د. عبدالله الأشعل*
في العلاقات الإسرائيلية – التركية، يجب أن نميز بين مرحلتين؛ المرحلة الأولى، كانت تتسم بالتحالف المطلق. أما المرحلة الثانية والتي بدأت في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ينطبق عليها القول عن “شعرة معاوية”، فالطرفان حريصان على عدم قطع هذه الشعرة لأسباب تخص كلا منهما، لكن القاسم المشترك يبقى بمصالحهما مع واشنطن، كل على حدى.
بالنسبة إلى المرحلة الأولى، فقد بدأت مع الولايات المتحدة عندما قرر الرئيس هاري ترومان، العام 1946، ضم تركيا إلى حلف الناتو حتى تكون عائقاً أمام المد السوفيتي إلى أوروبا. كان المناخ في ذلك الوقت مناسباً تماماً للتحالف الأمريكي – التركي حيث كان الحكم عسكرياً في أنقرة وسياساته الداخلية يتم تشجيعها من جانب الولايات المتحدة، رغم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي صدرت عن الأمم المتحدة في ذلك الوقت.
لذلك، عندما قامت إسرائيل، مايو/أيار 1948، اعترفت بها تركيا اعترافاً واقعياً في البداية، وأنشأت لها قنصلية في القدس الغربية في إشارة إلى أنها كانت تؤيد أن القدس إسرائيلية، حيث لم يكن الطابع الإسلامي وارداً في سياساتها بل كان الحكم العسكري العلمانى يطارد تاريخ تركيا العثمانية ويتخلص منه. لذا، كانت تركيا “اللا إسلامية” الأقرب إلى الغرب، وكان هذا هو النموذج الذي أراده الأخير للدولة الإسلامية، خاصة وأنه نجح في فترة معينة بسلخ تركيا عن تاريخها الإسلامي عقوبة لها، على توغلها في أوروبا أبان العصور الوسطى، وتهيئة لها كي تكون عضواً في التحالف الغربي ضد الشيوعية، لا بل أن العلاقات التركية مع كل من واشنطن وإسرائيل ازدهرت ازدهاراً واضحاً عندما قررت واشنطن إنشاء أحلاف وقواعد عسكرية لوقف تمدد الشيوعية فيما عرف بـ “الستار الحديدي”، إذ كانت كل من تركيا وإيران أهم دولتين في هذا المشروع مع فارق واحد أن تركيا ضُمت إلى الناتو رغم أنها ليست واقعة في الحصيرة الجغرافية للحلف، كما كان بود واشنطن ضم “إيران الشاه” أيضاً، حيث كانت الولايات المتحدة تعاني، خلال تلك الفترة، من حمى معادة الشيوعية المعروفة بـ “المكارثية”.
لذلك، كان طبيعياً أن تكون تركيا ملاذاً لقاعدة أمريكية ضخمة في “أنجرليك”، وهي القاعدة نفسها التى إنطلق منها الطيران التركي الذي حاول الانقلاب على الرئيس أردوغان في 15 يوليو/تموز 2016، حيث لم يجرؤ الأخير على إغلاقها. أيضاً، كانت تركيا نفسها مقراً للحلف المركزي المعروف بـ “السنتو”، والذي ضم باكستان وهو أكبر الأحلاف التى أنشأتها الولايات المتحدة في أطار سياسة الستار الحديدي وأكملتها بحلف “السييتو” و”حلف بغداد”.
ومادام الحكم العسكري جاثماً عليها، فقد كانت تركيا حليفاً وفياً لإسرائيل؛ لذلك، كان العداء العربي موجهاً ضدها وضد “إيران الشاه”، ونذكر أنه في العام 1999 كانت سوريا معرضة لغزو تركي لولا تدخل مصر بينهما، حيث تمت تسوية مشكلة عبدالله أوجلان، الذي كان قد إختبأ بالأراضي السورية.
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت عندما تولى الرئيس أردوغان وحزبه السلطة، بعد العام 2002 حتى الآن. في هذه المرحلة، راجع الرئيس التركي ملف العلاقات التركية – الإسرائيلية، فلاحظ أن إسرائيل كانت راضية تماماً عن التعاون مع الحكم العسكري، حيث أبقى الرئيس على بعض القطاعات المفيدة للبلدين لا سيما في المجالات التجارية والعسكرية والأمنية وطبعاً تحت إشراف الولايات المتحدة. لكنه حاول أن “يختبر” إسرائيل في الصراع العربي – الإسرائيلي، وكانت النتيجة مفاجئة له وهي أن إسرائيل إنفردت بملف فلسطين، وكان ذلك في العام 2010 حيث أدرك الرئيس أردوغان أن هناك “حدوداً” لسياساته في المنطقة العربية.
من جراء ذلك، توترت العلاقات المشتركة كثيراً، خاصة وأن إسرائيل تدعم الكرد الانفصاليين في كل الدول المتواجدين فيها، أي سوريا والعراق وإيران وتركيا، وكلما اشتد التوتر بين الرئيس أردوغان وحزب العمال الكردي أنعكس ذلك على العلاقة التركية – الإسرائيلية.
من خلال ما سبق، نقول إن سياسة الرئيس أردوغان تجاه إسرائيل تقوم على مجموعة من القواعد، وأبرزها:
القاعدة الأولى، أن تركيا تود أزاحة المشروع الصهيوني تماماً، ولا ينسى الرئيس أردوغان أن الصهاينة واليهود تآمروا على الدولة العثمانية وأسهموا لتفكيك الإمبراطورية العثمانية.
