بعد عام من المعارك ضد وباء “كورونا” المستجد على مختلف المستويات، بدأ يظهر أن العالم مقبلٌ على مرحلة جديدة من الحرب على الفيروس سريع الانتشار، وإعلان كل من ألمانيا وبريطانيا، البلدان الأقوى في غرب أوروبا، إستسلامهما حيث تؤكد الأمور، التي “أَفلتت من عقالها”، هذه الفرضية خاصة بعد التحول الذي عرفه الفيروس بظهور السلالة الجديدة منه، نهاية العام 2020، والتي أطلق عليها “كوفيد – 20″، وهي نفسها الفترة التي ظهرت فيها سلالة “كوفيد – 19” نهاية العام ما قبل الماضي (2019).
تزامن ظهور السلالة الجديدة مع التوصل إلى اللقاح، وهو ما يستوجب تحليلاً للظروف العالمية التي أحاطت بهذا الطارئ الوبائي غير المعهود منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه الخصوص ما يرتبط بالمتغيرات التي بدأت تعرفها موازين القوى الإقتصادية والسياسية دولياً.
إن الحديث عن الظروف المحيطة بعملية الإغلاق غير المسبوقة والمرتبطة بالفيروس المصطنع، وإن كانت كلها تدور حول الصراع الإقتصادي والعسكري بين القوى العظمى، فما لا يجب إغفاله هنا هو حدث كبير أثار انتباه العالم ويتعلق بالحرب التي خاضها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، على إتفاقيات المناخ، وهي الملفات التي وعد الرئيس الجديد، جو بايدن، بأن تكون على رأس أجنداته مثلما أعلن قبل مؤخراً عزمه تنظيم قمة دولية حول المناخ وتوقيعه قرارات تنفيذية تهدف إلى وقف عمليات التنقيب عن النفط.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أهم اتفاقية في التاريخ بهذا الشأن، وهي إتفاقية القطب الجنوبي المعروفة رسمياً بإسم “إتفاقية أنتاركتيكا” الموقعة عام 1959، لحماية القارة القطبية المتجمدة من الاستغلال من طرف أي من القوى الكبرى، والتي وقعت عليها الدول المنتصرة في الحرب على النازية، قبل أن تلتحق بها دول أخرى ليصل العدد حالياً إلى 64 دولة. تحظر هذه الاتفاقية أية سيطرة على القارة القطبية المتجمدة، وتنتهي في العام 2048، ليكون بذلك العالم على موعد مع حرب عالمية ثالثة مؤكدة بالدليل القاطع، قياداتها ستتشكل أساساً من الولايات المتحدة وحليفتها التاريخية التقليدية بريطانيا المنسحبة من نادي “مستعمرات” بروكسل، أي الإتحاد الأوروبي، والعدوين روسيا والصين.
فبمناسبة مرور 200 عام على إستكشاف الرحالة الروس القارة المتجمدة، أعلنت موسكو في بداية العام 2020 أنه سيكون “عام أنتاركتيكا”. في نفس التاريخ، رفع العلماء الروس علم بلدهم إلى جانب راية النصر فوق محطة بيلنغساوزن الروسية في القطب الجنوبي. بعد ذلك أطلقت، الحكومة برنامجاً ضخماً لتخليد ذكرى الإستكشافات الروسية في القارة، حيث أكد النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي، أندريه بيلوسوف، على هذا الإهتمام الكبير بالقطب المتجمد وأن روسيا ما لبثت تولي اهتماماً متزايداً في الأعوام الأخيرة بتثبيت وجودها في هذه القارة بعدها شرعت في تنفيذ وعودها تلك ميدانياً من خلال إعادة العمل بالمحطات العلمية والبحثية المتوقفة منذ عقود.
تضمن البرنامج الاحتفائي أيضاً إطلاق تسميات روسية على عدد من المناطق في القارة، كما يظهر حرص الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على حضور الاجتماعات التي تعقدها “الجمعية الجغرافية الروسية”، ويرأسها حالياً وزير الدفاع سيرغي شويغو. وبتعليمات من الرئيس بوتين، أعدت الجمعية، بالتعاون مع وزارة الدفاع العام 2018، ما أطلق عليه كتاب “أطلس العالم” لإعادة صياغة خريطة العالم من جديد، حيث ندد الرئيس الروسي بمحاولات المنافسين الغربيين طمس تاريخ إكتشافات بلاده وتغيير الحقائق بتعمد إزالة التسميات الروسية من بعض المناطق الجغرافية المكتشفة من قبل العلماء الروس، وهو ما يعبد الطريق لحرب من نوع آخر مع الغرب الممثل خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا.
هذا الأمر واكبه عمل على أرض الميدان، حيث أعادت الحكومة الروسية العمل بخمس محطات تعمل على مدار العام تضاف إليها محطات موسمية تعمل في فترة الصيف، بينما كان مقرراً تفعيل 18 محطة أخرى كانت مغلقة منذ نهاية الحقبة السوفييتية، بأوامر من الرئيس بوتين.
