شهدت الفترة الماضية العديد من التطورات السلبية التي طرأت على الأوضاع المالية والنقدية في السودان، الأمر الذي ينذر بمواجهة الإقتصاد الكلي في البلاد المزيد من المشكلات مستقبلاً. وقد يتسبب ذلك في وضع الحكومة في مأزق أمام الشعب، لا سيما أنه ينتظر منها إجراء إصلاح إقتصادي شامل، والتخلص من الأزمات التي تراكمت على مدار العقود الماضية.
وبينما ورثت الحكومة تركة ثقيلة من الأزمات الإقتصادية، تتمثل في العيوب الهيكلية المزمنة التي يعانيها الإقتصاد، والمتمثلة في إرتفاع معدلات البطالة، والضغوط التضخمية الخارجة عن السيطرة، والعجز المزمن في الموازنة العامة للدولة، وغير ذلك، فإن أزمة “كورونا” قد أضافت المزيد من المعاناة الإقتصادية للبلاد، ووضعت المزيد من الأعباء على عاتق الحكومة، التي لا تمتلك الكثير من الخيارات للتحرك في هذا الإطار.
مؤشر رئيسي
وصل معدل التضخم في السودان إلى مستويات قياسية، متجاوزاً نحو 230% بنهاية أكتوبر/تشرين الأول 2020، كإنعكاس للإرتفاع الكبير الذي تشهده أسعار السلع والخدمات في الأسواق، في ظل الهبوط المتواصل في قيمة العملة المحلية، الجنيه. ونتيجة لذلك، فإن السودان تحتل المرتبة الخامسة في مؤشرات التضخم الأعلى عالمياً في الوقت الراهن، وتعتبر عملتها إحدى أكثر العملات العالمية إضطراباً وتراجعاً في القيمة أيضاً.
ويمثل مؤشر التضخم، في حالة إستمراره بالمستويات التي هو عليها الآن، معياراً ودليلاً قاطعاً على أن أوضاع الإقتصاد الكلي في البلاد غير صحية، وأن الإقتصاد يعاني خللاً هيكلياً عميقاً، وأن قدرات وإمكانات ذلك الإقتصاد غير كافية لتأمين إحتياجاته سواء تعلق ذلك بالسلع والخدمات بشتى أنواعها، أو بمصادر التمويل اللازمة لتمكين الحكومة من الإضطلاع بمسئولياتها تجاه تأمين الخدمات والمرافق العامة للسكان بشكل آمن ومستقر.
كما تعتبر الظروف الإستثنائية التي ترتبت على أزمة “كورونا”، التي أوقفت الكثير من الأنشطة الإقتصادية حول العالم ومنعت العديد من الدول من الإستفادة من مصادر التمويل الخارجية، أحد مصادر التهديد بالنسبة للإقتصاد السوداني في الوقت الراهن أيضاً. فرغم أن هذه الظروف أدت إلى تراجع عجز الميزان التجاري للسودان بنسبة 29.5% خلال الشهور التسعة الأولى من العام 2020 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2019، لكن هذا التراجع لا يعتمد على أرض صلبة، كما أنه لا يعتبر إنعكاساً لتحسن أداء الإقتصاد، بقدر ما هو ناتج عن ظروف إستثنائية خلفتها الأزمة، التي أدت إلى تراجع حجم التبادل التجاري لجميع الدول، وبالنسبة للسودان فإنها خفَضت قيمة الواردات وقيمة الصادرات أيضاً، لكن نسبة إنخفاض الواردات كانت أعلى من نسبة إنخفاض الصادرات. ففي الوقت الذي تراجعت فيه الواردات بنسبة 29.5%، فإن الصادرات تقلصت بنسبة 28%.
ومع أن عجز الميزان التجاري تراجع على النحو المذكور، لكنه ظل مرتفعاً من حيث القيمة المطلقة، ببلوغه 3.92 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، وفق بيانات البنك المركزي، وهذه القيمة تمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتوقع أن يرتفع هذا العجز إلى نحو 4.9 مليار دولار بنهاية العام 2020، لتتجاوز نسبته 15% من الناتج على مدار العام، وليظل سبباً في إستنزاف النقد الأجنبي من الإقتصاد، والضغط على قيمة العملة المحلية، ومن ثم إرتفاع التضخم.
