منذ تبني روسيا العقيدة الأوراسية مع نهاية تسعينيات القرن الماضي خلفاً للتيار الأورو – أطلسي نتج عنه صدام وتعارض مع توجهات الغرب الرامية لـ “غربنة” العالم تحت لواء الليبرالية – الديمقراطية/الرأسمالية.

وبعد تكريس روسيا – مع بداية الألفية الجديدة – وتزامن مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين للحكم وتبنيه للتوجه الأوراسي، أصبحت المواجهة حتمية مع الغرب في ظل سعي “الدب” الروسي لإستعادة المكانة الدولية وتوجه الغرب لتطويق وإحتواء الصعود الإستراتيجي الروسي، ما نجم عنه صراع على منطاق النفوذ ضمن المجال الحيوي الروسي وإستمر الصراع، حيث لا زالت الاطماع الغربية تغذيه ما يثير حساسية موسكو تجاه أمنها القومي في مجالها الحيوي وعدم رضاها بفرضية الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، ما كرس الصراع بين التيارين لحد الآن. والسؤال: فكيف إنعكس الصراع الأوراسي – الأطلسي على الأزمة الروسية – الأوكرانية؟

تمهيد

تُشكل دول الجوار القريب عمق روسيا التاريخي والحضاري والإستراتيجي كونها كانت اراضي الإمبراطورية الروسية منذ قرون ثم جمهوريات سابقة للإتحاد السوفياتي، وسعيها إلى التقارب والإندماج مع الغرب في ظل السياسة التوسعية لحلف الشمال الأطلسي – الناتو، وسعي الغرب لإحتواء موسكو بداية من “الثورات الملونة” – التي دعمتها بحجة نشر الديمقراطية والسلام – وسياسة الباب المفتوح التي إنتهجها الاتحاد الأوروبي لضم دول أوروبا الشرقية، بداية الألفية الجديدة، ومن ثم لتنظوي تحت المظلة الأمريكية – الناتو التي تسعى من خلاله واشنطن إلى التواجد ضمن الحديقة الخلفية لروسيا (ومنها أوكرانيا)، والوقوف أمام الصعود الإستراتيجي لها وضمان عدم بلوغه، ما دفع بصانع القرار الروسي إلى بلورة عقيدة عسكرية لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي يشكلها الغرب والذي بلورها التوجه الأوراسي في إطار الأوراسية الجديدة.

تاريخيّة الأزمة الروسية – الأوكرانية

تعود بوادر الأزمة مطلع الألفية الجديدة مع اندلاع “الثورات الملونة” في أوروبا الشرقية، ومنها “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا العام 2004 إثر رفض فوز فيكتور يانوكوفيتش بالإنتخابات بتهمة التزوير بإعتباره موالياً لروسيا وعدم إعتراف معارضه الرئيس المنتخب، حيث خرجت الجماهير الأوكرانية لمساندته مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في ميدان الإستقلال بالعاصمة كييف، حاملين أعلام برتقالية معبرين عن رفضهم الإنتخابات ما أدى إلى نجاح فيكتور يوشتشينكو الذي إنتهج سياسات موالية للغرب وعدائية تجاه روسية.

أيضاً، بدأ الحديث عن ضم أوكرانيا لحلف الناتو عقب تصريح اللائيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الإبن، بقمة الحلف في بوخارست – رومانيا، أبريل/نيسان 2008، بالموافقة على إنضمام كييف للحاف بالرغم من رفض الحلفاء ذلك تجنباً للصدام مع روسيا، فالئيس بوتين شدد لهجته محذراً من عواقب القرار على علاقة روسيا بالغرب، في حين أن أكد الرئيس يوشتشينكو على أن الإنضمام يحمي بلاده من التمدد الروسي، لكنه فشل في ولايته وخسر على إثرها انتخابات العام 2010 لصالح فيكتور يانوكوفيتش الذي أبدى توجهه نحو الشرق (روسيا) بإعتبار أن السير مع الغرب يسبب متاعب لأوكرانيا مع جارتها، حيث علّق إتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي ما دفع الجماهير للحتشد ضد قراره مطالبين بإعادة توقيع الإتفاقية ومنددين بفساد النظام.