فإذا كانت معاهدة 1959 تحظر إقامة أية قواعد عسكرية أو مزاولة أي نشاط عسكري أو استغلال للثروات بإستثناء البحوث العلمية، إلا أن روسيا قد أكدت، العام 2015، على حقها في السيطرة على مناطق واسعة من القطب، وحيث قدمت في هذا الشأن وثيقة إلى الأمم المتحدة تثبت سيادتها على مساحة واسعة من القارة بما فيها 1.2 مليون كلم مربع من الجرف القاري الشمالي.
من جهتها، تمتلك الصين تكنولوجيا متطورة حيث أثبتت، خلال السنين الأخيرة، تفوقاً كبيراً بالنظر إلى التطور الهائل الذي تحققه في المجالات الإقتصادية والعلمية، إذ تبقى مؤهلة لاحتلال المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وروسيا من حيث عدد القواعد العلمية المتواجدة في القارة. وفي هذا الصدد، أكد نائب رئيس الإدارة العامة لدراسة المحيطات الصيني، تشن ليان تشنغ، عزم بلاده إطلاق مشروع لاستكشاف القارة الجليدية، وقال بصريح العبارة إن الصين تهدف لإستغلال مواردها وثرواتها الطبيعية.
هذا التسابق الصيني – الروسي للسيطرة على القارة المغطاة كلياً بالجليد والذي يسبب انزعاجاً كبيراً للولايات المتحدة، إن لم نقل يقض مضجعها، إذا كان ظاهره الرغبة في إظهار التفوق العلمي والتاريخي، غير أن جوهره اقتصادي بالأساس، بل إن المسألة في حد ذاتها لا تخلو من أبعاد استراتيجية سيكون لها القرار النهائي في تحديد التوجهات الاقتصادية على صعيد العالم والحسم في تغيير موازين القوة السياسية الدولية، ذلك أن هذه الصحراء الجليدية التي يكاد ينعدم فيها الغطاء النباتي، والتي تمثل 10% من كوكب الأرض، تبقى غنية جداً إلى حد لا يمكن تصوره بالمعادن والموارد والثروات، كما أنها تضم أكبر مخزون من النفط والغاز الطبيعي في العالم مع احتمال وجود أكبر منجم من الذهب تحت صخورها.
من هنا، توفر القارة مورداً مستقبلياً رئيسياً للبشرية جمعاء، من اليورانيوم والنحاس والمياه المعدنية العذبة المتوفرة بجبالها الجليدية إضافة إلى ما يمكن استخراجه من المضادات الحيوية الوفيرة من النباتات المجهرية البحرية في سواحلها، الشيء الذي يشكل احتياطاً هاماً بعد نضوب الموارد في القارات الخمس المأهولة. وفضلاً عن ذلك، لا تخضع القارة القطبية لسيطرة أي حلف أو دولة، بحيث تمثل “حقل تجارب مثالي” للصين من أجل إجراء تجاربها النووية بعيداً عن مراقبة أعين الغرب.
بوادر هذا الصراع المحتدم بين الغرب، من جهة، والروس والصينيين، من جهة أخرى، حول القارة التي ستكون جاهزة للإستغلال بعد العام 2048 حين انتهاء مدة المعاهدة الحمائية، بدأت تتكشف جلية. ففي أغسطس/آب 2019، هاجمت واشنطن الصين، التي تعد أكثر دولة في العالم تنفق على بحوثها العلمية في القارة القطبية، محذرة إياها من التحرك لفرض نفوذها على القطب الجنوبي ومن انتهاكها لمعاهدة انتاركتيكا. جاء ذلك في وقت أزاحت فيه الصين الستار عن كاسحة الجليد “سواليونغ – 2”.
لقد كانت الولايات المتحدة من أولى الدول الموقعة على المعاهدة، وهي طرف استشاري يتمتع بحقوق التصويت القادرة على اتخاذ قرارات بشأن القارة القطبية الجنوبية، هي أيضاً أول دولة أعلنت انسحابها رسمياً من “إتفاقية باريس للمناخ”، الموقعة العام 2017، حيث إستكملت إجراءات الإنسحاب المعقدة في العام 2019.
تختلف إتفاقية باريس عن جميع الإتفاقات والبروتوكولات الدولية السابقة في هذا المضمار، لكونها تبقى الإتفاقية الدولية الأكبر من نوعه والأكثر شمولية في كل ما يرتبط بالمناخ، فيه تتمتع بعضوية شبه عالمية ذلك أنه لأول مرة تُجمع 197 دولة، من بينها روسيا، على منع ارتفاع معدل درجات حرارة الأرض وإبقائها عند درجتين مئويتين كحد أقصى فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، حتى العام 2100. أيضاً، فهي تهدف إلى منع التدخل البشري الخطير في النظام المناخي العالمي، كما ركزت على جهود خبراء المناخ على القطاعات الرئيسية، كالصناعات الثقيلة والطاقة وكل ما يمكن أن يؤثر لصالح إحداث فرق أكبر في ما يتعلق بالنظام المناخي.
