إعداد: يارا انبيعة
منذ مطلع القرن الماضي كانت السياحة في بلاد الشام والجزيرة العربية تتجه نحو “الأستانة” لسببين؛ إما لطلب العلم في جامعات اسطنبول، او للإلتحاق بـ “الأخد عسكر” اذ لم يكن هناك سبب ثالث قبل ان تخلق تركيا الحديثة اسباباً اخرى لزيارتها، منها وابرزها صناعة السياحة.
هذا القطاع، يعد من الأمور التي تزعج الكثير من دول المنطقة لا سيما اسرائيل التي تعول عليه من اجل غايات سياسية، ابرزها مسألة التطبيع، في وقت تسير العديد من الدول العربية في هذا الإتجاه.
“غول” سياحي
قال رئيس اتحاد وكالات السياحة التركية “تورساب”، فيروز باغلي قايا، ان قطاع السياحة في بلاده يستهدف جذب 40 مليون سائح، بعائدات تتجاوز 30 مليار دولار خلال العم 2018، ويعتقد قايا، في مقابلة مع وكالة “الأناضول” على هامش فعاليات اسبوع السياحة التركي، ان “عام 2018 سيكون مهماً جداً بالنسبة للسياحة التركية، وسيكون نقطة تحول في ظل التوقعات بقفزة كبيرة في الأعداد والعوائد”، مشيراً الى اهمية هذا القطاع كونه “سيسهم من دون شك في تقدم تركيا على التصنيفات العالمية، الخاصة بالقطاع السياحي”، معتبراً ان بلاده تمضي بخطى واثقة نحو أهدافها فـ “البيانات الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة تؤيد صحة تطلعاتنا، اذ تشير الى زيادة بمعدل 34.91% في اعداد السياح القادمين إلى تركيا لأول شهرين من العام الجاري (2018)… وبفضل الطلب الزائد على السياحة من الدول الأوروبية ورابطة الدول المستقلة، التي تعتبر السوق الرئيسة بالنسبة لنا، نتوقع عوائد تتجاوز 30 مليار دولار بنهاية العام، اذ من المتوقع ان يصل معدل الإنفاق الشخصي للسائح لنحو 750 دولاراً.”
وبناء على الكثير من المعلومات، فإن معدلات الحجوزات الأولية على برامج السياحة تسير بشكل جيد، خصوصاً من السياح الألمان والروس، اذ ان هناك زيادة بمعدل 60% في حجوزات السياح من المانيا، وزيادة بنحو 30% بالنسبة للسياح الروس حيث من المتوقع ان يدخل السياح الألمان والروس في “منافسة شرسة” بينهما من حيث عدد الوافدين الى تركيا حيث تصل اعداد السياح الوافدين من البلدين بحدود 6 ملايين سنوياً.
اما بالنسبة الى الوافدين العرب، فلقد اشارت العديد من التقديرات الرسمية التركية، العام 2017، الى قدوم حوالي 2.2 مليون سائح عربي في ثمانية اشهر بزيادة نسبتها 34% عن العام 2016. وعلى سبيل المثال، تعد تركيا من اهم الوجهات السياحية المفضلة للمواطنين البحرينيين الذين ارتفعت اعدادهم من 491 سائحاً، في العام 2000، الى اكثر من 32 الفاً، في العام 2015.
وبالنظر الى تصريحات وزير السياحة التركي، نعمان قورتولموش، تتطلع تركيا الى كل من الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان واندونيسيا وماليزيا على انها اسواق سياحية جديدة يمكن الإستفادة منها، اذ ان الصين ستكون من اهم شركاء بلاده في مجال السياحة خلال فترة قريبة جداً، مشيراً الى ان الوزارة نظمت اكثر من 60 فعالية تعريفية في جميع ارجاء الصين، وذلك في اطار عام “السياحة التركية في الصين”.
وتجدر الإشارة هنا الى موضوع في غاية الأهمية وهو وقوع تركيا على “طريق الحرير” الصيني الى اوروبا، مما يعني ان التواصل عبر سكك الحديد، وليس فقط من خلال الجو، سيزيد من اعداد القادمين من الشرق الأقصى، سواء على صعيد السياحة او التجارة، اذ تعد أنقرة “صين” الشرق الأوسط.
