د. عبدالله الأشعل*
دخل لبنان فى دوامات متعددة عبر تاريخه، ولكن اللبناني ظل لبنانياً وعروبياً بقطع النظر عن الطائفة التي ينتمي إليها ومواقفها السياسية الطارئة. وأعالج في هذه المقالة موضوعاً يخص اللبنانيين وحدهم ولكنه أيضاً يخص العالم العربي، ولذلك أرجو ألا يعتبرني اللبنانيون متطفلاً على قضية تخصهم وتمس حياتهم وهي حياد لبنان ذلك أنه يعاني من مشاكل متعددة حيث رأى البعض أن هذه المشاكل سببها عدم حياد لبنان خاصة لجهة الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي إنتهت مظاهره عند الحكومات ولكن عداء الشعوب للغاصب الكيان الإسرائيلي سوف يستمر ويزداد مع زيادة المجاهرة بغصب الحقوق الفلسطينية.
للموضوع مداخل متعددة، لكن يجب أن نشير إلى أن موضوع حياد لبنان ظهر أول مرة منذ ما يسمى خطأً بالحرب العربية – الإسرائيلية الأولى وهي في الواقع ليست حرباً لا إسرائيلية ولا عربية، وإنما محاولات عربية لمنع إغتصاب فلسطين من جانب المنظمات اليهودية الإرهابية التي أصبح قادتها زعماء سياسيين لإسرائيل؛ فخصوصيتها كونها “سرطاناً” يهدد الجسد العربي، يفرض الطريقة التي نرتكز إليها في معالجة قضية حياد لبنان.
في العام 1948، حوصر الجيش المصري في مدينة الفلوجا الفلسطينية بعد إعلان القاهرة، وإبلاغ مجلس الأمن، إرسالها قوات نظامية لإنقاذ الفلسطينيين من العصابات الصهيونية، وهذا الموقف الذي أسس لما سُمي فيما بعد بـ “الصراع العربي – الإسرائيلي. لقد كانت مصر البادئة في توقيع إتفاقية الهدنة لتفك حصار الفلوجا وأعقبها كل من لبنان وسوريا، ولكن العراق، الذي اشترك في الحملة العربية، لم يوقع.
في الواقع، إسرائيل هي من إعتدت على مصر ولبنان وسوريا والأردن والعراق وتونس، وتآمرت على كل العرق العربي. ولكن الأدبيات الإسرائيلية تستخدم لوصف هذا العدوان مصطلحاً وهمياً هو الحروب العربية – الإسرائيلية. أيضاً تعتبر إسرائيل أول تجسيد عملي للمشروع الصهيوني على الأرض وهدفه إلتهام فلسطين وتمزيق الجسد العربي، حيث أوهمت العالم، بداية، بأن المهاجرين من اليهود قد إعتصموا بكرم الضيافة الفلسطيني فراراً من الإضطهاد والتعسف في البلاد التي كانوا يقيمون فيها. كذلك، فسر اليهود قرار التقسيم بعكس ما فسره العرب؛ فقد إعتقدوا بأن اليهود يقتسمون فلسطين مع أهلها ليس حقاً وإنما إنسانية، وتوقعوا أن يرد اليهود الجميل بالإحسان للفلسطينيين. لذلك، كانت الدول الأوروبية تعيب على العرب عدم إنسانيتهم تجاه اليهود لأنها رفضت الإعتراف بقرار التقسيم.
أما اليهود، فلقد فسروا القرار منذ البداية على أن فلسطين لهم وأنه لا بد من طرد أهلها الذين إغتصبوها منهم، وغيرها من الأكاذيب الصهيونية التي إنطلت على أجيال كثيرة من العرب ومن قادتهم. لكن المشكلة هي أن فلسطين تطلق على كل الأرض العربية، التي تضم فلسطين وإسرائيل والأردن وتجاور الشام الذي يضم سوريا ولبنان. ومعنى قيام إسرائيل في هذه المنطقة أن الأضرار الناجمة عن “السرطان” الصهيوني لا بد أن يصيب لبنان وسوريا ومصر أولاً. والحق أن لبنان الصغير إقليمياً، والذي لا تتجاوز مساحته عشرة ألاف ومئتين كلم(2) لكنه عظيم القدر في جذوره الحضارية القديمة والحديثة، ونموذجاً للديمقراطية في صحراء الدكتاتورية العربية، ومقصداً لكل الكتاب والمثقفين العرب والفنانين والسياحة العربية؛ لذلك، إزدهر لبنان حقيقة قبل أن يدخل طرفاً في الصراع مع إسرائيل.
في الستينات، أذكر أن لبنان كان مسرحاً كبيراً لمؤامرات الدول العربية فيما بينها، فتحمل المنازعات العربية بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي، كما تحمل عبئاً أكبر من حجمه بسبب الصراع مع إسرائيل. فلقد اختير لموقعه كي يكون مقراً للمقاومة الفلسطينية تقيم وتعمل من أراضيه، مما أدى إلى الإحتكاك بين الدولة اللبنانية والمقاومة حتى كان إتفاق القاهرة للعام 1969 هو الحل.