ضغوط متزايدة
تسببت الأزمات الإقتصادية المتتالية وحالة التراجع المستمر، التي إنتابت المؤشرات الإقتصادية على مستوى السنوات الماضية، بتراجع مستمر لمستويات المعيشة في السودان. وتشير بيانات منظمة الأمم المتحدة إلى أن نحو 46.5% من السكان يعيشون دون خط الفقر الوطني، وأن نحو 52.4% منهم يعيشون في فقر متعدد الأبعاد. وبرغم أن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء تظهر أن نسبة الفقر في البلاد تراجعت إلى 28% في العام 2017، لكن هذا يعني أن ما يتراوح بين ثلث ونصف سكان البلاد في الوقت الراهن يعانون، بشكل أو بآخر، من مظاهر الفقر.
ومع أن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء تظهر أن نسبة الفقر تشهد تراجعاً متواصلاً، وأنها إنخفضت إلى مستواها الحالي بينما كانت تبلغ 36.1% في العام 2016، ونحو 64.5% في العام 2009، فإن الظروف الإقتصادية الراهنة، والتي أضيفت إليها المزيد من العقبات بسبب أزمة “كورونا”، من شأنها أن تسبب إرتفاعاً جديداً لمعدلات الفقر في البلاد بداية من العام 2020. كما يتوقع أن تستمر هذه النسبة في الإرتفاع خلال السنوات المقبلة، ولا سيما في حال إستمرت أزمة “كورونا”، وفي حال لم تتمكن الحكومة من إجراء إصلاحات جوهرية للأوضاع الإقتصادية على المستوى الكلي.
ويعتبر إرتفاع معدل البطالة أحد القنوات الرئيسية التي تغذي الفقر في السودان، لا سيما أن السودانيين الذين يفقدون وظائفهم، وأولئك الذين يطول بهم الزمن قبل أن يجدوا فرصة عمل، تزداد فرص تحولهم إلى فقراء في ظل الظروف الإقتصادية الراهنة أكثر من أى وقت مضى. وفي هذا السياق، فقد أظهرت بيانات صندوق النقد الدولي إرتفاع معدل البطالة في السودان إلى 22.1% في العام 2019، مقارنة بنحو 19.5% في العام 2018. ومن المتوقع أن تتسبب أزمة “كورونا” في إرتفاع البطالة إلى ما نسبته 25% من إجمالي القوى العاملة في البلاد.
هذا الإرتفاع في معدلات البطالة وكذلك الإنكماش المتوقع أن يطرأ على الناتج المحلي الإجمالي، والمرجح أن يبلغ معدله نحو 8.4% في العام 2020، يضغطان سوياً على متوسط دخل الفرد، والذي يتوقع بلوغه نحو 735 سنوياً بنهاية هذا العام، وليكون بذلك قد بلغ أقل من نصف مستواه في العام 2015، والذي وصل فيه إلى 1,698 دولار سنوياً.
وأمام هذه التحديات، لا تملك الحكومة الكثير من الخيارات من أجل إخراج الإقتصاد من ضائقته وتعزيز مستويات المعيشة، عبر تمكين الإقتصاد من توليد متوسطات الدخول الملائمة والكافية، وكذلك تعزيز قدرة أسواق العمل الوطنية على توفير فرص العمل الجديدة الكافية لإستيعاب الوافدين الجدد إليها، وكذلك إستيعاب رصيد البطالة البالغ نحو 3.2 مليون عاطل في الوقت الراهن.
ولذلك، فإن الحكومة في حاجة لمساعدات كبيرة وعاجلة من العالم الخارجي، سواء من منظمات إقتصادية دولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، أو من الدول الأخرى، حيث ليس من المتوقع أن تتمكن من إنجاز مهامها الثقيلة تلك من دون ذلك.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات.
مصدر الصور: العربي الجديد – إندبندنت عربية.
موضوع ذا صلة: إتجاهات الإقتصاد السوداني ما بعد الثورة