د. هشام حمدان*
يعتقد القانونيون أن القضاء الوطني هو صاحب الصلاحية للنظر في جريمة المرفأ، سواء لأسباب تتصل بالسيادة الوطنية، أو لأسباب تتعلق بالصلاحية المكانية. فالجريمة وقعت في بيروت، واستهدفت مركزاً مدنياً لبنانياً، والغالبية الساحقة من الضحايا هم من اللبنانيين، أما الأجانب فيمكن لبلدانهم أن تتعاون مع القضاء اللبناني لتحقيق موجبات العدالة لهم، هذا من جهة.
من جهة أخرى، فإن صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من الهيئات القضائية الدولية، لا تقوم إلا إذا قامت أسباب موجبة، من أهمها عدم قدرة القضاء الوطني، أو عدم رغبته بإحقاق العدالة. فالعدالة الوطنية لها الأسبقية دائماً من منطلق احترام السيادة الوطنية للدول الأعضاء في المجتمع الدولي. ومثل هذه المؤسسات القضائية قامت عملياً من أجل مساعدة الشعوب الضعيفة في الدول التوتاليتارية والنامية، على حماية حقوقهم المعترف بها دولياً، باعتبار أن العدالة حاجة ماسة لتفعيل الأمن والسلم الدوليين، وأيضا لمنع أي مسؤول من الإفلات من العقاب.
نحن نتفهم الإعتبارات التي تسود القانونيين في لبنان، ولدينا كل الإحترام للقضاء اللبناني. ورغم ذلك، فإننا نصر على ضرورة التعاون مع القضاء الدولي وعلى طلب مشاركة المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة للضحايا. فالقضاء الوطني غير مستقل. ويحمل الشارع الوطني بكل مجموعاته، مطلباً مشتركاً عنوانه: استقلالية القضاء. وهذا ليس أمراً معيباً، فلبنان كان رهينة ظروف الحروب التي عصفت به، ومثله بالتالي مثل كل الدول التي تعرضت لحروب مماثلة فانهارت فيها الأنظمة الوطنية، أو خرجت عن مسارها الطبيعي وأصبحت أسيرة الظروف والمعطيات العسكرية والأمنية والسياسية السائدة.
لهذا السبب، أقرت الأمم المتحدة، العام 1996، مبدأ بناء السلم بعد النزاع، بغية مساعدة هذه الدول في إعادة بناء أنظمتها الوطنية، أو إعادتها إلى العمل الطبيعي. مثلاً، تستضيف جنيف تحالفاً دولياً من أجل بناء السلام هدفه مساعدة الدول التي مزقتها الحروب، على إعادة بناء مجتمعاتها، وينفذ هذا التحالف برامج للمصالحة بين الأطراف المتنازعة في مناطق الصراعات السابقة، مثل راوندا والصومال والموزمبيق وبعض دول أميركا اللاتينية.
ومن البديهي، أن القضاء الوطني، الذي يقال عنه صراحة بأنه “قضاء مسييس”، لن يكون قادراً على تحقيق العدالة لضحايا المرفأ. ولا نتوقع أن تخرج دائرة التحقيقات والإتهامات عما هي عليه الآن، بعد مرور حوالي ستة أشهر على هذه التفجير. أيضاً، من غير المتوقع أبداً أن يقوم القاضي اللبناني باستدعاء رئيس الدولة، أو رؤساء الحكومة، أو رئيس المجلس النيابي، أو غيرهم من الرموز السياسية، لمساءلتهم عن أسباب الإحتفاظ بهذه الكمية الضخمة من المواد المتفجرة في هذا المرفق المدني المزدحم بالمدنيين، والواقع ضمن منطقة سكنية مأهولة.
لقد أقر رئيس الجمهورية، العماد ميشيل عون، صراحة بعلمه المسبق بوجود هذه المواد الخطيرة، وحاول تبرير التقاعس عن القيام بما تمليه عليه مسؤوليته، كحام لأمن الوطن والمواطن، بالقول أنه غير معني بموضوع المرفأ. في الدول الحضارية، عادة ما يؤدي مثل هذا الكلام إلى سوق رؤساء في الدول الحضارية إلى المحاكمة، خصوصاً وأن الموضوع يتصل بأمن الوطن والمواطن وليس بمسألة عادية، كتهريب برميل مازوت.
شاهدت مظاهرة قام بها عدد من المواطنين أمام منزل المدعي العام الناظر بجريمة المرفأ. فكتبت تعليقاً يقول “أيها الناس من الواضح أن سعادة القاضي ينظر إليكم الآن وهو جالس بين أفراد عائلته وبينهم ولا شك، أولاده. قد يكون سعادته مستعداً للتضحية بنفسه من أجل إنقاذ وطنه، كما فعل قضاة باليرمو في إيطاليا، من أجل إنقاذ بلادهم من الجريمة المنظمة ومافيات المخدرات، لكن هل سيكون مستعداً للتضحية بعائلته وأولاده؟ من يحميه ومن يحمي عائلته؟ ألا تذكرون القضاة الأربعة الذين قتلوا على قوس المحكمة في صيدا؟”، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، هل يملك لبنان بشكل عام، أو القضاء اللبناني بشكل خاص، القدرات الفنية والعلمية الضرورية لفهم حقيقة ما جرى في المرفأ؟ لقد كان واضحاً أن لبنان والقضاء اللبناني، لا يملكان مثل هذه القدرات. وقد تم الطلب إلى خبراء دول أخرى، المساعدة في هذه المهمة. ورأينا حضرة نقيب المحامين، د. ملحم خلف، يقدم عريضة إلى الممثل الخاص لأمين عام الأمم المتحدة في لبنان يطلب فيها مساعدة المنظمة الدولية للحصول على صور الأقمار الإصطناعية.
فإذا كان يمكن للقضاء ونقابة المحامين طلب مساعدة خبراء أجانب ومؤسسات دولية، فلماذا لا يتم اللجوء إلى السلطة القضائية الدولية، أي إلى المحكمة الجنائية الدولية، خاصة وأنها المخولة من المجتمع الدولي بصلاحية ملاحقة مثل هذه الجرائم؟
القضاء في لبنان لا يستطيع أن يضمن مبدأ عدم الإفلات من العقاب لأي مسؤول يمكن أن يجده مسؤولاً عما حصل. فكم من المجرمين الذين قتلوا مدنيين أبرياء، أوقفوا أو سجنوا أياماً معدودة، ثم أطلق سراحهم. وماذا إذا كان التفجير قد جرى نتيجة عمل حربي إسرائيلي أو غيره؟ بل لماذا يتم إغفال هذا الإحتمال كلياً، علما أن ثمة قرائن أساسية في المفهوم الحقوقي والقانوني، من بينها اعتراف رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، نفسه وكلها تشير إلى أن تفجير المرفأ جاء نتيجة عمل عدواني؟
نحن نحترم القضاء اللبناني على الرغم من كل الأسئلة المشروعة التي طرحناها آنفاً، ونؤمن بالكرامة الوطنية أيضاً، لكننا هنا نؤمن قبل كل شيء، بحق الإنسان – الضحية بالعدالة. فالعدالة لها الأولوية إذ لا كرامة وطنية من دون عدالة. لكل ذلك، فإننا نصر على تحويل الجريمة إلى القضاء الدولي المختص.
*سفير سابق – لبنان
مصدر الصور: الحرة – سي.أن.أن عربية
موضوع ذا صلة: صراع النفوذ الإقليمي بعد إنفجار بيروت