يعتبر البحر الأبيض المتوسط واحداً من أكثر النقاط الجيو – سياسية أهمية في التاريخ نظراً لموقعه الجيو – سياسي بين ثلاث قارات، آسيا وأوروبا وإفريقيا، كما يطل على 22 بلداً. هذا الحوض المائي الضخم الذي يمتد على مساحة تفوق 2.5 مليون كلم2، يفصل جنوب أوروبا عن شمال إفريقيا وغرب آسيا. سمح له هذا الموقع بأن يكون دائماً طريقاً بحرياً هاماً تمر منه عشرات الملايين من الحاويات في كل عام، محملة بشتى أنواع البضائع.
يتميز موقع البحر الأبيض المتوسط بخصائص جغرافية خاصة به، حيث أنه يعتبر بحراً مغلقاً لا يمكن العبور إليه إلا من خلال مضائق معينة؛ حيث يوجد مضيق جبل طارق في الغرب ما بين إسبانيا والمغرب، ومضيقي البوسفور والدردنيل في الشمال الشرقي عبر تركيا، وقناة السويس في الجنوب الشرقي عبر مصر. إضافة إلى ذلك، ينقسم البحر المتوسط في الوسط إلى قسمين من خلال مضيق بين بعض الجُزر، مالطا وصقلية. كل هذه المضائق تشبه عنق الزجاجة أو النقاط الخانقة، التي تحد من الملاحة البحرية وتسهل السيطرة عليها.
لذلك، شكلت هذه المضائق دائماً أهمية استراتيجية تتنافس عليها مختلف القوى الكبرى، حيث تنظر إليها على أنها نقاط يمكن غزوها والسيطرة عليها، واستخدامها كنقاط دفاع، وأبواب مفتوحة نحو بقية العالم. وبفضل هذا الموقع المتميز، إكتسب المتوسط أهمية إستراتيجية كبيرة منذ فجر التاريخ، إذ شهد صدامات وحروب امبراطوريات وتفاعل حضارات احدثت “لاقحاً” ثقافياً وسياسياً وتبادلات تجارية واقتصادية ضخمة، كما ظلت مضائقه موضع صراع بين الدول والأمم الساعية للسيطرة على العالم، إذ كانت ممرات حيوية للجيوش وللهجرات، وهو ما يُفسر التنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري الهائل للحوض وهو ما جعل مؤرخي وعلماء الاجتماع يؤكدون أن بعض الحضارات مدينة بصعودها للنجاح في السيطرة على هذا البحر، فاطلقوا عليه إسم “مركز العالم”.
بسطت الإمبراطورية الرومانية هيمنتها عليه لعدة قرون، وتمكنت من رسم طرق الملاحة البحرية في المتوسط والسيطرة على الدول المجاورة. أيضاً، خاضت الامبراطورية الفينيقية حروباً مع الامبراطورية الرومانية للسيطرة عليه بعد انتقال مركزها إلى قرطاج، بقيادة هنيبعل. وأبان الفتح الاسلامي، أدركت الدولة الفاطمية جيداً أهمية المتوسط وسعت منذ تأسيسها للسيطرة عليه، في ظل سيادة في الشرق للعباسيين، وسيادة في الغرب والأندلس للأمويين، وسيادة للبيزنطيين على أوروبا، الأمر الذي دفعهم إلى بناء أسطول بحري كبير مكّنهم من بسط نفوذهم على الجزء الأكبر من هذا البحر. وأبان الحربين العالميتين، واصلت القوى المتصارعة في أوروبا المحاولة للسيطرة على هذا البحر إلى حدود القرن الـ 21 وحتى الآن؛ وإن تغيرت المسميات والدول، إلا أن الجميع يتفق على أن البحر المتوسط يعد “ملعباً إستراتيجياً” بالغ الأهمية وتتقاطع فيه مصالح الدول الكبرى، وتتموضع فيه أساطيلها البحرية.
ولمواكبة الدور التجاري الكبير للمتوسط، بُنيت على سواحله موانيء تجارية ضخمة، أهمها ميناء بيرايوس اليوناني، وميناء الخِثِيراسْ (أو “الجزيرة الخضراء”) الإسباني في مقاطعة قادس في جنوب إسبانيا إلى جانب طنجة في المغرب، “طنجة ميد”، وميناء الحمدانية بمنطقة شرشال بالجزائر، وميناء الاسكندرية في مصر واللاذقية في سوريا وبيروت في لبنان وغيرهم.
