كيفورك ماكس خاجيريان*
إستمرت الحرب السورية بوتيرتها المتسارعة، وبعد سنوات عديدة: هل تحقق المشروع الغربي؟ أم هو مشروع دولي؟ أم هي مجرد ساحة لتصفية الخلافات الدولية والإقليمية فيها؟
الحرب السورية هي أكبر من أن تلخص بكلمة أزمة أو مؤامرة أو حتى “فوضى خلاقة” أو حرب كونية كما وصفها الرئيس السوري، بشار الأسد. فبعد أعوام من تلك الحرب الدموية التي غيرت ديموغرافية المنطقة بل ودول الجوار وما بعدها، بدأ العالم يدرك خطورة “المستنقع السوري”، وأن كل من خاضه ستتلوث يداه ليس فقط بدماء السوريين، كما يصف الإعلام، بل بآلاف من التنظيمات الإرهابية التي لا حصر لها، والتي ستنعكس سلباً على الإستقرار العالمي. لن أتطرق في مقالتي هذه إلى الجانب السياسي من الأزمة ودور المؤسسات الدولية في حل الصراع، بل سأتطرق بشكل أكبر إلى الجوانب العسكرية المؤثرة فيه.
بداية الأزمة: هل هي الإقتصاد والحرية أم الحرب الكونية؟
بعد انهيار الدولة السورية الإشتراكية التي أسسها الرئيس الراحل حافظ الأسد، بدأ عصر جديد حاملاً في طياته “مفاجئات” للشعب الذي لم يعرف معنى الفكر الغربي يوماً. فبدأ الترويج للعصر السوري الجديد على انه المستقبل لـ “سوريا الغرب”، وقد كانت تلك الموجة تحت مسمى “ربيع دمشق”، حيث بدأت بمكافحة الفساد وبداية التحرر الإقتصادي، وبدأ الإقتصاد السوري يزدهر في عصر الرئيس الأسد الإبن. لكن ذلك المشروع لم يدم طويلاً بسبب تركيبة الدولة الأمنية الفاسدة، ولأن الرئيس الأسد الإبن لم يكن في خضم أي صراع داخلي يقصيه عن السلطة هو ومشروعه الإقتصادي.
فحتى بداية الأزمة، كانت الأجهزة الإستخباراتية السورية قد نسيت، بشكل غير مبرر، دراسة تركيبة المجتمع ووضع خطط للتعامل مع الأزمات الداخلية، فهذه الأجهزة كانت أكثر عمقاً بقليل من الإعلام الذي صور أن الطائفية هي ضرب من الخيال في البلاد. وقد يعود السبب في ذلك إلى أن الخدمة العملية رجال المخابرات كانت في نفس المدن التي ينتمون إليها بحيث لم يتم الإختلاط بباقي المكونات وفق مقولة شهيرة لأحد ضباط المخابرات “أهل مكة أدرى بشعابها”، وأبرز مثال على ذلك إنطلاق موجة الإحتجاجات في درعا التي تم التعامل معها على قاعدة عدم الدراية المطلقة بتركيبة المجتمع العشائري فيها، إذ لم تحسن الحكومة التعامل معها لكون عناصر المخابرات كانت من المدينة نفسها.
من هنا، إن حصول انشقاقات واسعة في القوات العسكرية كان نتيجة عدم فهم المجتمعات العشائرية، فهؤلاء دوماً ما يكون ولاؤهم للعشيرة وليس للوطن، وهم الأكثر استعداداً للتحالف مع أية قوة أجنبية مقابل المال والسلطة والسلاح، وهذه هي طبيعة المجتمع البدوي. لذلك، نجد في درعا تواجد لتنظيم “جبهة النصرة”، الذي يحوي عدداً لا يستهان به من الإرهابيين من مختلف أرجاء العالم.
الأمر نفسه يمكن تطبيقه على عشائر البادية، حيث تواجد تنظيم الدولة الاسلامية – “داعش”، والذي تشكل بغالبيته من المقاتلين الأجانب، وذلك على عكس المناطق السورية المعارضة الأخرى، كإدلب وريف حماة وريف حمص وريف دمشق، التي رفض مسلحوها أي تعاون مع عناصر أجنبية، وهو ما سبب الصراع بين الفصائل المسلحة الحقيقية التي ما زالت قائمة.
