د. عبدالله الأشعل*
كنت أظن أن الدعوة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل لا تسمع وتقرأ إلا في الصحف “القومية” التابعة للحزب الوطني، ولكني فوجئت بأن هذه الصحف بعيدة عن هذه النغمة شكلاً لكنها تساند فى المضمون موقف الحكومة من إسرائيل، والذي يحرص على دعمها مع ترك مساحة للإعتقاد بالوطنية بهذا الموقف أي معارضة التطبيع شكلاً.
لكن القيام ما هو أهم من التطبيع يكمن في الدعم والإسناد. ففي الوقت الذي تحرص فيه نفس الحكومة على نغمة مفضوحة عنوانها “دعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة”، يتم تصفية القضية بإنتظام. وقد عجبت وتحيرت عندما وجدت بعض الكتَّاب المنتظمين فى إحدى الصحف “المستقلة” يجند نفسه وقلمه للدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل وإقامة سلام معها، منتقداً بشدة فريق المتشددين “العناترة” الذين يتحدثون ببلاهة دون أن يتناسب قولهم مع فعلهم. فلقد أكدت هذه الأقلام أن الدعوة إلى التطبيع هي الفاصل بين المتحضرين والمثقفين وبين المتخلفين والجهلة. وذكرني هذا التصنيف بتعريف كلمة “المثقف”، في ستينات القرن الماضي، عندما كان المثقف هو اليساري أو الشيوعي، وهو في الوقت نفسه ينسجم مع عقيدة النظام في المطالبة برفع الظلم عن الفلسطينيين ورفض المشروع الصهيوني.
لا أدري على وجه اليقين هل تفتح بعض الصحف صدرها لهؤلاء من منطلق حرية الفكر؟ أو أن بعض الصحف تسرب هذا الفكر “الخلاق” كمبدأ والتزام؟ أو أنها تريد أن تكون ساحة لكل التيارات السياسية والدينية مهما كان رأيها فيها؟ هنا، أنا لا أصادر حق الصحيفة في إستقطاب مثل هذه الأقلام حتى لو إتهمت بأنها “وكر” للفيلق العربي – الصهيوني. لكن من باب الأمانة وعدم التلبيس على القارئ المسكين، يجب التنبيه حتى يميز بين الأفكار، فيبلع أفكار الفيلق من منطق إطمئنانه إلى رصانة الصحيفة، أي أننا يجب ألا نخدع القارئ ونصدمه ونخون أمانة توعيته، وهو عليه أن يختار ما يشاء بعد ذلك.
المدهش أن هذا النوع من الصحف قد إجتذب القارئ إليه بحملاته ضد الفساد وإستقطاب أقلام قومية تكتب بإنتظام، وتلح في المطالبة بالإصلاح. ووسط هذا “الأمان” الفكري، تتسلل الرسالة السامة التي يبثها هؤلاء، فيتم إبتلاعها ضمن الوجبة “الوطنية الساخنة”.
بالنسبة لي، لا أمانع أن تكون الصحيفة مرتعاً للغزلان ووطناً للأوثان وديراً للرهبان وحتى الشواذ، لكنها يجب أن تفتح نقاشاً مع هؤلاء. لقد حاولت جاهداً أن أفهم منطقهم ولماذا يدعون إلى التطبيع؟ وهل يدركون كل ما ندرك وينطلقون من نفس المنطلقات أم أن بداياتهم تختلف عن بداياتنا؟ بعبارة أخرى، هل هناك حجج حقيقية يمكن النقاش حولها أم أنه موقف مصلحي أو نفعي أو يتسم بالجهل بالحقائق؟
ومع ذلك، فإنني أول المرحبين بالحوار معهم. أنا على يقين أنهم بعد أن كانوا يتوارون، فإنهم يتكاثرون في هذا الزمان، لكنني واثق أن نور الحقيقة سوف تبدد ظلامات ما يأفكون، وهم يدركون قطعاً أنهم أصوات شاذة. شخصياً، لا أريد أن أكفرهم سياسياً قبل الحوار معهم، كما لا أريد أن أتهم الصحف التي تفتح لهم صفحاتها بإنتظام للإطلال على القارئ المسكين، لكني أريد أن أنبه القارئ إلى السم الذي ينفثونه في جسد الصحافة المصرية العربية.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: الحرة.
موضوع ذا صلة: التطبيع بين الدين والسياسة