علوان أمين الدين*
تلعب وسائل الاعلام، الغربية منها، دوراً مهماً في نقل الحدث، اذ تعرف جيداً ما قيمة هذا “السلاح” وكيفية استعماله واستغلاله بما يتلاءم مع مصالح الدول التي تقف وراء هذه الوسيلة ام تلك.
كلنا شاهد على ما يحدث في ميانمار، منذ فترة، وكيف صوَّر العالم الازمة بشكل يفوق اضعاف ما كان يحدث. في المقابل، لا يمكن لعاقل ان يقبل بقتل مدني واحد او حتى مقاتل اعزل. لكن، وللاسف، يبقى المدنيون وقوداً للحروب وسلعة تستغل فيها وبعدها.
ان استعمال عبارة “حقوق الانسان” بدأت تخفي وراءها مصالح دول، لا حقيقة وضع. الاغلب بات يعمل بأن استعمال هذه المقولة اصبح مبرراً لتدخل الدول الكبرى، بالتحديد، في اماكن لم تستطع التدخل فيها من قبل، او انها تريد ان استخدامها لمصالحها سواء بطريقة ايجابية ام سلبية.
ما يحدث في ميانمار هو نفسه الذي حدث في المشرق، لكن بنزعة مختلفة وليس تغيراً في الاداة ام الوسيلة على الاطلاق، وما سيحدث في دول آسيا الوسطى، قريباً، سيكون لنفس الغاية مع اعتماد الوسيلة ذاتها. الهدف اثنان: روسيا والصين. ان ديموغرافية البلدين تتكون من عدة عرقيات، واديان، واثنيات. وليس فقط الدولتين، بل ان كلاهما محاط بدول تحمل في ذاتها صاعق تفجيرها، لا سيما اذ ما رجعنا الى قبل العام 1947 وما حدث في الهند عندما انفصلت عنها باكستان على اساس ديني، ومن بعدها بنغلادش.
ليس هناك من مانع بأن يتكرر السيناريو نفسه من جديد، خصوصاً من تطور ادوات وسائل الاعلام، ونوعيه الاسلحة ذات القوة التدميرية الواسعة.
في هذا الشأن، سنقتصر الحديث على الصين دون روسيا، نظراً لانها تقع تحت المجهر الغربي، والاميركي بالتحديد، بعد نجاحها الاقتصادي الكبير واشارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب، بأن الصين ستسبق الولايات المتحدة للتربُّع على قمة الاقتصادات العالمية في العام 2020، ولذلك يجب ان تتوقف ام يتم توقيفها. في كلتا الحالتين النتيجة واحدة. هذا هو بالذات ما يحدث.
فبعد “استماتة” واشنطن لحصار بكين من الجهة البحرية، تسعى للعمل على اقفال منافذ “الحزام” الصيني، أي طريق الحرير البري، الذي يصل الشرق بالغرب، ولا سيما تلك التي تعتبر كـ “ممرات مزدوجة” برية – بحرية مثل الطريق السريع الذي يصل من الصين الى ميناء جوادار الباكستاني، حيث افلت الصين من مضيق ملقا الذي يسيطر عليه حلفاء واشنطن.
من هنا تأتي قصة ميانمار والصراع الحاصل على اقليم راخين (او راكين). هنا نعود الى مقدمة هذا البحث. اذا عدنا الى الوراء قليلاً، نرى الدعم الاميركي للمعارضة في ميانمار، من قبل الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، بزعامة أون سان سو تشي، والتي اصبحت رئيسة للبلاد لاحقاً، والتي حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 1991، حيث رأى الرئيس أوباما أن القانون الذي يمنع أونغ سان سوتشي من الترشح للرئاسة “غير منطقي”. وقال: “لا أفهم بنداً يمنع شخصاً من أن يصير رئيساً بسبب أبنائه. هذا غير منطقي بالنسبة الي.”
الى ذلك، وبعد التصريح بعد فرض عقوبات على ميانمار بسبب النزاع القائم بين البوذيين والمسلمين، عاد وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون وصرح بأن بلاده “تدرس فرض عقوبات على ميانمار بسبب أزمة الروهينغا” بعد ان كان رافضاً للموضوع، اذ صرَّح انه من المبكر الحديث عن عقوبات.