إقرأ أيضاً: أسرار خطيرة.. هجوم بيولوجي كان يحضر على روسيا من أوكرانيا

وبدعم من الغرب، تم إسقاط حكومة الرئيس يانوكوفيتش – الموالية لروسية – وقيام حكومة إنتقالية بقيادة ألكسندر توتشينوف حيث بدأت معها أزمة شبه جزيرة القرم عقب اتخاذها لأول قرار حيث ألغت بموجبه التعامل بجميع اللغات بما فيها الروسية وإقرار اللغة الأوكرانية كلغة الرسمية ووحيدة في البلاد حيث قامت على إثره إحتجاجات شعبية شرق البلاد – وتحديداً الناطقين بالروسية – ودخلوا في إشتباكات مع الحكومة ما إستدعى تدخل موسكو لحماية الأقلية الروسية في شبه الجزيرة القرم لتعود إلى ضمها لاحقاً بعد إستفتاء صوت فيه بالأغلبية الساحقة للإنضمام إلى روسيا، 16 مارس/آذار 2014.

في ذات الوقت، إستمر القتال في منطقة الدونباس لغاية إعلان الرئيس المنتخب الجديد، بيترو بوروشينكو، وقفاً لإطلاق النار وتوقيع إتفاقية مينسك التي جاء ضمن نصوصها وضع مراقبين من منظمة الأمن والتعاون الأوروبية؛ ومع تولي الرئيس فولوديمير زيلينسكي مقاليد السلطة، أعيد طرح قضية الإنضمام لحلف الناتو بالرغم من تحذيرات روسيا من عواقب القرار، إلى أن إنفجرت الأزمة مجدداً في ظل العديدة المتغيرات الجديدة في الساحة الدولية.

دوافع الأزمة والتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا

إنفجرت الأزمة الأوكرانية مجدداً مع وصول الرئيس زيلينسكي للسلطة وطرحه مجدداً قضية الإنضمام لحلف الناتو على الرغم من تحذيرات بوتين بخطورة الوضع وإنذاره للولايات المتحدة الأمريكية وحلف الشمال الأطلسي، نهاية العام 2021، بوقف تطوير البنية التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية ووقف مشروع التوسع شرقاً إلا أن الحلف لم يتراجع عن بحثه ضم أوكرانيا، فاستمر الغرب في التصعيد بالترافق مع تنديد الرئيس الأوكراني – عبر تصريحاته المستفزة – منتشياً بالدعم الغربي الذي ملئ تصريحات القادة الأوروبيين والولايات المتحدة على رأسهم، ما وضع الرئيس الروسي أمام حتمية إتخاد قرار حازم في ظل التصعيد الغربي والإستفزازات المستمرة فعدم الرد العملي والفعلي على أرض الواقع كان سيقحم الرئيس بوتين فيما يعرف بـ “تكاليف الجماهير” إذ لم يلتزم بالرد، كما صرح بأن تهديد يمس روسيا سيرد عليه عسكرياً خصوصاً وأن أوكرانيا تقف على بعد خطوة لتصبح عضواً في الناتو وبعدها ستكون روسيا في مواجهة الحلف بأكمله.

بناء على ما سبق، سارع الرئيس الروسي إلى إتخاد قرار الإعتراف بكل من لوغانسك ودونيتيسك، الذي أعقبه التدخل العسكري المباشر بعدما حشد العديد من القوات على طول الحدود الشرقية لأوكرانيا قبل أيام تحضيراً للتدخل بانتظار التوقيت المناسب، حيث لا تزال موسكو تدير الأزمة – كما سبق – والقائمة على “اللعبة الصفرية”، فما تكسبه يعد خسارة للطرف الآخر، وهو ما يمكن روسيا من بسط نفوذها على أوكرانيا وإقامة نظام موالٍ لها ما يعد مكسباً ثميناً وخسارة للغرب، الذي يسعى إلى إحتواء روسيا.

