خاص “سيتا”*
الكاتب والمفكر ميشيل حنا الحاج**
من المرجَّح بل ومن المؤكد أن السلطة الوطنية الفلسطينية، ستطرح قضية هذا الاعتراف الأميركي غير القانوني والشرعي، أمام المحافل الدولية بما فيها مجلس الأمن والمحاكم الدولية. ولكن هل يمكن أن تُقدم بعض الولايات الأميركية أيضا، على الطعن بالأمر التنفيذي الذي وقعه ترامب.. تطعن به أمام المحاكم الأميركية العليا، كما فعلت بالنسبة لقراره التنفيذي الخاص بحظر السفر إلى أميركا على رعايا ست دول أو أكثر ذات اغلبية إسلامية؟ فقد طعنت فيه ولاية واشنطن وولايتي كاليفورنيا ومريلاند وفرجينيا وولايات أخرى. وقد نجحت هذه الولايات في وقف تنفيذ ذاك الأمر التنفيذي لتسعة شهور تقريباً، اضطر معها الرئيس ترامب لإعادة صياغة أمره التنفيذي مرة ومرتين بل وثلاث، مع إجراء تعديلات كثيرة عليه لجعله أكثر قبولا، مما أدى في نهاية الأمر إلى إقراره بصيغته المعدلة كثيراً، من قبل كبرى المحاكم العليا الأميركية، مع بقاء حق لبعض الولايات بالطعن فيه أمام محاكم الاستئناف.
واستندت الولايات التي طعنت في القرار، إلى عدم قانونيته وإلى عنصريته، نتيجة ما تضمنه من تمييز ضد المسلمين، خلافا للمبادىء القانونية السائدة في الولايات المتحدة التي تحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الدين.
وعدم القانونية هذه، قد تكون أيضاً ماثلة في القرار التنفيذي الأخير الصادر عن الرئيس ترامب، والخاص بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما رافقه من قرار بنقل السفارة الأميركية فوراً من تل أبيب إلى القدس تأكيدا لقراره ذاك. فهذا الأمر التنفيذي كسابق قراراته السابقة، تشوبه أيضاً عيوب قانونية، أهمها تناقضه مع قرارات دولية، إضافة إلى تعارضه مع اتفاقات دولية رعتها الولايات المتحدة والتزمت بها. فهذا قد يتيح الفرصة لبعض الولايات غير الراضية عن قرارات الرئيس ترامب الارتجالية والمتعارضة مع رغبة الشعب الأميركي، ومع التزامات الولايات المتحدة الدولية، إضافة الى عدم رضاء هذه الولايات ابتداء عن رئاسة الرئيس ترامب للولايات المتحدة… يتيح لها الطعن أيضا بقراره الأخير هذا، أسوة بطعنها في قراره الشهير السابق. ومن هذه الولايات، ولايات واشنطن (غير واشنطن دي.سي)، ومريلاند، ونيويورك، ونيوجيرسي، وفيرجينيا وولايات أخرى متضررة من قرارت ترامب الارتجالية والضارة بالمصالح الأميركية.
فهذا الأمر التنفيذي لا يتعارض فحسب مع ما أشيع عن وجود “صفقة القرن” التي تتبناها الولايات المتحدة، بل يتعارض أيضا مع التزامات أميركية دولية كثيرة منها:
اولاً: تناقضه مع قرار مجلس الأمن رقم 242 القاضي بإنسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود عام 1967، أي إلى الحدود السائدة قبل الاجتياح الإسرائيلي. والمعلوم أن القدس الشرقية كانت من الأراضي التي احتلت عندئذ، وكانت آنئذ تشكل جزءاً لا يتجزأ من أراضي الضفة الغربية الواقعة آنئذ تحت سلطة المملكة الأردنية الهاشمية التي ضمت شرق نهر الأردن وغرب النهر، والتي تم فك الارتباط بينهما لاحقا، دون أن ينفي فك ذاك الارتباط، من كون الضفة الغربية بما فيها القدس، أراض محتلة إسرائيلياً منذ حزيران 1967.