وفي العام 1970، نقلت المقاومة نشاطها إلى الأردن فحدثت مذبحة “أيلول الأسود”. للعلم، كانت المقاومة تشن عملياتها على إسرائيل من الأراضي اللبنانية والأردنية، إذ لم تسمح سوريا بتشكيل مقاومة عندها حتى لا تصطدم مباشرة بإسرائيل. هذا التواجد على الأراضي اللبنانية، كان الحجة التي إتخذتها إسرائيل من أجل إحتلال جنوب لبنان، ضمن ما عرف حينها بـ “عملية الليطاني” العام 1978. أدى هذا الأمر إلى إستقطاب عدد من اللبنانيين الناقمين على المقاومة، والذين سهلوا دخول إسرائيل العام 1982، كي يتخلصوا منها.
وبالفعل، كانت “كامب ديفيد”، العام 1979، رسالة إلى إسرائيل كي تتوسع في المنطقة العربية ضد المقاومة؛ ورغم بيانات الشجب الصورية من مصر، فقد ضربت إسرائيل، في يونيو/تموز العام 1981، المفاعل النووي العراقي، وفي يونيو/حزيران 1982، أي في ذكرى “يونيو المصرية” التي كانت بداية المأساة لعام 1967 أي بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، إحتلت إسرائيل لأول مرة بيروت. وفيما يبدو، كان هناك تواطؤ عربي، ولقد مهد هذا الإحتلال لنشأة حزب الله لمقاومة إسرائيل. لكن الأخيرة نجحت في طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان كجزء من مقابل الإنسحاب؛ فإذا كانت بيروت قد احتلت بتواطؤ عربي، فإن حزب الله قد حرر جنوب لبنان وساهم في تحرير بيروت بدعم من الثورة الإسلامية في إيران وهي التي تقدمت لتسد الفراغ العربي بعد خروج مصر، في صفقة “كامب ديفيد”، من دائرة الصراع.
إن استهداف إسرائيل للبنان كان دائماً لعوامل غير لبنانية. في المرة السابقة، كانت المقاومة الفلسطينية وفيما بعدها كانت محاولة للتصدي لحزب الله، الذي قرر بأن المواجهة الإستراتيجية معها تقتضي فتح مجالات الحركة إلى سوريا وغيرها ما دامت إسرائيل تحاول تطويق المقاومة.
قد يتصور البعض أن حياد لبنان سوف ينهي أطماع إسرائيل فيه، وأن مقترحات الحياد تستهدف أساساً فك الإشتباك بين حزب الله وبينها وبين السعودية وإيران في لبنان. فلقد كان الصراع عليه دائماً من بوابات إسلامية سُنية ومسيحًية، إذ لم يكن الشيعة جزءاً من هذه التركيبة حتى نشأ حزب الله. والسؤال هنا: ما هي المكاسب والخسائر المتصورة من حياد لبنان؟
الواقع أن لبنان جزء من الأمة العربية، وأن حياده يعني مباشرة إعادة تموضعه بالنسبة لهذه الأمة. فقد يقول قائل أن لبنان قبل المقاومة كان مزدهراً وصديقاً للجميع لكن ذيول الصراع مع إسرائيل هي التي جلبت الفلسطينيين كما جلبت إيران، من خلال حزب الله. لكنني أرى أن هذه القضايا يجب أن يتفق عليها اللبنانيون؛ إن أيدنا حياد لبنان، فنحن نؤيد طائفة من الطوائف، وأن عارضناه فنحن نعارض طائفة أخرى.
أيضاً، لا أظن أن إرتباط هذه الطوائف بالقوى اللبنانية والعربية وإعادة بناء مصالحها سيقدم حلاً سحرياً لهذه المعادلة، فالحياد يطرح العديد من المشاكل ولا ينقذ لبنان من إسرائيل، كما أن قوة حزب الله هي بديل عن قيام دولة لبنانية غير طائفية. لذلك، إن الحَراك اللبناني يصطدم مباشرة بالتركيبة الطائفية، وقد أيدته إسرائيل بسبب عدائها لحزب الله. من هنا، نجد أن إقتراح الحياد إرتبط بإرتفاع النبرة للمطالبة بنزع سلاح حزب الله، وهذا هو عين ما تتمناه إسرائيل. ولو كان هناك تضامن عربي، وأطراف تتمسك بالمصالح العربية العليا لكان هذا الموضوع محل بحث إحدى القمم العربية. ولكن، إن أية قمة عربية متأثرة بإتجاهات مختلفة ستمتنع عن بحث هذا الموضوع الشائك.
أخيراً، إنني أرجو أن يبحث عقلاء لبنان كل المقترحات بعقل مفتوح كي يتم تفادى إنزلاق البلاد إلى ما هو أسوأ، وألا وهو الحرب الأهلية مرة أخرى.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق.
مصدر الصور: العرب – الحرة.
موضوع ذا صلة: وهل الآخرون فكّروا بلبنان؟