في المقابل، هناك رأي آخر يشير الى ان ارتباط الصين مع بورما هو “ارتباط وثيق؛ جغرافياً وتاريخياً وعرقياً واقتصادياً وثقافياً ودينياً، كما تعد بكين، بالإضافة إلى موسكو، المصدر الرئيس للدعم والحماية لبورما في المجتمع الدولي، كما تعد (بكين) الجهة الوحيدة التي يمكن أن تخفف عنها العقوبات الدولية، التي تُفرض عادة من جراء استخدام الحكومات العسكرية المتعاقبة في بورما للقوة المفرطة تجاه الجماعات العرقية والأقليات المسلمة، وممارسة القتل والتعذيب والتهجير بشكل ممنهج.”
غير انه بالنظر الى المصالح، وهي تعتبر مقياس العلاقات بين الدول اضافة الى حيثية الامن القومي، يمكن القول بأن لا مصلحة حقيقية للصين في اثارة النعرات على حدودها لا سيما وانها تريد المضي بمشروعها الاقتصادي، اضافة الى فك الحصار الكامل المنوي فرضه عليها، وهو الاهم بالنسبة لها.
وتأكيداً على ما سبق، يرى بعض المحللين بأن الصين “لا تخفي تأييدها لسلطات ميانمار التي ترى أنها تقوم بقمع تمرد مسلّح لا يمكن السكوت عنه، وهي بذلك تطبق المبادئ التي تعتمدها في علاقاتها مع الدول الأخرى، والتي تتمثل في التشديد على وحدة وسلامة أراضي أي دولة، ورفض أي تدخل خارجي في شؤونها، والتشديد على التفاوض لحل أي أزمة داخلية.”
وبالعودة الى خريطة اقليم راخين، يمكن القول بأنه يمثل حوالي ثلث الواجهة البحرية لميانمار على خليج البنغال، حيث تريد الصين ان يكون لها ممر مزدوج جديد، على غرار جوادار، في ميانمار اذ انه تم الحديث عن عرض كونسورتيوم، تقوده سيتيك جروب الصينية، للاستحواذ على حصة تتراوح بين 70 الى 85% ميناء كياوك بيو البالغة قيمته 7.3 مليار دولار، حيث اقتصرت المباحثات على المجموعة الصينية المملوكة للدولة وحكومة ميانمار المدنية.
خريطة ميناء كيوك بيو – مسار انابيب الطاقة ومحطات النفط والغاز
اضافة الى الميناء، تمتد انابيب ضخمة، ومحطات للغاز، تسمح لواردات الصين، من النفط الخام القادم من الشرق الأوسط، بـ “العبور إلى الصين بحوالي 400 ألف برميل نفط يومياً، بعيداً عن الطريق البحري المار عبر مضيق ملقا الواقع تحت سيطرة البحرية الأمريكية، والذي يمر عبره أكثر من 80% من واردات الصين من النفط والغاز. ويقلل الوقت بمقدار 30%، مما يعود بفائدة اقتصادية هائلة على الصين… وكذا خط سكة حديد عالية السرعة يربط ميناء كيوك بيو في ميانمار، بمدينة كونمينغ بمقاطعة يونان وسط الصين، بمسافة 1215 كلم.”
هنا يمكن معرفة السبب الاساس وراء الصراع في ميانمار، او على الاقل الجزء المهم منه. بجوار بورما، توجد بنغلادش. دولة اخرى على خط “الحزام” الصيني. هي الدولة التي دخلت في الازمة بطريقة غير مباشرة. فالروهينغا من المسلمين، وبنغلادش دولة مسلمة يجب عليها استقبال “الاخوة” في الدين. غير انه وعلى ما يبدو ان بنغلادش قد تطلعت الى الامر من منظار امنها القومي ايضاً، فأعلنت انها لم تعد قادرة على استقبال اعداد كبيرة من الفارين بإستثناء النساء والأطفال وكبار السن. بعدها، ابرمت اتفاقاً مع ميانمار تحدث عنه وزير خارجية بنغلادش وزير خارجية بنغلادش أبو الحسن محمود، في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، يتضمن عودة اللاجئين الروهينغا إلى بلادهم في غضون شهرين، على ان تتم العودة في الوقت المناسب.
في هذا الشأن، نشرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إحصائية مفصلة عن لاجئي الروهينغا في بنغلادش. وأكدت أن عدد اللاجئين الذين الموجودين في بنغلادش بنحو 622 ألفاً.