لكن مزايا البحر الأبيض المتوسط لم تتم ترجمتها إلى ديناميكية اقتصادية بالنسبة للبلدان المطلة عليه، إذ أن الحواجز الجمركية والتحالفات السياسية وانعدام الاستقرار في بعض البلدان إضافة إلى تحديات الهجرة والتغير المناخي والتوترات بين الدول المطلة عليه تحول دون تحقيق ذلك.
يواجه حوض البحر الأبيض المتوسط بعض التحديات الخطيرة، إذ أن طرق التجارة الجديدة، مثل تلك التي فتحت مع ذوبان الجليد جنوب القطب الشمالي أو اكتمال مشروع “طريق الحرير” الجديد، سوف تنافس البحر الأبيض المتوسط وتسرق منه جزء من أهميته، هذا من جانب.
على الجانب الآخر، هنالك أيضاً تهديد المنظمات المتطرفة، وهو خطر تزايد بسبب الحربين الليبية والسورية، وبدأ يتفشى في البلقان ومصر وشمال إفريقيا. وفي منطقة الساحل الإفريقي، تعاني أغلب الدول من الاضطرابات المزمنة، التي تسمح بتوسع نشاط وعمل الجماعات المتطرفة والمنظمات الإجرامية، التي تمكنت من إقامة طرق للتهريب والمتاجرة بالأسلحة والبشر.
كل هذه التحديات، أدت إلى تراجع دور البحر المتوسط. إلا ان عاملان مهمان ظهرا بداية هذا القرن غيّرا المعادلة اعاداه غلى محور تنافس دولي، وهما:
العامل الأول: اكتشاف مخزونات ضخمة من الغاز في البحر المتوسط
غيّر الغاز المعادلة الجيو – سياسية في شرق المتوسط ليستعيد اهميته الاستراتيجية بين الدول الاقليمية والدولية المتنافسة على الطاقة والموانئ وخطوط التجارة العالمية، إذ أن اكتشاف مخزونات هامة منه، في المياه السورية واللبنانية والفلسطينية والقبرصية والمصرية، فتح الباب أمام الصراعات الإقليمية بين قوى محلية وازنة ترغب في استغلال وتسويق الغاز، مثل إيطاليا وقبرص واليونان ومصر والكيان الإسرائيلي (الذين اقاموا مشروع إنبوب “ايست ميد” لنقل الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا بدعم بريطانيا والولايات المتحدة)، وبين تركيا التي تم اقصاءها عن هذا المشروع لإحياء الصراعات القديمة المتجددة للسيادة على المياه مع كل من اليونان وقبرص وليبيا لتعطيل المشروع والزامهم بإمراره عبرها. إضافة إلى ذلك، شهدت السنوات الأخيرة دخول لاعبين عملاقين جديدين، هما روسيا والصين، وفرض حضورهما معادلات جديدة، ولو أنهما يعتمدان إستراتيجيات مختلفة تماماً.
تمكنت روسيا من اقتناص فرصة الحرب الأهلية في سوريا، التي تدخلت فيها لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، لتعزيز حضورها في البحر الأبيض المتوسط من خلال قاعدتين عسكريتين؛ هما ميناء طرطوس والقاعدة العسكرية حميميم في اللاذقية، واتفاقها مع الدولة السورية الاستخراج الغاز. اضافة إلى اتفاقها مع كل من إيران وتركيا، عبر منصة “أستانا” للحل في سوريا وتحويل تركيا إلى شريك ثانٍ ومستودع لضخ الغاز إلى أوروبا عبر انبوب “السيل الأزرق”، بجانب أنابيب “السيل الشمالي 1 – 2” عبر ألمانيا إلى أوروبا أيضاً، ناهيك عن اتفاقاتها الطاقوية مع الجزائر، ومشاركتها في الحرب الليبية من خلال مرتزقتها – فاغنر الداعمة للمشير خليفة حفتر، ومشاركتها في الاجتماعات واتفاقات السلام في هذا البلد؛ كل تلك المعطيات ستسمح للحكومة الروسية بالحصول على الأسبقية فيما يخص الموقع الممتاز لهذا البلد وثرواته الطبيعية بعد نهاية الحرب، مما يضمن لها تعطيل المنافسة لشركتها “غاز بروم”، التي تزود اوروبا بـ 40%من حاجتها للغاز سنوياً.