أسباب إنتفاض المناطق الغير العشائرية
في العام 1982، إنطلقت شرارة تلك الانتفاضة من مدينة حماة، حيث لم تقم الحكومة السورية بمسح آثار تلك الحرب من ذاكرة جيل ما بعد الحرب فتمت إزالة تلك الحقبة، أي حقبة الإخوان المسلمين، من التاريخ السوري كشطب سطر من كتاب.
في المقابل، نحج الإعلام الغربي بتصوير السلطة على أنها سلطة مركزية تمتلك الطائفة العلوية وحدها مفاتيح قوتها، وهو ما أدى إلى نشوء “حقد” سني – علوي في المنطقة إنفجر على شاكلة حرب أهلية كإمتداد للصراع السني – الشيعي في الشرق الأوسط.
برأيي الشخصي، كان الجميع في سوريا، وإلى حد ما، متساوين في المناصب العامة، فحتى السنَّة كانوا منخرطين في أجهزة المخابرات. لكن المشكلة، كما قلت سابقاً، تكمن أن الإنفتاح التي قام به الرئيس الأسد الإبن، كالسماح بإدخال الإنترنت والإعلام الغربي، أدى إلى تشكل “حقد” في المجتمع السوري اللاوعي سببه تأثره بالدعاية الأجنبية، حيث يعتقد الغرب أن العلويون هم من يحكم سوريا، متناسين أن الوزراء ورؤساء أفرع المخابرات هم من الطائفة السنِّية بل أيضاً العماد داوود راجحة، نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع وأحد أفراد خلية الأزمة، كان من الطائفة المسيحية. غير أن السبب الحقيقي خلف إنخراط العلويين بالجيش هو الفقر التي تعاني منه مناطقهم، وعدم تولية الدولة اهتماماً كافياً لها بل كان الدعم كله يذهب إلى مدينة حلب السنَّية قبل الأزمة، بإعتبارها مدينة صناعية.
إذاً، لم تكن الأزمة طائفية كما يصورها الغرب، بل هي أزمة جهل من الإعلام السوري والشعب.
خطة أم ضرب من الجهل العسكري؟
طرحت الحكومة السورية العديد من المشاريع للتفاوض مع “الجماعات المسلحة المعتدلة”، وهو مفهوم قد أطلق على من كانوا ضد التدخل الأجنبي، ولكن تم رفض جميع العروض لأنها كانت تشمل ببندها الأول رحيل الرئيس الأسد عن السلطة، ما دفع بالقوات العسكرية النظامية إلى زيادة التصعيد غير مدركة أنها بذلك تقوم بتدمير البنية التحتية والإقتصادية للبلاد، وأن تلك المعارك لن تكون سوى ساحات غنائم حربية للمعارضة.
موجة الخيانات الداخلية والدعم الخارجي
عند بداية الصراع المسلح، بدأت عمليات الإنشقاق داخل صفوف الجيش، ترافق ذلك مع تسلح العشائر المسلحة من قبل الأزمة، بالإضافة إلى الدعم الغربي، غير العلني، وتزايد عدد المسلحين بسبب ما قيل عن إنتهاكات القوات السورية. ومع بداية العام 2013، دخل على خط الأزمة مفهوم جديد وهو “قلب الطاولة” على رأس الدولة، وتجلى ذلك من خلال ما عُرف بالخيانات، والذي أتى بعد إستنفاذ مسألة الإنشقاقات. يمكن إبراز ثلاثة أنواع الخيانات التي حصلت، وهي:
1.الخيانات العسكرية
قام العديد من القادة العسكريين بتسريب وثائق عسكرية هامة للمعارضة المسلحة، كما أن العديد منهم قد سلم قواعد ومطارات عسكرية بالكامل بما تحويه من سلاح ومعدات حربية، ما أدى إلى مقتل الكثير من الجنود الذي كانوا موجودين في هذا البقع، وهو ما أضعف القدرات القتالية النظامية بشكل كارثي في مقابل زيادة لقدرات المسلحين. وما يمكن ذكره في هذا الخصوص هو تسليم القاعدة العسكرية في إدلب، وذلك بشهادة مقاتل سوري فار من الجيش، وتسليم مدينة كاملة للمسلحين، مثل الرقة التي سلمها المحافظ المدينة وبعض القادة العسكريين.