ولايضاح الفكرة اكثر، يجب ان نتحدث عن العلاقة، القريبة زمنياً، بين الصين وبنغلادش. في مؤتمر صحافي مشترك، اشاد وزير الخارجية الصيني وانغ يي بدور بنغلادش في الممرات الاقتصادية التي تريد بكين فتحها، حيث اعتبر بأن بلاده تعتز بالصداقة التقليدية مع بنغلادش وتولي اهمية كبيرة للعلاقات الثنائية اضافة الى اعتبارها “شريكاً طبيعياً ومهماً لانفتاح الصين غرباً” ، وانها مستعدة للحفاظ على زيارات رفيعة المستوى وتعميق التعاون العملي ودفع بناء الممر الاقتصادي بين بنغلادش والصين والهند وميانمار.
من هنا وبدراسة بسيطة، يمكن ان نعرف التوزيع الديمغرافي في بنغلادش والذي يضم اغلبية مسلمة تقدر بنحو 90% من عدد السكان، والهندوسية حوالي 8%، اضافة الى المسيحية 1%، والبوذية 1%. فما هو المانع من ان تنقلب الصورة؟ ان تصبح الاغلبية البوذية مضطهدة في بنغلادش من قبل المسلمين، خصوصاً وان للغرب، وواشنطن تحديداً، تاريخ في استغلال “الاسلام السياسي” في تحقيق اهدافها ومصالحها؟ وما هم المانع ايضاً من تسريع استخدام الصراع داخل الصين نفسها عبر اقليم شينجيانغ، اكبر الاقاليم الصينية، الذي يقدر عدد سكانه المسلمين بحوالي 22 مليون نسمة؟
في المقلب الآخر، وقريباً من الازمة البورمية، بدأ التوتر البوذي – الاسلامي بالتفاقم في سريلانكا بعد أن اتهمت المجموعات البوذية المتطرفة المسلمين بإجبار الناس على اعتناق الإسلام والقيام بأعمال تخريبية في المواقع البوذية الأثرية. كما عبر بعض القوميين البوذيين عن معارضتهم لوجود طالبي اللجوء من ميانمار في بلادهم بعد اندلاع الازمة فيها.
للعلم، يشكل البوذيون نحو 70% من السكان في سريلانكا البالغ عددهم 21 مليون نسمة، بينما يشكل المسلمون نحو 9% فقط.
من هنا، يثير بعض المحللين التساؤل حول الرابط لما يحدث في البلدين، ميانمار وسريلانكا، بالرغم من ان هناك حوالي 1000 ميل يفصل بينهما، فما “يبعث على الحيرة أن هذين البلدين لا يواجهان تهديداً من جانب مسلحين اسلاميين، كما أن المسلمين في كلا البلدين.. يمثلون أقلية صغيرة.”
من خلال ما سبق، يمكن استشراف ما يلي:
• لقد تم الحديث عن بعض الدول التي تعاني من ازمات دينية، بالتحديد بوذية – اسلامية، ولكن هناك العديد من الدول المحيطة بالصين والتي يمكن ان تكون مصدر ازعاج لها ومنها منغوليا. فمنغوليا تضم حوالي 3 ملايين نسمة، منهم 150 الف مسلم يتركزون في ولايات يايان أولغي، وكبنتاي، ونالاي خان. وللعلم ايضاً، يوجد ممر بري حيوي جداً للصين يمر عبر منغولياً ومن ثم الى روسيا.
• يرى بعض المراقبين بأن اشعال فتيل الازمة في ميانمار جاء قبل أسبوع واحد من زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي لمدينة شيامين الصينية، من أجل انعقاد قمة البريكس، ما يعني “أن الأزمة اشتعلت أو تم إشعالها عمداً قبل الزيارة فى محاولة لشغل القيادتين ولو نسبياً عن مشروعات التنسيق المتزايدة بينهما، فى قمة حملت شعار “شراكة أقوى من أجل مستقبل أكثر إشراقا”…. وبالتالي، فلن يكون غريباً أن تشهد خطوط النفط والغاز فى المنطقة محاولات تفجير خلال الأسابيع القليلة المقبلة، تحت دعاوى التمرد على الحكومة، كما أن تأجيج الصراع والمناداة بالانفصال سيتسبب فى تأجيل أو إلغاء مشروعات خطوط نقل البضائع، والسكك الحديدية، الهادفة إلى تحويل الساحل الذى يسكنه الروهينغا إلى نقطة عبور للتجارة الصينية إلى ميناء كالكاتا الهندي.”