العامل الثاني : ضم الصين البحر الأبيض المتوسط إلى استراتيجيتها – “الحزام والطريق”
بعد اطلاق الرئيس الصيني مشروع “الحزام والطريق” (سبتمبر/أيلول 2013)، وهو مبادرة صينية لإحياء “طريق الحرير القديم” الذي يربط بين الصين وأوروبا مروراً بالمشرق العربي بطول يتعدى عشرة آلاف كيلومتر، يشمل بناء مرافئ وطرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. وتتضمن المبادرة السيطرة على سلسلة الموانئ الحيوية، وتتعدى العالم المادي إلى الافتراضي بإستحداث الصين شبكة ألياف ضوئية وطرق إنترنت جديدة عبر شبكة الجيل الخامس ومن خلال شركة “هواوي”.
أيضاً، تشمل المبادرة إنشاء متنزهات علمية وجامعات ومصافي بترول ومحطات تحلية مياه البحر ومحطات توليد الطاقة الكهربائية والشمسية والصخرية وسكك الحديد والطرق والأنفاق والسدود وقواعد بحرية وعسكرية في كل الدول التي وقعت عليها وبلغت 60 دولة لغاية الآن. تحاول الصين، من خلالها، الوصول إلى 60% من سكان العالم لنقل بضائعها إليهم، وتشغيل عمالها وشركاتها واستثماراها وتأمين حاجاتها، وبالذات النفط والغاز، وايصال منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وإفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى، حيث تم تقدير القيمة المتوقعة لمشاريع المبادرة بـ 8 تريليون دولار.
ولما كان موقع البحر الأبيض المتوسط (الممر الأقصر الرابط بين القارات الثلاث، بات في صميم استراتيجية “الحزام والطريق” الصينية مما اعاد له دوره التنافسي كموقع استراتيجي يتحكم بحركة التجارة العالمية. تمظهر هذا الدور في الورقة السياسة العربية التي أصدرتها الصين، العام 2016، واعلانها إنها تأمل بأن يكون انخراطها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مفيداً لكل الأطراف، وحدّدت مجالات التعاون الممكنة ومنها الطاقة (أصبحت الصين مستورداً صافياً للطاقة وتستحصل على جزء كبير من هذه الواردات من الشرق الأوسط) بالإضافة إلى البنى التحتية كمجالَ تعاون آخر، مع استثمار الصين بكثافة في مشاريع مثل الموانئ والمناطق الصناعية في أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتمكنت الصين في السنوات الأخيرة من الاستحواذ على امتياز إدارة 87 ميناء بأحجام ومزايا مختلفة منتشرة على ضفاف المتوسط، أبرزها ميناء بيرايوس اليوناني، كما أصبحت مالكة أغلبية الأسهم في موانئ أخرى مثل فالنسيا في إسبانيا. كما أنها استثمرت في موانئ هامة مثل طنجة ومالطا إلى جانب موانئ إيطالية وحيفا في إسرائيل وبورسعيد وقناة السويس في مصر. وفي الجنوب، وسّعت بكين من نفوذها في إفريقيا وفتحت أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي، بمنطقة القرن الإفريقي. وهكذا تنوي بكين تأمين الملاحة البحرية في هذه المنطقة، لما تكتسبه من أهمية بما أنها تربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس.
الاستثمارات الصينية في بيرايوس.. غزوة “كوسكو” الأوروبية
في ربيع العام 2016، كانت اليونان بين فكي كماشة أزمة الديون السيادية الأوروبية، حيث مارس الاتحاد الأوروبي والجهات الدائنة ضغطاً على الحكومة اليونانية لتنفيذ الإجراءات التقشفية؛ لذلك، باعت اليونان، التي كانت تبحث عن الاستثمار باستماتة، إشرافها الكامل على ميناء بيرايوس، الميناء ذي الطوابق والذي كان مرتبطاً بأثينا في يوم من الأيام عبر أسوار محصنة، إلى شركة “كوسكو” الصينية للشحن، وهي شركة مملوكة للحكومة الصينية.
