د. عبدالله الأشعل*

الصراع بين كل من إيران والسعودية مكشوف، فالأخيرة هي التي فضحته. إيران تتمدد بهدوء ووفق آليات تبدو مفيدة للمصلحة العربية العليا ولكنها تنهى تماماً فكرة العروبة. فهي تدعم المقاومة ضد إسرائيل، بينما السعودية لا تدعمها في وقت تشير فيه بعض التقارير إلى أن إسرائيل حليف محتمل ضد إيران.

السعودية تدعم، بحسب مصادر دمشق، تحطيم سوريا طلباً لرأس الرئيس بشار الأسد، إذ حثت واشنطن عدة مرات على ضربها مع تحمل تكاليف العملية، بينما إيران تدعم الشرعية فيها ووحدة أراضيها، ومعها حزب الله. وفي النظرة الإستراتيجية الشاملة، تتحدد المصلحة العليا العربية بالنظر إلى إسرائيل. فمن يعادى إسرائيل ويعمل على نصرة الفلسطينيين والضحايا العرب هو الذي يُعلي المصلحة العليا، وكل من يفعل عكس ذلك تحت أية ذريعة يهدد هذه المصلحة.

فالصراع الإيراني – السعودي مفهوم، وأبرز ما فيه أن طهران تعمل بإستقلال لتحقيق مشروعها على عكس السعودية، التي لا يمكن أن يكون عملها نيابة عن العالم العربي على أساس أن الجامعة العربية التي هيمنت عليها دول الخليج لا تمثل المصلحة العربية. هنا، يجب أن نفتح مناظرة ثقافية كبرى حول هذه القضية التي تهدد بإختفاء العالم العربي، وهذا ما سوف نجمله بوضوح في نهاية هذه المقالة.

قد يبدو أن السعودية والخليج يكافحان لتأكيد المصلحة العربية أو الدفاع عن مشروع عربي، ولكن الحقيقة أنهما يتسببان في إختفاء مصطلح العالم العربي عن الخرائط الإقليمية، ذلك أن هناك صراعاً محموماً ومكتوماً، في نفس الوقت، بين المشاريع الصهيونية والإيرانية والتركية، ولكنه متناغم مع الجهد السعودي والخليجي وهذا في حد ذاته الدليل الدامغ على طبيعة هذا الجهد. فالمشروع الصهيوني هو بوصلة السلامة والندامة والصحة والخطأ في كل جهد عربي أو غير عربي. إذا وافقت عليه إسرائيل فهو ضد المصلحة العربية، والعكس بالعكس.

أيضاً، بين تركيا وقطر، من جهة، والسعودية، من جهة أخرى، صراع غريب رغم أنهم يتفقون في جهودهم لـ “تمزيق” سوريا وطلب رأس الرئيس الأسد، بصرف النظر عن التقلب في المواقف بسبب الإملاءات الأمريكية. كما أنهم يتفقون على شرعية الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، ويشتركون في الحملة على اليمن التى تسببت بأكبر الشرور على السعودية واليمن أيضاً بل وإختفاء اليمن الموحد المستقر من الخريطة وهو أكبر خدمة لإسرائيل، ولا نستبعد هنا أن يكون ذلك هو السطر الأول والعد التنازلي للخطر المحدق بالسعودية ووحدتها الإقليمية، حيث ظنت فعلاً أنها صارت دولة عظمى فأنتابتها أوهام القوة الزائفة.

أسباب الشقاق المكتوم بين السعودية وتركيا راجعة لعدة أسباب؛ السبب الأول، إرادة أنقرة تزعم العالم الإسلامي من خلال “العثمانية الجديدة” على أن تبقى الرياض مجرد مقر للأماكن المقدسة. السبب الثاني، أن السعودية ما دامت تؤدي بتدخلها في سوريا إلى تفتيتها، فإن ذلك يسهل على تركيا الحصول على المناطق المجاورة للواء الإسكندرون، في محافظة حلب وما جاورها، حيث أظن بأن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سيظل حتى يحقق هذه الأمنية. السبب الثال، الخلاف التركي – السعودي حول شرعية حكم “الإخوان المسلمين” في مصر، حيث أصطفت قطر إلى جانب تركيا في هذا الأمر، ولكن الجميع متفق الآن على الأقل على السعى إلى مصالحة بين النظام والإخوان أن إبتلع الرئيس أردوغان مخاطر ظهور الجيش في الحكم.

