قبل عشر سنوات، إنطلقت شرارة “الربيع العربي” الأولى في تونس ثم إمتدت إلى مصر فالبحرين وليبيا وسوريا واليمن. حمل المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. وبالفعل، سقط أربعة رؤساء كانوا حكموا بلادهم لعقود. في العام 2019، رددت حناجر المطالبين بالتغيير الشعار ذاته في الجزائر والسودان ولبنان والعراق.

ويقول آصف بيات، صاحب كتاب “ثورة دون ثوار” حول “الربيع العربي” أنه “أثبتت موجة إنتفاضات (العام) 2019 في الجزائر والسودان ولبنان والعراق أن الربيع العربي لم يمت.. بل تواصل في دول أخرى في المنطقة معتمداً إلى حد كبير على الممارسات الجماعية نفسها”. وخرج مئات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع في دول “الموجة الثانية” من “الربيع العربي” للمطالبة بالحرية والعدالة، فصرخوا ضد فساد أنظمتهم، وإشتبكوا مع أجهزتها الأمنية.

موجة ثانية من المظاهرات..

يقول الأستاذ في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن، أرشين أديب مقدم، أن “المحرك الرئيسي للربيع العربي لا يزال يغلي تحت السياسات العربية”، ويضيف “2011 أودت الى 2019، و2019 ستؤدي إلى موجة جديدة من التظاهرات”. في العام 2011 وعلى غرار دول أخرى، تابع شباب السودان بحماس ما يجري في دول عربية من حولهم. ويقول الناشط محمد العمر إن “مجموعات ضغط شبابية تنظم احتجاجات صغيرة هنا وهناك” تشكلت في السودان بعد “الربيع العربي” و”بدأت بعض الأجسام المهنية في التشبيك والتنسيق في ما بينها للضغط على النظام”.

لكن نظام عمر البشير، الذي تسلم الحكم في العام 1989، كان أقوى من تحركات محدودة، وقمع تظاهرات غير مسبوقة، خرجت في العام 2013 ضد رفع الدعم عن المحروقات، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى، بحسب مصادر رسمية، فيما تحدثت منظمة العفو الدولية عن أكثر من 200 قتيل. لكن تلك التظاهرات بينت في الوقت ذاته شوق كثر لتغيير في النظام على غرار دول “الربيع العربي”.

ويقول العمر “منذ سبتمبر/أيلول 2013، بدأت دائرة معارضة النظام تتسع وتتغلغل في الأوساط الشعبية، وبدأت حركات شبابية تطالب بإسقاط النظام”. بعد خمس سنوات، تكرر المشهد. وفي 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، إحتج مئات السودانيين على قرار الحكومة رفع أسعار الخبز ثلاثة أضعاف، وسرعان ما تحولت التظاهرات إلى حراك يطالب بإسقاط النظام.

النموذج السوداني..

ويقول العمر إن “الحراك السوداني كان أكثر تنظيماً” من ثورات “الربيع العربي”، مشدداً على سلميته “برغم محاولات أجهزة أمن النظام جره إلى العنف”. في 11 أبريل/نيسان 2019، عزل الجيش البشير وتم تشكيل مجلس عسكري إنتقالي، لكن آلاف المتظاهرين واصلوا إعتصامهم أمام المقر العام للجيش، واصفين ما جرى بأنه “إنقلاب”. وقام مسلحون باللباس العسكري بتفريق المعتصمين، في 3 يونيو/حزيران 2019.

وبعد مفاوضات، تم في منتصف أغسطس/آب التوقيع على إتفاق بين الجيش وقادة الإحتجاج على تشكيل المجلس السيادي، الذي يضم غالبية من المدنيين ويتولى عسكري قيادته لمرحلة إنتقالية. ويقول العمر، الذي إعتقل خلال الإحتجاجات، إن خبرة التنظيم التي راكمها السودانيون منذ (العام) 2013 ساهمت في قلب ميزان القوة لصالحهم، خصوصاً بعد تشكيلهم “تجمع المهنيين السودانيين” الذي قاد تحركات (في العامين) 2018 و2019، ويتحدث بفخر كيف كانت التظاهرات تنظم يومياً في الوقت ذاته، ولا تنطلق إلا بعد سماع المحتجين “زغاريد” تطلقها إحدى المتظاهرات.