هذه الإتفاقية، التي وصفها رئيس قمة المناخ وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، بأنها “إتفاق تاريخي عادل ومتوازن وملزم قانونياً”، يُفترض لها أن تدخل حيز التطبيق، العام 2020، لخفض استخدام الطاقة الأحفورية (مثل النفط والفحم والغاز). وإذا كانت قد حددت خطة مراجعة على رأس كل خمس سنوات للتعهدات الوطنية ذات صبغة اختيارية، بيد أنها وضعت آلية لإجراء مراجعة إجبارية لها العام 2025 مع التأكيد على إلزامية “إحراز تقدم” خلال هذه المراجعات.
أيضاً، تلزم الإتفاقية الدول الغنية بتقديم 100 مليار دولار للدول الفقيرة لمساعدتها على تنفيذ برامج تهدف لتنقية مصادرها الطاقية، كما خصص معدوها فصلاً كاملاً لمساءلة الدول العظمى الصناعية، على قضية الذوبان الجليدي والتغيرات المناخية، وهي النقطة التي أثارت غضب واشنطن التي اعتبرتها “إستهدافاً لها” من شأنه “تكبيدها خسائر ضخمة” في حال وقعت في مسائلات قضائية نظراً لمسؤوليتها التاريخية عن الإحتباس الحراري.
وفي هذا الإطار، رد الرئيس ترامب، خلال خطاب له بالبيت الأبيض، بغضب على الاتفاقية التي رأى فيها بأنها سيزيد الأعباء على الشعب الأميركي بشكل غير متناسب، وبأنها تعادي مصالح بلاده وتوقف تطوير مناجم الفحم. وفي صراع علني، هاجمت فرنسا خطاب الرئيس الأميركي معلنة رفضها دعوته لإعادة التفاوض على الإتفاقية حيث دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، العلماء الأميركيين إلى مغادرة الولايات المتحدة والمجيء إلى فرنسا للعمل فيها.
لذت، يمكن القول بأن الحرب التي تخوضها واشنطن على العالم هي اليوم أقرب إلى “حرب عالمية”، المستهدف الرئيسي منها ليس الصين وروسيا فقط، وإنما الإتحاد الأوروبي أيضاً، الذي جعل من سياسات الغرب الأوروبي أشد عدوانية ضد واشنطن ومصالحها منذ نشأته. غير أن أفول دور هذا التكتل على مستوى صياغة القرار الإقتصادي عالمياً لصالح الصين، التي لا تخفي أهدافها ولا تتخفى خلف أي من الشعارات التي دأب الغرب على رفعها والترويج لها لتلميع صورته الاستعمارية، فهي لا تتدخل في قيم وعقائد أو ثقافات أو حتى لغات شركائها وزبائنها الدوليين، كما لا تهمها ملفات حقوق الإنسان لا في ما يتعلق بمفهومها الشامل أو مفهومها الغربي الانحلالي.
كل هذا، يعبّد طريق الصين نحو غزو العالم، بما يشمل المجتمعات المحافظة التي تجد نفسها متوافقة أكثر مع هذا الشريك الصناعي الصاعد، والذي لا يخفي أيضاً طموحه في السيطرة على ثروات القطب الجنوبي الهائلة. ولأن كانت الولايات المتحدة ترى في هذا القطب المتجمد، حتى وقت قريب من انهيار الاتحاد السوفييتي، احتياطاً ضخماً متنوع الموارد لن يشاركها فيه أي منافس، بيد أن الحقائق المستجدة أرغمت دوائر صناعة القرار الإقتصادي الأمريكي لتغيير هذا الرأي أمام كاسحات الجليد التي كانت تتهيأ لغزو القارة الجليدية وتجريف طبقات من الجليد بسمك 1.9 كلم والتي لا تتوفر إلى اليوم التكنولوجيا القادرة على التعامل معها.
إن التقدم الهائل في ميدان الصناعة وإرادة الحزب الوحيد في الصين، الذي لا يتغير ولا تتغير سياسته، وحدها في هذا العالم، حتى اليوم، لها هذه القدرة على السيطرة على أكبر احتياط من الثروات في العالم، وهذا وحده سبب كاف لتفتعل واشنطن، في ظل إدارة الرئيس ترامب، حرباً عالمية من صنف آخر. فما يعيشه العالم اليوم من جائحة وإغلاق لحركة الملاحة وحركة البشر عالمياً، لن يكون إلا مقدمة لمرحلة حُبلى بالأحداث والأزمات سوف لن تنتهي إلا بحرب عالمية، العام 2048، تكون فيها قارات العالم الست ساحة لتجريب أحدث ما أنتج من سلاح ومقاتلات جو وتوربيدات بحرية.
*كاتب وصحفي – المغرب.
مصدر الصور: The Economist – South China Morning Post – سي.أن.أن.
موضوع ذا صلة: حرب الجيل الخامس بين المارد الصيني والبلطجي الأميركي