بموجب الصفقة، حصلت “كوسكو” على 67% من أسهم هيئة الميناء مقابل 368.5 مليون يورو أو ما يعادل 429.5 مليون دولار. ارتفع صافي دخل الميناء خلال السنة الأولى، بعد تحكم الصين على تشغيله بنسبة 69%، إلى 11.3 مليون يورو، كما ارتفعت الإيرادات من المحطة النهائية للحاويات التابعة له بنسبة 53%. فعندما انخرطت “كوسكو” لأول مرة، أصبح ميناء بيرايوس سابع أكثر موانئ الحاويات ازدحاما في أوروبا، حيث بلغت كثافة الحركة فيه أكثر من 5 ملايين حاوية سنوياً؛ فقبل 10 سنوات، لم يكن حتى ضمن الموانئ الـ 15 الأولى في أوروبا.
مثّلت الصفقة علامة فارقة لسيطرة الصين تدريجياً على أحد أهم وأقدم المنافذ البحرية الأوروبية، فلقد كان الميناء وحوضه مكاماً لبناء السفن لحوالي 2500 عاماً، حيث ساعد أثينا لكي تصبح قوة بحرية عظمى في حينها.
من هنا، إن العلاقات التجارية لا تقف عند أرصفة الميناء فقط، فاليونان تستقبل قرابة نصف مليون سائح صيني، وهذا الرقم، أو حتى نصفه، اليوم بمثابة “حلم” لأية دولة أوروبية تلهث وراء استعادة القطاع السياحي لعافيته، بعد تداعيات وباء “كوفيد – 19” المستجد. وخلال السنوات الـ 15 الأخيرة، قام اليونانيون ببناء أكثر من ألف سفينة في الصين بقيمة تزيد على 15 مليار يورو.
في قلب بيرايوس، تسعى “كوسكو” لتطوير محطات الرحلات البحرية، وتزويدها بمركز للتسوق، وفنادق جديدة، وفي مكان بعيد حول خليج إليفسينا، كما ساعدت استثمارات الشركة على إعادة إحياء قلب الحزام الصناعي في ثرياسيو بلاين – غرب أثينا، وهناك مركز للعمليات اللوجستية مخطط، يربط الميناء عن طريق سكة حديد، ويمكن أن يصبح محطة للسلع المتجهة إلى الشمال عبر البلقان.
كللت هذه العلاقة الاقتصادية بزيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لليونان كانت محطة في زيارته البرازيل للمشاركة في حفل اختتام قمة بريكس، نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
الاهتمام الصيني بدول وساحل شرق المتوسط
لم تعد البلدان المطلة على البحر المتوسط وشركاء أوروبا وأمريكا وروسيا أصحاب المصلحة الوحيدة بالمتوسط، فالصين اليوم في مقدمة تلك القوى وتشارك في صناعة الطاقة وغيرها من قطاعات الاقتصاد. وعندما نفذت بكين مناورات عسكرية في البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب روسيا للمرة الأولى، شعر المجتمع الدولي بالذهول بسبب الظهور المفاجئ للقوتين هذه المياه، التي تعتبرها دول أوروبا والولايات المتحدة مناطق نفوذ لها، بين ليلة وضحاها.
أصبحت الصين المستثمر البارز في البنى التحتية للموانئ المطلة على البحر المتوسط، وآخرها ميناء طرابلس بلبنان. لا شك أن الوجود الصيني في المتوسط لا يزال حديثاً مقارنة بالوجود الغربي، وبحسب الباحث علي باكير فإن حجم التوسع المالي والاقتصادي والتجاري الصيني، وحجم الأموال والتجارة المتدفقة، بحسب التوقعات، يحضر للوجود العسكري الصيني والعمل على تأمين الكم المتزايد من الاستثمارات والمصالح “عسكرياً”.
أما السعى الصيني للتدخل المباشر في منطقة الشرق الأوسط المضطربة فهو لحماية مصالحها المتنامية هناك في ظل “الفشل” الأميركي؛ ليس فقط في إدارة الصراعات المتزايدة في هذه المنطقة، بل حتى في المساهمة في إنهائها حيث بدأت تترسخ قناعة لدى الصين مفادها أنه عليها التوجه نحو التدخل المباشر في الشرق الأوسط عوض الاستمرار في “البحث عن أرضية مشتركة في ظل الإبقاء على الخلافات”، وهي إيديولوجية تشير إلى إدارة الأزمات وليس حلها.
