منذ بداية الحرب الأهلية في العام 1861، لم تشهد واشنطن حجم الحشد العسكري (ولو أن الجيش غير مشارك فيه) الذي تشهده الآن وحتى إشعار آخر.
آنذاك، إستدعى الرئيس أبراهام لنكولن الجمهوري الآلاف من قوات مليشيا الولايات الشمالية، إنضم إليها لاحقاً 30 ألف جندي، لحماية العاصمة ومؤسسات الحكومة فيها، وبالذات مبنى الكونغرس، الذي رابطت تلك القوات في محيطه وداخله ولأشهر.
نفس المشهد يتكرر اليوم، حيث تمركزت قوة كبيرة من الحرس الوطني ورجال الشرطة والقوى الأمنية المحلية، إضافة إلى عناصر “إف.بي.آي” والبوليس السري، حوالي الكونغرس وداخل قبته وممراته، كما في جوار البيت الأبيض وغيره من المباني الرسمية، وسط مدينة شبه خاوية كأنها ساحة حرب يسكنها الرعب، بقدر ما تسكنها مظاهر العسكرة والقوة والحواجز والعربات المصفحة.
الفارق بين ما حدث العام 1861 واليوم هو أن الكونغرس نجا يومذاك من الإجتياح الذي تعرّض له الأسبوع الماضي. وهنا مكمن الخوف والذعر السائدَين حالياً في واشنطن وبقية الولايات، ليس فقط لأن العملية غير مسبوقة، بل أيضاً لأنها جاءت في سياق إنقلابي إعتمد أسلوب الحسم الصدامي الدموي.
وما زاد من الخشية هو ما يتردد عن تواطؤ بعض رجال التشريع “الذين رافقوا عدداً من المتمردين في جولة إستكشافية قبل أيام لقاعات الكونغرس”، حسب رواية نائبة ديمقراطية. بل أكثر وأخطر من ذلك، حيث يُنقل عن بعض النواب الديمقراطيين أنهم يخشون على حياتهم “من زملائهم” الجمهوريين.
وبالرغم من أن هناك شيئاً من المبالغة في مثل هذا التصور، لكن البيئة الراهنة أعطته مسحة من الجدية التي تفرض نفسها على أية إشاعة يجري تداولها ولو على سبيل الحذر.
وما لا يقل خطورة أنه تم الإستدلال عبر صور الفيديو ومن خلال معلومات الجهات الأمنية، أن بعض العسكريين المتقاعدين واثنين من رجال شرطة نيويورك قد شاركوا في الهجوم، وأن المزيد من مثل هذه المعلومات قد يظهر عبر التحقيقات الجارية مع عدد من المشاركين الذين تم إلقاء القبض عليهم.
ومع أن مثل هذه الإختراقات داخل الكونغرس وفي صفوف بعض القوى الأمنية والعسكرية لم تثبتها التحقيقات بعد، إلا أن مجرد إحاطتها بارتياب مشروع ضاعفت التخوف من أن يكون “التيار القومي الأبيض” المتمرد قد نجح في البدء بإستقطاب هذه الفئات التي تعتبر بمثابة صمامات الأمان الأمنية.
ويعزز هذا الإحتمال أن خبراء الأمن لا يرون في أحداث الأربعاء الماضي أقل من “إخفاق” أمني تام في وجه إجتياح جرى “التخطيط” له مسبقاً، وربما بالتواطؤ، ولم يكن من نوع الرد العفوي أو الهبّة الإنفعالية الغاضبة.
رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، كشفت في مؤتمرها الصحافي، عن تكليفها للجنرال راسل أونوري بإجراء مراجعة أمنية لوضع الكونغرس.
الإستعانة بالبنتاغون للقيام بمثل هذه المهمة الأمنية تعكس الكثير من الشكوك بالتركيبة الأمنية في المبنى. كما أعلنت أنها تشاورت مع رئيس هيئة الأركان، الجنرال مارك مايلي، للمساعدة في “توفير الدعم للسلطات المدنية” خطوة تدل على مدى جدية المخاطر وحاجة المؤسسات إلى العون العسكري.
الأخطر، حسب هذه القراءة، أن هذه الخطة – المنازلة لا تقتصر فقط على الأيام المتبقية من رئاسة دونالد ترامب، بل هي تبدو مصممة لتتواصل إلى ما بعد بداية رئاسة جو بايدن، كما يشير خطاب التمرد في وسائل التواصل الإجتماعي وغيرها، كما في الإشارات التي صدرت عن الرئيس ترامب أخيراً، والتي تشي بأن “الترامبية” قد لا تنتهي يوم 20 يناير/كانون الثاني الجاري (2021)، وهذا ما يضاعف التحدي للديمقراطيين الذين يخشون إنطلاقة مشوشة لرئاسة بايدن، بحيث يشغلها الهم الأمني بصورة طاغية كما هو الآن.
من اليوم وحتى الأربعاء المقبل، هذا الهم حقيقي وغير مبالغ فيه على الأقل بالنسبة للمسؤولين الذين يسيطر عليهم الهلع من حصول هفوة أمنية مهما كانت صغيرة. فالظرف لا يتحمّل. ولتفادي أية مجازفة تقرر إلغاء “بروفة” إحتفال أداء اليمين، وهو تمرين تقليدي يسبق العملية الرسمية لتأتي مجرياتها حسب المرسوم، لكن لا مكان للتقاليد هذه المرة فالأولوية للسلامة المضمونة.
لا يعني ذلك أن الوضع على شفير الإنهيار. لقد أميركا إجتازت إمتحانات قاسية وطاحنة، ولديها من التجربة والرصيد والتماسك ما يكفيها للخروج من الأزمة، لكن هذا لا ينفي أنها تعيش الآن محنة وطنية لم تتبلور مآلاتها بعد.
المصدر: مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية.
مصدر الصورة: إن.بي.سي 6.
موضوع ذا صلة: لن يحدث شيء.. لماذا؟