أرباح بالجملة
قبل العام 2011 واندلاع الأزمة السورية، كان السياح العرب، وخصوصاً الخليجيين منهم، يقصدون الكثير من المناطق في سوريا ولبنان ويفضلونها على اخرى كثيرة في الشرق الأوسط لا سيما مع امكانية الوصول الى البلدين عن طريق البر، مروراً بالأردن، ما يوفر الكثير من مصاريف التنقل، اذ تستطيع عائلة بأكلمها ان تستقل سيارتها متوجهة الى دمشق او بيروت بكلفة اقل من تذكرة سفر لشخص واحد.
ومع انقطاع هذا الطريق، اصبح التوجه الى بيروت، بالتحديد، مكلفا جداً بسبب غلاء تكاليف السفر مما اثر سلباً على الاقتصاد اللبناني كون السياحة تعتبر احدى ابرز القطاعات التي تدر اموالاً للخزينة، حيث كانت تقوم الشركات السياحية بتقديم عروض مغرية لإستقطاب السياح، لا سيما العرب منهم.
وبنظرة بسيطة، يمكن القول بأن من يريد استقلال طائرة الى بيروت، مع طول مدة السفر بسبب تحويل مسار الطائرات فوق سوريا والعراق تجنباً للأعمال القتالية، يفضل ان يستقلها الى تركيا خصوصاً ان التكاليف الإضافية، ان لم تكن معدومة بسبب المغريات والعروض التي قدمتها الشركات سواء السياحية او الخدماتية او الطيران، لن تثقل كاهله مادياً اذ استطاعت أنقرة لفت انتباه السياح، وتحدياً العرب بما فيهم اللبنانيين انفسهم.
ومع اقفال المعابر الحدودية، على غرار معبر نصيب بين الأردن وسوريا، قطعت خطوط تجارة الترانزيت من لبنان الى الدول العربية وبالعكس حيث تسبب ذلك في خسائر اقتصادية كبيرة ابرزها تضرر القطاع الزراعي اللبناني بشكل كبير. ومع ارتفاع كلفة النقل البحرية والجوية، عادت الانظار الى تركيا مجدداً لتكون البديل القادر على الولوج الى تلك الأسواق بما تمتلكه من امكانات ومقومات ضخمة.
من هنا، كانت تركيا “الرابح الأكبر”، فيما كانت اسرائيل “العين” التي ترصد هذه الأرباح.
حملات مقاطعة
مع اقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية والنيابية في الصيف الفائت (2018)، دعا ناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي، في عدد من الدول العربية، الى مقاطعة السياحة التركية من خلال هاشتاغ “مقاطعة السياحة التركية”، حيث اوضحت شبكة “بي.بي.سي عربية” ان ذلك اتى كردٍ على العلاقة السيئة بين انقرة وبعض العواصم العربية لا سيما مع تردي الأوضاع الأمنية وزيادة نسبة الإنتهاكات بحق السياح العرب فيها.
فمع اندلاع الأزمة الخليجية ووقوف أنقرة بجانب الدوحة خصوصاً مع ارسالها لقوات عسكرية مقاتلة، توترت العلاقات بين تركيا وعدد من الدول العربية، ناهيك عن بعض ازمات الشرق الأوسط، وموقفها من جماعة “الإخوان المسلمين”، في مصر بالتحديد، حيث تضررت صناعة السياحة فيها بشكل ملحوظ بسبب المخاوف الأمنية والخلافات السياسية مع كثير من دول العالم في السنوات الأخيرة لا سيما وان هذا القطاع كان قد بدأ يتعافى من ازمة حقيقة سببها اسقاط المقاتلة الروسية “سو – 24” فوق الأراضي السورية وقتل الطيَّار، مما اوقف تدفق السياح الروس اليها وبالتالي فقدت اموالاً طائلة.