حَراك الجزائر.. آمال الديموقراطية لم تمت

في يناير/كانون الثاني 2011، حصلت تحركات إجتماعية في الجزائر وقعت خلالها إشتباكات مع القوى الأمنية. لكن السلطة عمدت مسرعة إلى رفع الأجور والإعانات للمواطنين بهدف إرساء الهدوء في بلد لطالما لاحق بسكانه الخوف من تكرار سنوات “العشرية السوداء”، أي الحرب الأهلية (1992 ـ 2002). ويقول الناشط الجزائري زكي حناش إن صدمة الحرب الأهلية “منعت الجزائريين” من النزول إلى الشارع بالحجم نفسه كما في دول أخرى، لكن ذلك لم يمنعهم “من متابعة ما يجري في تونس ومصر وسوريا بحماسة يختلط بها الخوف”.

وفي تلك الحقبة، كان بإمكان السلطة أن تستعين بأموال عائداتها النفطية لتهدئة الإحتجاجات الإجتماعية. في فبراير/شباط 2019، بدا الوضع مختلفاً مع تراجع أسعار النفط وفراغ خزينة الدولة. في 22 فبراير/شباط، خرجت تظاهرات حاشدة ضد عزم الرئيس الراحل، عبد العزيز بوتفليقة، الترشح لولاية خامسة ما إعتبروه إهانة لهم، في ظل عجزه بسبب تراجع صحته منذ إصابته بجلطة، العام 2013. وتوسعت (الإحتجاجات) من العاصمة إلى كل أنحاء البلاد التي كانت التجمعات محظورة فيها منذ (العام) 2001. وأعادت التظاهرات، التي عرفت لاحقاً بـ “الحَراك”، إلى الذاكرة مشاهد الإحتجاجات ضد النظامين اللذين حكما تونس ومصر لعقود وسقطاً في (العام) 2011. ويقول حناش “تعلمنا من الربيع العربي”. (كما) وسحب الجيش الجزائري، كما في تونس ومصر، دعمه للحكومة، وإستقال بوتفليقة في 2 أبريل/نيسان.

عدم تكرار أخطاء “الربيع العربي”

ولكي لا يتكرر ما حصل في مصر، إستمر المتظاهرون في النزول إلى الشارع بأعداد كبيرة كل يوم جمعة، مصرين على رحيل رموز “النظام” الموروث من عهود بوتفليقة المتعاقبة التي إستمرت عقدين – وبينهم رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح الذي أصبح الرجل القوي في البلاد، قبل أن يتوفى في ديسمبر/كانون الأول 2019. وتمسك النظام بمواقعه، ونظم إنتخابات رئاسية رغم رفض الحَراك. وأوصلت الإنتخابات التي شهدت نسبة مقاطعة كبيرة الرئيس عبد المجيد تبون الى الرئاسة. ودفع تفشي فيروس “كورونا” المتظاهرين إلى تعليق تحركهم.

ومن أبرز دروس “الربيع العربي” أيضاً، وفق حناش، الحفاظ على سلمية التحركات لمنع أن تنزلق البلاد نحو السيناريو السوري حيث يتواصل نزاع مسلح اندلع بعد الإنتفاضة الشعبية، في (العام) 2011. ويقول حناش “تعلمنا أن خيارنا الوحيد هو أن نحافظ على سلمية تحركنا.. إستمرت ثورتنا مدة طويلة لأنها بقيت سلمية”.

أين العراق اليوم من الديموقراطية؟

في العام 2003، سقط نظام صدام حسين بعد الغزو الأميركي للعراق، لكن البديل لم يكن نظاماً ديموقراطياً قوياً خالياً من الفساد والمحسوبية. وإحتاج العراقيون سنوات طويلة قبل أن ينتفضوا على نظام ينهش الفساد مؤسساته. ويقول علي عبد الخالق، الناشط والصحافي، أن “الربيع العربي بالنسبة لنا مثل الإنطلاقة الجديدة لإصلاح النظام الديموقراطي.. بعدما كنا خرجنا من نظام سيء بقوة” الإحتلال الأميركي. في فبراير/شباط 2011، شارك عبد الخالق في إنشاء مجموعة ائتلاف “شباب فبراير” التي نظمت تظاهرات أسبوعين في ساحة التحرير في بغداد ضد حكومة نوري المالكي المتهمة بالفساد.