ثانياً: يتناقض القرار مع اتفاقية وادي عربة الموقعة في تسعينات القرن الماضي (1994)، والتي رعتها الولايات المتحدة، حيث قضت الاتفاقية بالاعتراف بالأردن كحامٍ للأراضي المقدسة في القدس الشريف، وهو الالتزام الذي ناقضه الرئيس ترامب بإعترافه بالقدس (دون تحديد كونه يعترف بالقدس الغربية فحسب)، عاصمة لإسرائيل. فرغم فقرة أوردها في خطابه تشير إلى أن المقصود بحدود القدس المقصودة، يجري التفاهم عليه لاحقا، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، بالتأكيد أنه سيحترم حق كافة الطوائف بممارسة شعائرهم الدينية دون تعرض لهم من السلطات الإسرائيلية، مما يفهم معه أنه يعتبر القدس الشرقية، حيث توجد المواقع الدينية الإسلامية والمسيحية، جزءاً لا يتجزأ من عموم القدس، الأمر الذي سارع “نير بارك”، رئيس بلدية القدس الغربية، إلى تأكيده لقناة سي.أن.أن، قائلاً بأن القدس الموحدة هي المقصودة بالقدس التي اعترف ترامب للتو بها عاصمة لإسرائيل. فهي القدس الموحدة إذن، والتي يؤكد ويكرر رئيس بلدية القدس الغربية بأنها القدس الكبرى، هي المقصودة بذاك القرار، متناسياً حقيقتين هما بوابة “مندلبوم” التي كانت تفصل بين القدسين، والتي عبرها بحراسها الإسرائيليين في جانب والاردنيين في جانب آخر، كان يتنقل السكان والدبلوماسيون والسائحون القادمون إلى القدس الشرقية قادمين من القدس الغربية، أو العكس، إضافة إلى تناسيه قرار مجلس الأمن رقم 242 السابق ذكره.
ثالثاً: اتفاقية أوسلو التي وقعها في عام 1993 في واشنطن، العرب والإسرائيليون ورعتها الولايات المتحدة ممثلة برئيسها السابق بيل كلينتون. فهذه الاتفاقية قد أكدت على الحق الفلسطيني بالقدس الشرقية باعتبارها واحدة من الثوابت الفلسطينية التي لا يمكن التخلي عنها.
رابعاً: حق تقرير المصير الذي تقره كل القوانين الدولية. ففلسطينيو القدس الشرقية، قد أكدوا مراراً وعبر العديد من الانتفاضات على الاحتلال الإسرائيلي… أكدوا رفضهم للاحتلال وتشبثهم بعروبتهم وبعروبة القدس وفلسطينيتها. فهل هناك حق تقرير مصير أوضح من هذا؟
خامساً: المواقف الدولية المؤكدة لعدم شرعية هذا القرار وعدم قانونيته، لكونه مخالفاً لقرارات مجلس الأمن ولكل الاتفاقات والتفاهمات الدولية. ومن أبرز الدول المعترضة على القرار، الجمهورية الفرنسية، وكذلك بريطانيا وألمانيا وكندا إضافة إلى معظم دول العالم، علما أن بعض هذه الدول، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، بل وتركيا أيضاً، هي من أبرز الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، لكن مع الولايات المتحدة التي يرعاها رئيس متخبط طائش فرح بكونه رئيساً، كما يفرح الطفل بلعبة اشتراها، يؤكد مراراً بخطوات متسرعة، أنه رئيس فعلي ويمارس لعبة الرئاسة بطيش وتسرع، متأثراً بما توحي إليه به ابنته وزوجها اليهودي جيرارد كوشنر، وكل أثرياء الولايات المتحدة من اليهود الذين اشتروا له مقعد الرئاسة بملياراتهم، لا برضاء الشعب الأميركي الذي صوت بأكثر من ثلاثة ملايين صوت لصالح منافسته هيلاري كلينتون، علماً أنه قد ورد في فيديو وصلني ليلة أمس (ولا أدري مدى دقته)، يفيد أن كوشنر هو أحد المستوطنين اليهود ولديه منزل في إسرائيل.
فلم ينقذ الرئيس ترامب من مأزق عدم رضاء الشعب الأميركي عنه، إلا نظام الكلية الانتخابية الذي يسعى لإرضاء الولايات الصغيرة على حساب الولايات الكبيرة غير الراضية عن ذاك النظام (نظام الكلية الانتخابية)، كولايات نيويورك وكاليفورنيا ومريلاند وغيرها من الولايات الكبرى المغلوبة على أمرها نتيجة أعراف ونصوص دستورية، وأكثرها عدم رضاء ولاية كاليفورنيا التي تتداعى الآن لإجراء استفتاء في نيسان 2019، يقرر قاطنوها على ضوئه، البقاء في الولايات المتحدة أو الخروج من اتحادها العقيم، والذي يظلمها كثيراً لكونها أقوى الولايات الأميركية اقتصادياً، ومع ذلك لا يراعي النظام القائم مصالحها، بل يهملها إهمالاً يكاد يكون تاماً خصوصاً بالنسبة لاختيار الرئيس الصالح للبلاد، وذلك إرضاء للولايات الصغيرة المتشبثة بنظام الكلية الانتخابية، الذي أدى في عام 2016 لانتخاب رئيس لم يكن أكثرية الشعب الأميركي (كما دلّت أصوات المقترعين)، راضية عنه، وهم لم يزالوا غير راضين. إذ تكشف عدة استفتاءات حديثة، بما فيها استفتاء أجراه مركز “بروكينز” للدراسات الاستراتيجية، عن تدني شعبية الرئيس رونالد ترامب لتصل إلى 33% فحسب، مقابل 64% غير راضية عنه وعن نهجه السياسي المتخبط، والذي يؤكد انعدام خبرته السياسية الضرورية لإدارة البلاد بشكل صحيح، والتي أدت إلى رفضه وإلغائه (تقريباً) كل شيء صنعه سلفه خلال فترة رئاسته، لا لشيء إلا كثمرة لنهجه العنصري الرافض حتى لشرعية رئاسة الرئيس أوباما، لا لسبب إلا لكونه رئيساً اسود ينتمي للأميركيين الموصوفين بالأفريقيين.
