر وشقيقاتها، برز دور دولة الإمارات ومصر وحتى السعودية، ولو بشكل غير معلن، كون العالم الإسلامي يحتاج إلى قيادة وقيادته في الرياض لا في أنقرة. لذلك، حاولت تلك الدول دعم قوات شرق ليبيا، لأن النموذج الإخواني غير مستساغ في أروقتهم، لدواعي خاصة بهم وتجارب هم أدرى بها، فبات التدخل التركي في شؤون دول الشرق الأوسط، تدخلاً “سافراً” وغير مقبول وصل إلى درجة الإحتلال؛ فليبيا ليست دولة جارة لتركيا ولا يربطها أي شيء بها سوى الأطماع الخارجية بثروات هذا البلد، وهذا تعيه القاهرة وأبو ظبي جيداً، وخير مثال على ذلك التقارب الإماراتي – السوري مؤخراً، وإن كان يصب في مصلحة سوريا لكنه أيضاً رسالة مباشرة وواضحة لتركيا.

لقد إنتهجت أنقرة سياسة الإنخراط مع حكومة الوفاق عبر دعمها، وتترجمت في الإتفاقية البحرية والأمنية التي اعتبرتها اليونان إنتهاكاً لحدود الجرف القاري لجزيرة كريت. في المقابل، ردت أنقرة أن الإتفاقية تحترم القانون الدولي، ومصدر هذا الرد يعود إلى منح الغرب الشرعية لحكومة الوفاق، مستغلين هذا الأمر لتقويض كل مساعي قوات شرق ليبيا والأطراف الداعمة لها.

تضييق التمدد الروسي

مع زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الأخيرة إلى سوريا وإعلانه منها بداية الحل السياسي، أكد خلالها أن المعارك القادمة في المناطق المتبقية من الأراضي السورية لن تكون بزخم العام 2015 – 2019 مع بداية دخول روسيا الرسمي. بذلك، تكون موسكو قد تفرغت للساحة الليبية إذ أنها سبق لها وأن جمعت، في أكثر من مناسبة، أطراف الصراع في محاولة لعقد هدنة بطريقة أو بأخرى مشابهة للحالة السورية، نظراً لعلاقتها الوثيقة مع تركيا في الملف السوري، ومن الممكن الإستفادة من ذلك في ليبيا أيضاً. حينها، كان هناك بوادر ممكنة لتحقيق بعض التوازن، إلا أن الغرب ضغط على حكومة الوفاق ففشلت تلك المساعي وعادت الأوضاع إلى المربع الأول.

ولمنع التمدد الروسي “المقلق” بعد النجاحات التي حققتها في سوريا، خرج الغرب بسيناريوهات كثيرة حاولوا فيها منع روسيا من تأدية الدور الريادي لدولة عظمى، في محاولة لإخراجها من المشهد ككل، فجاء إتهام الأمم المتحدة بأن موسكو ترسل قوات ومقاتلين من شركة “فاغنر” للقتال في ليبيا بصورة غير شرعية، في هذا التقرير الذي وصفته الأمم المتحدة بـ “السري” والمؤلف من 46 صفحة، لتخرج بعد وقت قصير جداً قيادة القوات العاملة في أفريقيا “أفريكوم” بإتهام موسكو بإرسال مقاتلات حربية من طراز “ميغ – 29” و “سو – 35″، الأمر الذي نفته الأخيرة ونفاه المتحدث بإسم القوات المسلحة الليبية، أحمد المسماري، معللاً بأن الطائرات الروسية كانت موجودة منذ زمن الرئيس القذافي وتم إصلاحها مؤخراً.

وهذه الإتهامات ضد روسيا لم تثبت صحتها، خاصة وأن قوات “أفريكوم” ذكرت أن تلك الطائرات حلقت من سوريا بعد أن تم طلائها، فبالأمس تحديداً أعلن مصدر عسكري سوري تسلم الجيش الدفعة الثانية من مقاتلات “ميغ – 29” المحدثة، ليتم ضحد رواية الغرب الذي يحاول إخراج روسيا من الملف الليبي بذرائع متعددة.

لكن الأمر المؤكد هو أن روسيا لن تخرج من هذا الصراع، ولن تترك الساحة للقوى الغربية خاصة وأن هناك معلومات تتحدث عن أن سحب الولايات المتحدة لقواتها من أفريقيا لا يعني التخلي عنها لا بل قد تعود إليها وبزخم أكثر إذا ما إقتضت المصلحة ذلك.

أخيراً، إن الحديث عن هذا الملف واسع جداً، ففيه الكثير من النواحي، كالطاقة التي تصيدتها تركيا ظاهرياً بضوء اخضر أمريكي، وفيه برز الخلاف اليوناني – التركي، حيث من الممكن توقع حرب قادمة بين الطرفين، والتركي – المصري، والتركي – الإماراتي، ما يعني خروج جملة من الملفات. لكن الأمر الأكثر تأكيداً هو أن روسيا متنبهة جيداً إلى الدور الغربي الخطير في ليبيا والقارة السمراء ككل، إضافة إلى وعيها بخطورة التمدد التركي. من هنا، يمكن القول بأن هدوءها الحالي سينتهي مع ترتيب البيت الداخلي السوري، لتبدأ بعدها منح الشرعية لقوات شرق ليبيا ما يعني دخولها كطرف أساسي بطلب من المشير خليفة حفتر في المستقبل القريب.

*المدير التنفيذي في مركز سيتا.

مصدر الصور: إرم نيوز – روسيا اليوم.

موضوع ذا صلة: طرابلسي: تركيا تريد إقامة مستوطنات في ليبيا