“سكة السلام” أم “سكة الحجاز”؟
عرض وزير المواصلات والنقل الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، خطة تسمى بـ “سكة حديد السلام” للربط بين اسرائيل ودول الخليج العربي، وقال كاتس، خلال مؤتمر للنقل والمواصلات في سلطنة عمان، ان “هذه الخطة منطقية، وهي فوق الخلافات السياسية والإيديولوجية”، مشدداً على ان ادارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تدعم الخطة التي تستند الى فكرتين مركزيتين وهما “اسرائيل كجسر ارضي، والأردن كمركز نقل اقليمي”.
هذا المشروع، بحسب كاتس، سيخلق طريقاً تجارياً اضافياً في المنطقة يسهل عملية الإنتقال بشكل اسرع وارخص، ويدعم اقتصاد كل من الأردن والفلسطينيين واسرائيل والدول الخليجية. واستطرد كاتس ان “خطة سكة السلام تنص على ان تشكل اسرائيل جسراً برياً مع اوروبا، وتصبح الأردن مركزاً لنقل البضائع”، مضيفاً ان المشروع سيعود بالنفع على الكثير من الدول الخليجية والعراق ايضاً، في المستقبل.
يأتي ذلك في جو من “التشنج الإستراتيجي” بين العديد من الدول العربية وتركيا بسبب ازمات المنطقة، حيث تحاول الأخيرة استعادة امجاد الدولة العثمانية يقابلها صعود سياسي خليجي رافض كونه “الأحق” بقيادة العالم الإسلامي والعربي من التركي “المتطفل”.
عن هذا المشروع، يقول الباحث السوري، سمير حافظ، ان “المشروع الإسرائيلي يشكل محاولة خبيثة لسرقة فكرة خط حديد الحجاز (هو سكة حديد تصل بين مدينة دمشق والمدينة المنورة في منطقة الحجاز مرورا بالأردن) الذي انشأته الدولة العثمانية قبل اكثر من قرن، وربطت من خلاله الدول الإسلامية، ما اثمر ازدهاراً للمنطقة وأهلها، ووفر الحماية لها”، معتبراً انه “سرق” فكرة المشروع الإسلامي الذي خطط له قبل اكثر 100 عام.
ليس هذا فحسب، بل يرى حافظ ان “اي فكرة تأتي من اسرائيل، وراءها مؤامرة، ومشروعها سواء كان من حيفا او من عسقلان بربطها بالعقبة، فإن تأثيره الإقتصادي واضح على الشرق الأوسط، وعلى قناة السويس، واستبعاد تركيا من تجارتها مع الدول الإسلامية والخليجية.” اما سياسياً، فهناك توجه لتقارب سياسي في المنطقة خصوصاً بعد الزيارات الأخيرة لمسؤولي الكيان لعدد من الدول العربية.
وكشف حافظ ان “المشروع يأتي من قبل مؤسسة أيباك الصهيونية، ضمن مشاريع ترمي لتفتيت الدول الإسلامية، بعد ان نجحوا بإبعاد السنة والشيعة عن بعضهم بعضاً، والآن يريدون تقسيم المنطقة، ومنع تركيا بإمكاناتها من دخول هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً… حيث سيؤثر بشكل واضح على الدول الإسلامية، ووراءه تقسيم. لقد بدأ الأمر بالعمل على تفتيت العراق وسوريا واليمن، وبهذه الحالة تقوى اسرائيل، وصولاً الى تقسيم الجزيرة العربية.”
تنافس على نار حامية
يرى الكثير من المحللين بأن اعداد اسرائيل لخطط مشتركة، على ابواب ما يعرف بـ “صفقة القرن”، سيصيب تركيا في الصميم خصوصاً اذا ما نظراً الى الآتي:
– موقع اسرائيل على اطراف المشرق واتصالها بأفريقيا عبر شبه جزيرة سيناء ما يجعلها صلة وصل بين القارتين، وهو احد الأسباب التي تم على اساسها اختيار فلسطين لإقامة هذا الكيان.
– مشروع قناة البحرين، اي البحر الأحمر – الميت، المنطلقة من ايلات عبر البحر الميت (وصولاً الى البحر المتوسط فيما بعد) ما يعني ذلك من “ضربة قاسية” لقناة السويس بحيث ستكون محطة ترانزيت بين عدد من المحطات الدولية خصوصاً الشرق الأقصى، وكذلك الحال بالنسبة الى تركيا الى حين ان يتم تفعيل “طريق الحرير” بالطريقة المناسبة. وفي حال عدم تنفيذ هذا المشروع، فهناك مخطط بديل وهو سكك حديد ايلات – حيفا، مروراً بأشدود وتل ابيب، الذي سينشط ايضاً حركة تنقل الأشخاص ومرور البضائع.