في المقابل، ظهر دليلان على الصراع المكتوم؛ فتركيا تعلم جيداً مدى هيمنة كل من السعودية وقطر والإمارات على الجامعة العربية، وأن صدور قرار منها، في الأسبوع الثاني من سبتمبر/أيلول 2015، بمراجعة العلاقات التجارية العربية مع تركيا لا بد أنه كان بتوجيه خليجي. فردت تركيا، بعدها بأيام إزاء كارثة الحرم ومنى خلال موسم الحج فى أواخر سبتمبر/أيلول نفسه، بالطلب إلى عقد مؤتمر دولي لبحث تأمين موسم الحج مستقبلاً وهو موقف يقترب من موقف طهران، كون معظم الضحايا في منى هم من التابعية الإيرانية.

بالنسبة إلى الصراع المكتوم بين موسكو والرياض، الجميع يعلم أن روسيا تحارب الخليج وتركيا في سوريا، بينما تؤيد الخليج في اليمن لأنها لا ترى أهمية إستراتيجية لها في عدن. أيضاً، إقتربت روسيا من الجامعة العربية، فى عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، حتى صار لها وضع مراقب فيها، وكذلك تركيا. بالإضافة إلى ذلك، تقف روسيا ضد الجامعة في سوريا، وهرع الخليج كله إلى موسكو؛ لذلك، عمد بعض الصحفيين السعوديين إلى التنفيس عن حالة الضيق من موسكو بأن عابوا على الجامعة العربية أنها لم تحرك ساكناً إزاء تدخل موسكو في دمشق، كما إعتبر بعضهم أن تورط روسيا في سوريا يعد “إحتلالاً”. الغريب أن إستيلاء الخليج على الجامعة، بعد تدهور مصر منذ العام 1967، وضع الأخيرة في مقدمة المتورطين بسوريا و”حصان” الخليج في هذه الكارثة، حيث قضت تماماً على الجامعة التي “كانت عربية” والتي تسببت بضياع العالم العربي لصالح المشروع الروسي – الأمريكي – الصهيوني – الإيراني، في حين أن الفواعل العربية بدلاً من أن تقوم ببلورة مشروع عربي يسد الفراغ ويبعد الأكله عنها، راحت تخدم المشروع الأمريكي – الصهيوني علانية.

النتيجة هي أن العالم العربي، الذي إنقسم بين بريطانيا وفرنسا ضمن إتفاقية “سايكس – بيكو” وورثتهما كل من واشنطن وإسرائيل، ينقسم الآن بين روسيا وأمريكا ومعها إسرائيل بما يخدم أيضاً المشروع الإيراني من دون إغفال للمشروع التركي، ولو جزئياً. وعلى الرغم من أن المشروع الإيراني يبدو في طرحه المباشر مناقضاً للمشروع الصهيوني – الأمريكي، إلا أن التوافق على قواعد “التكالب” على الجسد العربي صار ممكناً خاصة وأن موسكو لن تفرط في طموحات إسرائيل ولن تخيب ظنها بعد تراجع المشروع الأمريكي.

الخلاصة، أن الصراع العلني السعودي – الإيراني أدى إلى تفاقم مشكلة الوجود العربي، كما أن الصراع المكتوم بين موسكو والسعودية وتركيا يشكل صراع تموضع هذه المشروعات الأجنبية وتسليم بهزيمة “الجثة” العربية، إلا أنني واثق بأن الشعوب العربية وقوى المقاومة ستعيد الروح إلى المنطقة بعد أن تتلاشى هذه الشوائب السياسية، وسيحدث توافق جديد عربي – روسي – إيراني – تركي بعد تحجيم المشروع الصهيوني مع إنسحاب المشروع الأمريكي. قد يبدو اليوم خيالاً علمياً، لكنه ليس أحلام يقظة بأي معنى.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: مونتي كارلو الدولية – الجزيرة.

موضوع ذا صلةالخلاف مع السعودية عقدة إيرانية