سادساً: وهذه النقطة تستند إلى كونه قراراً له بواعث عنصرية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة للأسباب الموجبة التي استندت بعض الولايات الأميركية إليها في طعنها بقانونية الأمر التنفيذي الذي يحظر على رعايا عدة دول عربية ذات أكثرية إسلامية، من السفر إلى الولايات المتحدة. فالقرار التنفيذي الجديد قد حابى يهود إسرائيل، ليس استناداً إلى مؤثرات اللوبي الصهيوني اليهودي الأميركي فحسب، بل أيضا نتيجة عنصرية الرئيس الأميركي التي بدت واضحة خلال حملته الانتخابية والتي تعادي العرب والمسلمين، والتي بدت واضحة في قراره التنفيذي الخاص بحظر السفر إلى أميركا على رعايا بعض الدول ذات أكثرية المسلمة السابق ذكره، وتكرر الآن في قراره التنفيذي الأخير بمحاباته إسرائيل، كرهاً منه للعرب وللمسلمين وللفلسطينيين.
سابعاً: خطوته المتسرعة تلك، كي لا أقول “الغبية”، قد أنهت دور الولايات المتحدة كوسيط في النزاع العربي -الإسرائيلي، والذي طالما تشبثت أو تظاهرت على الأقل، بالقيام به، وبالتالي وضعها في موقع الطرف المنحاز تماما وبشكل مكشوف، للطرف الإسرائيلي.
فهذا القرار المتسرع، قد شكل “وعد بلفور” آخر كما أسماه سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير. ومع ذلك فهو وعد أو تعهد قابل للتعديل وللاستدراك، بالإيضاح أن المقصود هو الاعتراف بالقدس الغربية فحسب كعاصمة لإسرائيل، مما يخفف من وطأة القرار وضرره على الشعب الفلسطيني خاصة، وعلى العرب والمسلمين عامة، علما بأنه قد أفرز نتائج غير مرضية لحلفائه في دول الخليج. فطالما سعت المملكة السعودية للعب دور القائد للعالم الإسلامي، وها هو الآن الرئيس أردوغان يطرح نفسه منافساً على قيادة العالم الإسلامي، بدعوته لمؤتمر قمة إسلامي يعقد في تركيا. فبعد أن كانت السعودية تخطط مع الولايات المتحدة، ويقال مع إسرائيل أيضاً كما يردد البعض، لخوض حرب ضد إيران في مسعى لتأكيد موقع السعودية كقائدة للعالم الإسلامي، بات عليها الآن أن تخوض أيضاً حرباً من نوع ما ضد تركيا أيضاً (المتحالفة كذلك مع قطر)، والتي باتت مستندة لتحالفها مع روسيا الاتحادية، تسعى لانتزاع موقع القيادة للعالم الإسلامي، من كل من السعودية وإيران في آن واحد.
فما هو الحل إذاً للوضع المتأزم، والذي ازداد الآن تأزماً بعد قرار ترامب الارتجالي؟
لا حل يبدو بالأفق غير تراجع الرئيس ترامب عن قراره التنفيذي المتسرع، وإجراء تعديل عليه، كما أجرى تعديلات متكررة على قراره الخاص بحظر السفر إلى أميركا على رعايا بعض الدول ذات الأغلبية السكانية من المسلمين… يقصره على القدس الغربية كعاصمة لإسرائيل. وقد جاء التعديل الأول سريعاً لذاك القرار على لسان ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي، الذي أكد بأن نقل السفارة إلى القدس، لن يجري قبل عام أو عامين على الأقل. فهل ننتظر اذن التعديل الثاني للقرار المرتجل، وهو التعديل المحدد بالمقصود بالقدس عاصمة لإسرائيل، ليقول بأنه القدس الغربية فحسب، ولا يشمل القدس الشرقية التي تحدد المفاوضات الثنائية اللاحقة ضمن مفاوضات السلام الشاملة، حدود القدس الإسرائيلية، أو المعتبرة إسرائيلية؟
*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم تاريخ 9/12/2017. وبناء على طلب من الكاتب نفسه، ينشر موقع “سيتا” المقال ايضاً على أنه خاص كون الكاتب قد أضاف إليه معلومات جديدة لم تذكر في المقال الأول المنشور. اقتضى التوضيح
**العضو في مركز الحوار العربي الأميركي في واشنطن، المستشار في المركز العربي الأوروبي لمكافحة الإرهاب في برلين.
مصدر الصور:
The Missouri Times – الحياة – 6abc.com