• ليس هناك مانع من اشعال فتيل الفتنة، ايضاً، بين اكبر ديانتين في تلك المنطقة مستقبلاً، اي الهندوس والبوذية في الهند والصين تباعاً، خصوصاً وان البوذية “تعتبر ثاني أقدم ديانة في الهند وخامس أكبر ديانة فى العالم من حيث معتنقيها.. حالياً يمثل نسبة معتنقيها فى الهند حوالى 1% فقط من مجموع الشعب بتقدير يوازى 10 مليون هندي يعيشون فى الهند بعد ان كانت تمثل الديانة الرسمية للهند لمدة قرن كامل منذ ظهورها.”
• هناك انزعاج غربي من التمدد الصيني في العالم، ولقد عبرت عنه مقالة حديثة تحت عنوان “طريق الحرير الجديد”، اذ عبر موقع “شبيغل أونلاين” الإلكتروني الألماني عن الانزعاج الأوروبي من الطموحات الاقتصادية والجيوسياسية الصينية، مطالباً بروكسل إما بإطلاق مبادرات جديدة لمواجهة الطموحات الصينية أو إلى المبادرة للاستثمار في مشروع الطريق الجديد.
• ان تلك الصراعات تصب في مصلحة الولايات المتحدة بشكل كبير، اذ لجهة التأثير على الصعود الاقتصادي الصيني، او لجهة تشغيل المصانع الحربية فيها عبر صفقات اسلحة مستقبلية تذكِّي الصراع، او لجهة استمرارها على قمة النسق الدولي كقوة قطبية وحيدة.
*مؤسس ومدير مركز “سيتا”
مصدر الصورة: ساسة بوست
مصدر الخريطة: DeepResource
ينشر بالتزامن مع جريدة الاتحاد اللبنانية
المراجع:
. أوباما يرى “من غير المنطقي” لميانمار عدم السماح لسوتشي بالترشّح للرئاسة. 15/11/2014. جريدة النهار. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zIZzVD
. عقوبات أمريكية متأخرة على ميانمار على خلفية المجازر ضد الروهينغا. 22/11/2017.. قناة العالم. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zvLHdb
. هل من دور للصين في دعم حكومة بورما ضد “الروهينغا”؟ 24/11/2017. الخليج اونلاين. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2iweDv7
. محمود ريا. 4/10/2017. أزمة مسلمي الروهينغا: مظلومية شعب تعززها مصالح دول كبرى. موقع العهد الاخباري. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zQ69su
. الصين تسعى لحصة نسبتها بالمائة في ميناء استراتيجي بميانمار. 5/5/2017. رويترز. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2A57Pym
. عمرو عمار. 9/9/2017. قناة الفراعين. على الموقع التالي:
http://bit.ly/2j6JLke
. بنغلادش: لن نستقبل إلا النساء والأطفال من الروهينغا. 13/2/2017. بي بي سي عربية. على الرابط التالي:
http://bbc.in/2AADtVp
. خارجية بنغلادش: عودة اللاجئين الروهينغا إلى بلادهم خلال شهرين. 25/11/2007. سبوتنيك. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2A9w6DN
. الروهينغا في بنغلادش.. إحصائيات وأرقام. 27/11/2017. سكاي نيوز عربية. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2A8WNbD
. الصين وبنغلادش تدفعان الممر الاقتصادي مع ميانمار والهند. 21/10/2013. صحيفة الشعب اليومية الصينية اونلاين. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zH352x
. المرجع السابق نفسه.
. بنغلاديش قد تستبعد الإسلام بوصفه الدين الرسمي. 4/3/2016. الجزيرة. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2n8Gu9q
. اشتباكات بين البوذيين والمسلمين في سريلانكا. 18/11/2014. روسيا اليوم. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zUXvXn
. مواجهات بين بوذيين ومسلمين في سريلانكا. 19/11/2017. جريدة الحياة. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2B3snVJ
. سريلانكا وميانمار: لماذا يتجدد العنف بين البوذيين والمسلمين؟ 19/11/2017. بي بي سي عربية. على الرابط التالي:
http://bbc.in/2hLOjjC
. منغوليا… 150 ألف مسلم متعطشون إلى الدين. 21/7/2013. جريدة الرأي. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2Abb6fU
. محمد سامي محجوب. 16/9/2017. “هاي واي” تركي لنقل الإرهابيين من سوريا إلى ميانمار. روز اليوسف. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zTzamC
. اكبر 6 ديانات في الهند: مزيج غريب لن يخبرك به صديقك الهندي! دون تاريخ. معلومات تهمك. على الرابط التالي:
http://bit.ly/2iXaiRR
. ماذا ستفعل مجموعة السبع لمواجهة التنين الاقتصادي الصيني؟ 25/5/2017. دولتشي فيليز على الرابط التالي:
http://bit.ly/2yXlXG8