– ان انشاء خط سكك الحديد سيشكل رافعة لقطاع السياحة الإسرائيلي خصوصاً لجهة قلة التكلفة، اذ يمكن للعائلات متوسطة وقليلة الدخل استقلال القطار بدل السيارة، وسرعة الوصول، كون الخط الحديد له مسار خاص به، اضافة الى فرق العملة.
– ان خطوط المواصلات تعتبر من اهم عناصر التواصل بين الشعوب، حيث ان الولايات المتحدة تم توحيدها عبر خطوط النقل والبريد، وهذا الأمر هو ما تعول عليه اسرائيل كثيراً لجهة تغلغلها في عمق الأراضي العربية.
– ان المناخ المتوسطي الذي يتمتع به المشرق ككل، سيسجل لإسرائيل هدفاً اضافياً في المرمى السياحي التركي خصوصاً وان أنقرة تقع على خط شبه قاري مما يقلل نسبة السياحة في الشتاء. اضافة الى المناخ، هناك العديد من الاماكن التي تشكل مصدر جذب للسياح، خصوصاً للعرب مثل الكازينوهات، وبالتالي سيشكل ذلك خسارة تدريجية لتركيا مع مرور الوقت.
– لا يمكن فصل تدفق السياح العرب الى اسرائيل، بل حتى الإستثمار في هذا القطاع، عن موضوع السياسات الخارجية لبعض الدول العربية التي تقع تحت التأثيرات الأمريكية حيث سيتم الدفع قدماً في هذا المجال من اجل الحفاظ على علاقات مميزة مع واشنطن. بالتالي، ستكون تل ابيب جاهزة لمثل هذا الحدث عبر توفير عروضات مغرية بهدف جذب اكبر عدد من الوافدين من دول غنية، كبعض الدول الخليجية، ما يعد ضربة موجعة للسياحة التركية.
تساؤلات مشروعة
في هذا الخصوص، يمكن وضع العديد من التساؤلات المشروعة وابرزها:
– لماذا لا يتم استثمار الأموال العربية في الدول العربية نفسها بدلاً من التوجه الى كيان لا ينفك عن وضع مخططات لتفتيت المنطقة، مذهبياً وطائفياً وعرقياً وجغرافياً، بين الفينة والأخرى من اجل ان يجد له “مكان بين الأمم” (عنوان كتاب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)؟
– أليس بالأجدى ان يتم ربط الدول العربية بخطوط سكك الحديد، من المغرب الى عُمان، مما يزيد التفاعل بينها في وقت هي بأمس الحاجة الى ذلك بدلاً من الربط مع ها الكيان؟
– هل ستسمح التطورات الدولية وتشابك السياسات الإقليمية والمحورية بإعطاء قدرة لهذا الكيان لـ “الإستمتاع” بجو من الهدوء والأمن حتى يستطيع تنفيذ سياساته التي دائماً ما تبوء بالفشل الإستراتيجي؟
– بالرغم من تدعايته في الخارج، فإن هذا الكيان لم يستطع توفير جو من الأمن (حتى لمواطنيه وابرز مثال على ذلك الاحداث الأخيرة مع غزة المحاصرة) الذي يتطلبه هذا القطاع. ففي الحرب على لبنان العام 2006، قدم اكثر من 300 الف مستوطن طلبات للهجرة خارج اسرائيل. فكيف سيكون الحال مع اية مواجهة مقبلة (على سبيل المثال تفاقم قوة حزب الله اللبناني بعد الحرب السورية وتطور قدراته العسكرية، لا سيما الصاروخية منها لتطال كافة المناطق، على لسان مسؤولي الكيان انفسهم)؟
مصدر الأخبار: سيتا – وكالات.
مصدر الصور: الإقتصادية – موقع المرسال – موقع “أحوال” التركي.