من هنا، اقترح الباحثان الصينيان البارزان، سون ديجانغ ووو سيك، أن تسعى الصين إلى تمهيد الطريق للتدخل بشكل أكبر في الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وهي منطقة مضطربة تهدد بالخروج عن نطاق السيطرة. وكان مقال ديجانغ ووسيك، الذي نُشر في مجلة سياسية صينية بارزة، جزءاً من رسالة صينية دقيقة موجهة إلى اللاعبين محذرة من جميع جوانب الانقسامات المتعددة في الشرق الأوسط.
أيضاً، يقول جيمس دورسي، الخبير في قضايا الشرق الأوسط والأدنى، إن “العلماء حددوا هدف الصين على أنه بناء آلية أمنية جماعية إقليمية شاملة ومشتركة تقوم على الإنصاف والعدالة والتعددية والحكم الشامل واحتواء الاختلافات”، وتابع “بشكل ضمني، عكست رؤية ديجانغ وسيك الإدراك المتزايد في الصين بأنها لم تعد قادرة على حماية مصالحها المتنامية حصرياً من خلال التعاون الاقتصادي والتجارة والاستثمار فقط، ومن ثم فإن الاستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إنشاء بنية أمنية شاملة ومتعددة الأطراف والتي يتعين على الصين أن تكون جزءاً منها.”
ويضيف دورسي “لكي نكون واضحين، لا تسعى الصين، مثل روسيا، إلى أخذ مكان الولايات المتحدة، بالتأكيد ليس من الناحية العسكرية كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط. ولكن بدلاً من ذلك، تهدف الصين بشكل تدريجي إلى الاستفادة من رغبة الولايات المتحدة في إعادة تنظيم التزاماتها الإقليمية من خلال استغلال جهود الأميركيين لتقاسم العبء مع شركائهم الإقليميين وحلفائهم.”
النفوذ الصيني الذي يمتد على 10 موانئ على الأقل في 6 بلدان على شرق المتوسط، فلسطين المحتلة واليونان ولبنان وتركيا ومصر وسوريا، وهو ما من شأنه أن يؤثر على قدرة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي – الناتو للمناورة في المنطقة. ولعل ذلك من بين الأسباب التي دفعت إدارة الريس المريكي السابق، دونالد ترامب، لتحذير الكيان الإسرائيلي من أن تدخل الصين في ميناء حيفا، حيث قام الصينيون ببناء رصيف خاص بهم، يمكن أن يعرقل استمرار الأسطول الأمريكي السادس باستخدام الميناء.
في العام 2013، ناقش “الكتاب الأبيض” للدفاع مهمات جيش التحرير الشعبي الصيني في حماية المصالح الخارجية، مشيراً إلى عمليات بكين لمكافحة القرصنة في خليج عدن وإجلاء مواطنيها من ليبيا. وتطرقت الورقة البيضاء للاستراتيجية العسكرية للصين، التي نشرت العام 2015، إلى “المتطلبات الاستراتيجية للدفاع عن المياه الإقليمية والبحار المفتوحة”. هذا واعاد “الكتاب الأبيض”، لعام 2019، التأكيد على دور الجيش في حماية مصالح ما وراء البحار Overseas Interests للصين، باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من مصالح البلاد الحيوية والاستراتيجية.
وهكذا، صار الجيش مدعواً للانخراط في تطوير آليات تدخله الأمنية والعسكرية وأدواته لحماية “الحقوق والمصالح المشروعة للشعب الصيني في الخارج”، بدءاً من جنوب شرق آسيا، مروراً بالخليج العربي – الفارسي والمحيط الهندي (عبر ميناء غوادار)، والبحر الأحمر (عبر قاعدتها العسكرية في جيبوتي) صولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.
هذا الموضوع أثار المخاوف بشأن إمكانية استخدام بكين لتلك الموانئ، التي تديرها أو تملكها في شرق البحر الأبيض المتوسط، من أجل خدمة مصالحها الاقتصادية والتجارية، وكذلك مصالحها العسكرية.
