علوان أمين الدين*

 

لا شك ان الاوضاع الاقتصادية، المعيشية تحديداً، تشكل المحرك الاساسي للشعوب كي تنتفض ضد انظمتها الحاكمة، فـ “اللعب” بقوت الناس وتهديد مستقبلهم، يعد دافعاً مهماً يمكن الاستثمار فيه والتعويل عليه، خارجياً، من اجل الضغط على الحكومات او حتى الانقلاب عليها وتغييرها، لا سيما وان الكثير من هذه الشعوب تعيش في دول لا يتم فيها تداول السلطة بالشكل الديمقراطي.

ويعتبر “الربيع العربي”، المغلَّف بمخططات سياسية ممنهجة في المقام الاول، من ابرز الامثلة على ذلك خصوصاً بعد التمحيص في اسباب انطلاق شرارته، في تونس عندما قام محمد البوعزيزي بحرق نفسه اما مبنى البلدية، حيث كانت الارضية الاقتصادية الرثة، اضافة الى انظمة الحكم التي تسببت في هذه الازمات، قاعدة انطلاق حفزت الشعوب للانتفاض بغية تغير شكل بنية النظام بهدف الوصول الى حكم يمثل طموحاتها وتطلعاتها المستقبلية.

ان قيام هذه التظاهرات دفعة واحدة، يذكرنا بما حدث عام 2011، حيث بدأت الشرارة تنتقل من تونس الى بقية الدول، لا سيما العربية، غير ان اللافت فيها انها تشمل، بالاضافة الى الدول التي اصابها “الربيع العربي”، دولاً جديدة لم تكن ضمن هذا المخطط، او لم يستطع ذاك المخطط النيل منها في حينها.

المغرب.. “ثورة المناجم”

ان ما حدث من احتجاجات في المغرب، بعد اقفال المناجم، يعد مؤشراً قوياً على طريقة التعاطي مع ملفات الفقراء، حيث ان البديل الاقتصادي اصبح مفقوداً في سياسات الكثير من الحكومات، وبات على العامل “المغامرة” بحياته من اجل الحصول على لقمة العيش (حيث مات ثلاثة عمال جراء انهيار منجم عليهم).

وعلى الرغم من اعلان السلطات المغربية عن خطة طارئة للاستجابة لمطالب سكان جرادة (شمال شرق)، وتهدف الى “الاستجابة للانتظارات العاجلة لسكان إقليم جرادة” وتشمل فاتورتي الماء والكهرباء وإحداث فرص عمل ومراقبة استغلال مناجم الفحم المتهالكة وتدهور البيئة وتعزيز خدمات الصحة، الا ان الاحتجاجات استمرت. من خلال ذلك، يمكن التنبه الى امر مهم وهو عدم ثقة المتظاهرين بفعاليه هذه الخطة ونتائجها.

اضافة الى ما سبق، كان موضوع “تعويم الدرهم” سبباً آخر في تأجيج الاحتجاجات. في مقابل نظرة الحكومة بأن هذه المسألة ستمنع المضاربات وتحافظ على السيولة الخارجية وتكون سبباً في استقطاب العملات الخارجية، كان للمحتجين رأي آخر في ان هذ العملية ستكون عامل فقر اضافي سيترتب عليه زيادة في الانفاق المعيشي في ظل وجود مدخول مادي ثابت، اضافة الى ان الكثير من الخبراء الاقتصاديين يرون بأن مثل هذه الخطوة ستزيد من نسبة التضخم في البلاد.

تونس.. “ثورة الغلاء”

ليس الوضع في تونس افضل حلاً، اذ انفجر غضب الشارع بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وفرض الحكومة ضرائب جديدة هدفهاخفض العجز في الميزانية، حيث نزل العديد من المحتجين الى الشارع، بالتزامن مع ذكرى محمد البوعزيزي، في اشارة واضحة الى ان الاوضاع المعيشية لم تشهد أي تحسن يذكر منذ تلك الفترة وحتى اليوم، بالرغم من عملية “خلع” الرئيس الاسبق زين العابدين بن علي وطاقم عمله الحكومي في العام 2011، الذي اتهم، هو وعائلته واقطاب حكومته، بالفساد والتفقير العمدي للشعب.

السودان.. “ثورة الخبز”

تضاعفت أسعار الخبز في السودان، بعدما قررت الحكومة التوقف عن استيراد القمح وعهدت للقطاع الخاص القيام بذلك، ما أثار استياءً كبيراً بين السكان، اذ رفعت المطاحن سعر كيس دقيق القمح وهو الامر الذي حذا بالسودانيين الى تنظيم مظاهرات معارضة للحكومة في الكثير من المدن في البلاد.

هذه المسيرات، لاقت استجابة واسعة من أحزاب المعارضة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وحتى من قبل أحزاب مشاركة في حكومة الوفاق الوطني مثل المؤتمر الشعبي، حيث رفع المتظاهرون شعارات تندد بميزانية 2018 التي تسببت في رفع أسعار الخبز إلى الضعف وغيره من السلع الأساسية. وكان الحزب الشيوعي قد حمل الحزب الحاكم مسؤولية تأمين المسيرة وندد بشدة بحملة اعتقالات طالت قياداته، وقال إن الهدف منها هو إجهاض المسيرة.