لكن الغريب في الأمر أن تلك الخيانات، من ضباط ومسؤولين وأقليات دينية وعرقية، لم تقم على خلفيات إرهابية أو إرتباط مع التنظيمات الإرهابية، لكنها أتت على قاعدة المال. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أيضاً، كان السماح لسيارة مفخخة بالدخول إلى مقام السيدة زينب في دمشق من قبل حاجز عسكري. ومثل آخر، قيام أحد الضباط، من الطائفة الدرزية، في درعا، بإعطاء إحداثيات عسكرية خاطئة للصواريخ لضرب أهداف خالية من المسلحين، وبالاتفاق معهم، من أجل إستنزاف الترسانة العسكرية مقابل المال أيضاً، وهناك الكثير من هذه الأمثلة اللا متناهية والتي تسببت بعدم قدرة الدولة للسيطرة على معظم أراضيها.
2.خيانات العشائر
قد يكون وثوق الدولة السورية بالعشائر لحل الصراع أحد أبرز أسباب فقدانها لمناطق شاسعة من أراضيها. فما يمكن ذكره هنا هو خيانة تلك العشائر، كعشائر الرقة التي سلحتها الدولة من أجل القتال ضد المسلحين، ومبايعتها لتنظيم “داعش” ليس رغبة به بل لأنهم وجدوا فيه سوقاً ضخماً لتجارة الأسلحة، إضافة إلى السلطة والنفوذ والنفط الذي إستولى عليه التنظيم.
كذلك، وصلت الخيانات إلى الجنوب السوري. ففي معركة مطار الثعلة، الواقع في السويداء وعلى الحدود مع درعا، قام أحد موزعي المياه، التابع لإحدى عشائر درعا وبعد إعلان ولائه للتنظيم، بتسميم المياه وقتل كل من كان موجوداً داخل القاعدة العسكرية، ما سهل حصارها.
3. الخيانات المدنية
تمثل هذا النوع، وبشكل رئيسي، بالمواطنين الذين تم تجنيدهم وزرعهم من قبل أجهزة الإستخبارات العالمية بهدف جمع معلومات عن سوريا، وهم في الحقيقة شكلوا الخطر الأكبر بسبب إختيارهم من بين أصحاب النفوذ، بالإضافة إلى تجار الأزمات والحروب لإنهاك الإقتصاد.
إن الدعم العالمي للتنظيمات الإرهابية في سوريا، وتحويلها إلى “مقبرة” للإرهاب العالمية، قد أنهك القدرات السورية على مختلف الصعد، العسكرية الإقتصادية وشتى المجالات الأخرى، ما أدى إلى تراجع سيطرة الدولة على أقل من ربع مساحة الأراضي. لكننا اليوم نرى بأن دول العالم بأكملها بدأت تتسارع لإنهاء هذا الأزمة لكونها باتت تدرك جيداً أن الخطر لن يلتهم سوريا فقط، بل العالم كله، وأولهم إسرائيل، وهو ما أشار إليه الرئيس الراحل حافظ الأسد بالقول “نحن نجيد اللعب على حافة الهاوية وإن سقطنا لا نسقط إلا فوق جثث أعدائنا”.
ختاماً، لقد شارفت الحرب السورية على نهايتها، لكن ما يجب على القيادة فعله هو الإلتفات إلى “بناء الإنسان”، وتسليحه بالعلم والوعي كي نتجنب تكرار مثل هذه المصيبة كل 40 عاماً.
*متخصص في دراسات الشرق الأوسط – مترجم في وكالة “رياليست” الروسية
مصدر الصور: ساسه بوست – الميادين إسبانيول – الرقة بوست.
موضوع ذا صلة: الحرب على سوريا: إنتهت.. لم تنتهِ