تعويل على تركيا
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وتحديداً العام 1993، تزايدت الدعوات التركية لتدشين خط سكك يهدف لربطها مع الشعوب التركية التي تعيش حول بحر قزوين من أجل زيادة الترابط الثقافي والاقتصادي بينها. وبرغم تعطله بسبب عدم وجود تمويل بعد رفض البنكين الدولي والأوروبي تمويله بحجة تجاهله ربط أرمينيا بالخط، إلا أن المشروع عاد للواجهه العام 2007 بعد توفير التمويل له من قبل تركيا وأذربيجان، وتم إفتتاحه العام 2017، حيث قامت الصين بالاندماج بذلك الخط عبر تمديد سكك حديدية من غرب الصين إلى كازاخستان، لتمرير بضائعها في بحر قزوين بعبارات إلى أذربيجان، ثم استكمال الطريق إلى تركيا عبر سكك حديد باكو – تبليسي – قارص، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، دخلت الصين في مفاوضات مع الحكومة التركية لتدشين المرحلة الثانية من المشروع لربط سكك حديد قارص بمدينة أدرنة، القريبة من حدود بلغاريا، كما افتتحت تركيا سكك حديد تربط إسطنبول بصوفيا، عاصمة بلغاريا، وقريباً إلى بلغراد، في حين بدأت الصين فعلياً بغعادة تهيئة خط سكك حديد يربط صربيا بالمجر؛ وعند اكتمال المشروع، ستتمكن الصين من نقل البضائع إلى أوروبا في 15 يوم فقط بدلاً من شهر ونصف.
من هنا، تحاول الصين المضي في عدة محاور بمشروع “طريق الحرير” مثل ممر غوادار الباكستاني، فضلاً عن سكك حديد تربطها بأوروبا عبر روسيا، إلا أن الطريق الأقصر والأكثر واقعية هو الطريق إلى الأناضول الذي يبدأ من غرب الصين إلى البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط عبر مضيق البوسفور، حيث يمثل النقل البحري الوسيلة الأرخص تكلفة لكثير من البضائع، وهو ما يدفعها إلى تعزيز العلاقات مع تركيا بشكل كبير.
وفي هذا الإطار، استحوذت شركة “كوسكو” الصينية على ميناء كومبورت، في بحر مرمرة شمال غرب تركيا، الذي يعد ثالث أكبر ميناء فيها مقابل مليار دولار، وذلك لتقديم خدمات ملاحية ولوجيستية للسفن المارة، كما استحوذت أيضاً على ميناء أمبارلي في إسطنبول.
ومنذ سنوات، أعلم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن رغبته في حفر قناة غرب إسطنبول موازية لمضيق البوسفور، الذي تتكدس أمامه السفن باستمرار فضلاً عن حوادث السفن نتيجة الضباب وضيق الممر، حيث تصل عدد السفن المارة في البسفور إلى أكثر من 50 ألف سفينة سنوياً، والتي تتعطل الملاحة فيه بشكل متزايد في ظل مشاريع الأنفاق والجسور والسكك الحديدية على جانبيه، مما يجعل من مشروع حفر قناة إسطنبول محاولة لتقليل الضغط عن المضيق فضلاً عن كونه مصدراً كبيراً للدخل، حيث من المتوقع أن تدر القناة دخلاً يتجاوز 8 مليارات دولار سنوياً.
فمع بدء ربط الصين ودول أسيا الوسطي عبر شبكة سكك حديدية سريعة مع تركيا والبحر الأسود، يتوقع أن يزيد عدد السفن إلى 100 ألف سفينة سنوياً، العام 2050، وهو ما يمهد لإعلان إسطنبول مركزاً تجارياً عالماً ينافس فرنكفورت ولندن ونيويورك.
أيضاً، تم الكشف من قبل وزير النقل والبنى التحتية التركي السابق، جاهد طورهان، عن مفاوضات تجريها تركيا مع شركات صينية حول مشاريع تعاونية مهمة في مجالات النقل والاتصالات والطاقة من بينها النقل بين المدن ومشاريع مترو الانفاق، حيث طورهان أن عدداً من الشركات الصينية أبدت اهتماماً كبيراً بهذه المشروعات ولكن لن يتم الكشف عنها قبل التوقيع على اتفاقية الإطار.
كما أشار طورهان إلى أن تركيا أولت اهتماماً كبيراً بمشروع “الحزام والطريق”، منذ اقتراحه لأول مرة، وقال أن المبادرة الصينية، ومشروع الممر الوسط أو ما يعرف بـ “طريق الحرير” الحديث، يمتلكان نفس الهدف حيث يمكن أن يكمل كل منهما الآخر، كما أكد بأن بلاده يمكن أن تصبح دولة محورية في المبادرة بسبب موقعها الجغرافي.
مصدر الصور: CGTN – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة عن قيادة العالم
رياض عيد
كاتب وباحث في العلاقات الدولية في “مركز سيتا” – لبنان