ومن الجدير ذكره هنا، بأن هذه المظاهرات بدأت بالتمدد حتى وصلت الى ثاني اكبر المدن السودانية وهي “ام درمان”.

اليونان.. “ثورة التقشف”

لا تزال اليونان تعاني من ازمة الديون الكبيرة التي “تخنق” اقتصادها، لكن التصعيد في الامور جاء بعد اعلان الحكومة عن طرح مشروع قانون يتضمن آلية عمل إلكترونية جديدة يمكن من خلالها الحجز على الممتلكات في حالات التخلف عن سداد قروض والمتأخرات المستحقة للدولة، كما يفتح الباب أمام الالتحاق بالمهن المغلقة على فئات بعينها، ويعيد هيكلة المزايا التي تحصل عليها الأسر، ويجعل الدعوة إلى الإضراب أكثر صعوبة.

في هذا البلد ايضاً، فشلت حكومة اليكسيس تسيبراس، زعيم حزب سيريزا الذي جاء انتصاره في الانتخابات العامة على خلفية معارضة النهج الحكومي السابق، بالرغم من الاستفتاء الشهير الذي قامت به السلطات اليونانية من اجل اقرار خطة اقتصادية جديدة تنقذ البلاد، من وجهة نظره، غير انه عاد و”انصاع” الى ضرورة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي وبشروط الاخير.

ايران.. “ثورة النووي”

بعد حالة التفاؤل التي عمت عقب التوقيع على الملف النووي واعتبار هذا الانجاز بأنها خطوة مهمة على طريق تطوير الحياة من الناحية الاقتصادية، تواجه إيران أزمات اقتصادية ومعيشية تنذر بتجدد الاحتجاجات وأهمها تحديات الغلاء وارتفاع الأسعار والبطالة والتضخم وارتفاع الضرائب، وهو امر اقر به المرشد الاعلى للثورة الايرانية بذاته.

الى ذلك، يرى بعض المراقبين بأن الاستمرار في إنفاق طهران العسكري على سياسة “التوسع” الإقليمي (والذي يراه البعض الآخر بأنه حماية للأمن القومي) في مقابل عقوبات دولية جديدة ستؤدي إلى شل عجلة الاقتصاد فيها، حيث انخفضت موارد وإيرادات إيران بشكل حاد، لا سيما مع هبوط اسعار النفط منذ العام 2014، وزادت احتياجات وتكاليف مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية بشكل كبير.

من خلال كل ما سبق، يمكن القول بأن نافذة الاقتصاد تبقى المدخل الأساسي الذي يمكن العبور من خلاله لتهديد الامن القومي للدول، والضغط عليها لقطف مكاسب سياسية. لذلك، يمكن وضع بعض الأُسس والمعايير التي قد تساعد على تفادي ذلك، وابرزها:

– ايجاد ارضية اقتصادية تقوم على اساس التوزيع العادل للثروات، واشراك العمال جدياً في عملية الانتاج بحيث يشعر العامل بأن ما يعمل به هو جزء مما يملك وليس مجرد مؤدِّي لوظيفة، وهذا لا يعني بالضرورة اعطاءهم أسهماً في المنشآت، بل بتوفير الحمايات (وليس الحماية) الاجتماعية اللازمة لهم، وتقدير الكفوئين منهم على اساس مساهمتهم في الانتاج.

– الاستثمار في القطاعات المنتجة بشكل كبير الامر الذي سيؤدي الى دوران عملية الانتاج والتخفيف من حدة البطالة.

– دعم الحكومات للمؤسسات الصناعية المتوسط، كألمانيا، التي تعتبر العصب الاساس في الاقتصاد.

– العمل على تحسين نوعية الانتاج، أياً كانت، الامر الذي سيؤدي الى إدخال العملات الصعبة التي تحتاجها الدول، مع السعي الى ايجاد اسواق لتصريف المنتجات.

– في الدول الفقيرة، يمكن استحداث مصانع تهتهم بالصناعات التحويلية، وليس بالضرورة الانتاجية، اذا كانت حالتها المادية لا تسمح لانشاء المصانع الضخمة.

– في الدول المنتجة للبترول تحديداً والتي تعطي الامتيازات لشركات اجنبية، يمكن ان تقوم الحكومات بفرض بند ضمن دفتر الشروط يقضي بإستثمار نسبة من الارباح السنوية (قد تصل الى 80%) في الدول المنتجة للنفط ذاتها ضمن قطاعات مختلفة تستطيع من خلالها تخفيف نسب البطالة فيها من جهة أولى، وزيادة في المنتجات المحلية من جهة ثانية، وايجاد ارباح جديدة من جهة ثالثة واخيرة.

 

*مؤسس ومدير مركز “سيتا”

 

مصدر الصور: روسيا اليوم – قناة الغد – اخبار اليمن – الاقتصادية.