من هنا، يبدو أن الصراع الأوراسي- الأطلسي في أوكرانيا شبيه بلعبة “البوزكاشي” الأفغانية التي يتنافس فيها 36 فارساً للحصول على جيفة ماعز مفصولة الرأس، والفائز يأخد جائزة نقذية؛ فـ “الجيفة” في اللعبة الدولية هنا هي أوكرانيا برأس هوليودي لا زال ينتظر تقاطر المساعدات الغربية، لكنها وجدت نفسها أمام الكثير من رسائل الحب والتعاطف التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.

التطلعات الروسية

يقتصر السعي الروسي على تحقيق أمنها لا الاحتلال، كما زعم مشتسار الأمن القومي الأمريكي الراحل زبيغنيو بريجنسكي بأن روسيا لا يمكن أن تكون قوة عظمى بدون أوكرانيا؛ على العكس، لن تكون روسيا قوة عظمى عندما تكون مثقلة بأعباء بلد مثل أوكرانيا. إن إستفزازت الغرب المتواصلة هي ما فعت روسيا لبحث مسألة أمنها وإبعاد الخطر على حدودها.

فعلى غرار جورجيا العام 2008 عندما تمرد رئيسها السابق ميخائيل ساكاشفيلي وصمم على الإنضمام لحلف الناتو، قامت روسيا باقتطاع منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الشمالية تأديباً له، لكنها لم تحتلها إلى الأبد، وهذا بالضبط ما فعلته وتفعله في أوكرانيا الآن بدليل أن تصريحات الخارجية الروسية تأكد على مسألة عدم إستهداف المدنيين، مع مطالب واضحة لإنهاء الحرب تتعلق بإزاحة النظام الحاكم لتتاح لها الفرصة لإحلال نظام موالٍ لها وتوقيع إتفاقية تمنع إنضمام أوكرانيا إلى الناتو للأبد.

إن الملام الوحيد على ما يحدث الآن هو الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، التي تعتبر سبباً رئيسياً للتصعيد من خلال تصريحاتها الداعمة لأوكرانيامن أجل الوقوف بحزم أمام روسيا؛ ولكن بعد التدخل الروسي، تبخرت كل الوعود بالدعم العسكري، وهذا ما جاء في طرح الواقعي الهجومي جون ميرشايمر – بعد الغزو الروسي لأوكرانيا – حول أسباب الغزو، حيث صرح بأن ما حدث ويحدث يلام عليه الغرب فروسيا عند غزو أوكرانيا وضعت الغرب أمام خيارين؛ الأول، التخلي عن فكرة ضم أوكرانيا لتبقى دولة عازلة. والثانية، الإستمرار وتدمير أوكرانيا، فموسكو لن تستلم كون كييف تمثل مجالها الحيوي ومصالحها الإستراتيجية الجوهرية فهي جزء من “حديقتها الخلفية”. لذا، لا تريد روسيا أن تقف على خط دفاع، لكن امتلاك الكرة؛ فبخلاف هذا، ستكون تحت تهديد أمني مباشر لا يسمح لها بأن تتموضع ضمن النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، الذي تسعى له.

المراجع:

1. عبد الله المالك الصباح. الصعود الإستراتيجي لروسيا الإتحادية وأثره على التوازنات الدولية 1991 – 2015. يروت – لبنان. الدار العربية للعلوم – ناشرون. طبعة 1. 2017.
2. بومنجل خالد وفارق مجيب الرحمان. إدارة النزاع في أوكرانيا بين المقاربة الأمنية الأمريكية والروسية. 2015.
3. مركز الدراسات العربية – الأوراسية. عقيدة بوتين المواجهة الروسية مع الناتو مجرد بداية السياسة الخارجية الجديدة لروسيا.
4. محاضرة جون ميرشايمر. على الرابط التالي:
https://yout.be/jrmisaAGOS4

مصدر الصور: ميدل إيست أونلاين – سبوتنيك.

زكرياء نونو

كاتب – الجزائر