القاعدة الثانية، أن الرئيس التركي حريص على عدم المساس بإسرائيل من خلال مواقفه تجاه القدس والقضية الفلسطينية عموماً بما لا يغضب واشنطن؛ لذلك، فإنه يسير في سياساته تجاه إسرائيل بحذر. والملاحظ هنا، أن تصريحات المسؤولين الأتراك، التي ترحب بالتعاون مع إسرائيل، لا يقابلها تصريحات إسرائيلية رغم أن الرئيس أردوغان تعاون مع “داعش” في العراق وسوريا في حين أن إسرائيل هي التي سلحت التنظيم ووفرت لمقاتليه الرعاية الصحية والملاذ الآمن، بالإضافة إلى بعض الدول العربية الت مولته أيضاً “على أمل” أن يهاجم “داعش” إيران، التي وصلهتها الرسالة فبذلت جهوداً خرافية لهزيمة داعش في العراق من خلال كتائب “الحشد الشعبي” الشيعية.
في المقابل، لا تزال الصناعات الحربية التركية تعتمد على إسرائيل خاصة بعد وقف التعاون في هذا المجال بين تركيا وكندا منذ سنوات قليلة، كما أنقرة لا تدعم المقاومة الفلسطينية لأنها تعلم أن ملف المقاومة حساس بالنسبة لإسرائيل، لكنها بذلت جهوداً للجمع بين حركتي “حماس” و”فتح” وأجرت لقاءات لهما، وكان ذلك فصلاً من فصول السياسة التركية في القضية الفلسطينية. بالرغم من ذلك، عجزت تركيا عن رفع الحصار عن غزة، وزاد من أعباء دورها التوتر الحاصل بين الرئيسن أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي، منذ العام 2013.
في المسألة السورية وعلى الرغم من موقفهما المعادي لسوريا، إلا أن كلا الطرفين التركي والإسرائيلي لا ينسقان في هذا الموضوع، وهي تعد نقطة ملتبسة، هذا بالإضافة الى أن تركيا، فيما يبدو، حريصة على عدم انفراد إيران بسوريا .
القاعدة الثالثة، إن قاعدة المصالح المشتركة بين البلدين هي بإتساع كل يوم، ةذلك من خلال النظرة العملية لطبيعة هذه المصالح.
القاعدة الرابعة، لا يمكن لتركيا أن تتخذ ستاراً لإعتداء إسرائيل على الفلسطينيين، بل أنها قد أدانت الغزو الإسرائيلى لغزة، في الأعوام 2008 – 2009 – 2014، ولا شك أن إسرائيل لا تستريح إلى التيار الإسلامي الحاكم في تركيا لأنه يذكرها بصلابة “الإخوان المسلمين” ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، العام 1948؛ فإسرائيل، لديها عقدة من التيار الإسلامي. لذلك، إن دعمها لـ “داعش” هو جزء من المؤامرة على الإسلام والمسلمين وبلادهم.
خلاصة القول، إن مستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية يتراوح بين التوتر الحاد من دون الإنقطاع، مثلما حدث عندما خفضت تركيا مستوى تمثيل الدبلوماسي لدى إسرائيل بسبب عدوان الأخيرة على غزة، العام 2014. كما أن أنقرة أدانت موقف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من القدس ومن الجولان السوري، هذا هو الحد الأعلى للعلاقات بين البلدين.
أما الحد الأدنى، فلا يمكن أن تصل العلاقات مرة أخرى إلى درجة التحالف، ولا ننسى أن هناك صراعاً وتنافساً بين المشروعين التركي والصهيوني، بكل ما يمثلانه من رموز ومعانٍ. ولا شك أن تراجع واشنطن في المنطقة يصب في صالح تركيا ضد إسرائيل، كما أن تطبيع عدد من دول الخليج مع الأخيرة يعتبر خصماً من رصيد تركيا في المواجهة السياسية معها، خاصة إذا ما أقدمت السعودية على الإعتراف بإسرائيل. عندها، قد ينقلب التوتر المكتوم بين تركيا والسعودية إلى توتر مفتوح، وهو ما لا تتمناه أنقرة أو الرياض، وقد لاحظنا ذلك في قضية الكاتب السعودي جمال خاشقجي ومحاولة الإنقلاب ضد الرئيس أردوغان وكذلك إقامة تركيا لقاعدة عسكرية في قطر لمواجهة ما تردد عن مخطط لـ “غزو” سعودي – مصري للدوحة، حيث كانت أنقرة الحامي من هذا المخطط، سواء كان ظنياً أو كان حقيقياً، في حين أن الرئيس ترامب أعلن عن ذلك بنفسه وطلب من السعودية ومصر عدم المضي فيه. في المقالبل، كسبت تركيا الكثير لدى قطر بموقفها هذا، والمؤكد أنها لن تشعر بالإرتياح بسبب المصالحة الخليجية الأخيرة لولا أنها تدرك أنها مصالحة “شكلية” لا تعالج الجذور ولا تنهى الأزمة، كما أشرنا في مقال سابق.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: الخليج الجديد – موقع رؤية تركية.
موضوع ذا صلة: السياحة العربية بين تركيا وإسرائيل