هتف المتظاهرون حينذاك “الشعب يريد إصلاح النظام” من دون أن يطالبوا بإسقاطه. وتراجعت حدة التظاهرات لاحقاً، لكنها شكلت بالنسبة لعبد الخالق نقطة تحول، إذ “انطلق منها الغضب العراقي وبدأ الناس يعرفون أن هناك مساحة للإحتجاج والمطالبة بالحقوق”. على مر السنوات، شهد العراق تظاهرات متقطعة، في وقت كانت البلاد تغرق أكثر في صراعاتها السياسية الداخلية ومشاكلها الأمنية خصوصاً مع ظهور “الجهاديين”، وتجذر الفساد في مؤسساتها.

في أكتوبر/تشرين الأول 2019، طفح كيل الشعب وعمت البلاد تظاهرات عارمة غير مسبوقة تطالب هذه المرة بإسقاط النظام والطبقة الحاكمة بالكامل، وأجبرت حكومة عادل عبد المهدي على الإستقالة. بقي المتظاهرون في الشارع، لكن حدة التحركات تراجعت تدريجياً إلى أن إنطفأت بعد مقتل نحو 600 متظاهر جراء قمع القوى الأمنية الإحتجاجات بالقوة وهجومها المتكرر على مناطق تمركز المحتجين، ثم إنتشار فيروس “كورونا” المستجد. يقول عبد الخالق “أسباب إندلاع الثورة الجديدة لا تزال قائمة، والخطر لا يزال يلاحق السلطة.. ومن الممكن أن تندلع إنتفاضة أخرى العام المقبل وقد تكون أشد”.

الشرارة وصلت للبنان أيضاً..

ليس من السهل الإنتفاض على الطبقة السياسية في لبنان، فالنظام يقوم على أحزاب تقليدية تتقاسم كل تفاصيله ولكن منها مصالحها وقواعدها الشعبية. ويقول الناشط من أجل التغيير في لبنان منذ (العام) 1998، عماد بزي، أن “الربيع العربي منحنا الأمل.. حين رأيت التغيير في تونس ومصر، سألت نفسي، لماذا لا يكون هناك تغيير في لبنان أيضاً؟”

في فبراير/شباط 2011، ساهم بزي في الإعداد لتظاهرات “لكن النتيجة لم تكن بالقدر ذاته من الأهمية” التي كانت للتظاهرات في دول “الربيع العربي”. في العام 2015، شهد لبنان تظاهرات كبيرة أشعلتها أزمة نفايات إجتاحت البلاد. وإن كانت لم تستمر طويلاً، لكنها نشطت مجموعات من المجتمع المدني أدركت أن هناك هامشاً للتحرك في نظام يقوم على محاصصة طائفية وحزبية ضيقة.

بعد سنوات وبالتزامن مع أزمة مالية وإقتصادية حادة، إنفجر غضب الشارع. خرج مئات الآلاف في تظاهرات غير مسبوقة في كافة المناطق اللبنانية رافعين الصوت ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد، ضاربين بعرض الحائط كافة المحرمات الطائفية والسياسية.

إستقالت حكومة سعد الحريري، وتواصلت التظاهرات مطالبة بتغيير جذري، لكن شيئاً لم يتغير. وجاء إنفجار 4 أغسطس/آب (2020) ليعيد الناس الى الشارع بعد إنكفاء بسبب فيروس “كورونا” المستجد، لكن ذلك لم يستمر. وبدا أن اللبنانيين غرقوا في الحزن والإحباط والسعي اليائس لتأمين لقمة عيشهم. لكن بزي يرى أن التظاهرات وإن توقفت، فإنها لم تنته. ويقول “إنه أمر مستمر.. موجة تأتي بعد الأخرى وكلها مترابطة”.

*المصدر: دي دبليو.

مصدر الصور: الحرة – سي.أن.أن عربية.

موضوع ذا صلة: بعد “الربيع العربي”.. هل بدأت “ثورة الجياع”؟!