خاص “سيتا”

حيدر مصطفى*

بينما ينشغل العالم في متابعة “المشاغبات” الأمريكية على مختلف الأصعدة، يبدو واضحاً أن المملكة المتحدة تلعب على الهوامش ذات الحساسية العالية لحليفتها التاريخية الولايات المتحدة الأمريكية. لعبٌ يظهر حجم التباعد والاختلاف في التوجهات السياسية والاقتصادية لحلفاء الأمس أصحاب العلاقة الوطيدة، والتي برزت بشكل واضح على السطح بعد تسلم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئاسة البيت الأبيض.

تناقضات أم تباعدات، بدت واضحة مؤخراً ليس فقط بين واشنطن ولندن، وإنما أيضاً بين واشنطن وبرلين، وحتى واشنطن وباريس، عقب سلسلة من التصريحات العدائية المتبادلة بين الرئيس دونالد ترامب والمسؤولين الأوروبيين لا سيما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خصوصاً أن الادارة الأميركية تتهم ألمانيا ودولا أوروبية أخرى بالتوجه نحو تطبيع العلاقات مع روسيا.

والخلاف الأكثر وضوحاً بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين يكمن في رغبة الإدارة الأمريكية التملص من الاتفاق النووي، في وقت تشدد فيه تلك الدول على ضرورة الحفاظ عليه وعدم المساس به. فلا شك أن الرئيس ترامب كان سيعمل على تعطيل الاتفاق كلياً بين إيران والسداسية الدولية لو لاقى تجاوباً من قادة “القارة العجوز” اللاهثة نحو إحياء اقتصاداتها بإستثمارات جديدة تحرك الأسواق وتؤمن لها المزيد من مصادر الدخل. من هنا، يمكننا فهم التوجه الأوروبي نحو الانفتاح على إيران واتباع سياسة المد والجزر في العلاقة معها.

في ديسمبر/كانون الاول 2016، وصلت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى البحرين، وترأست قمة مع حلفائها الخليجيين، في زيارة هدفت منها لتوطيد العلاقة مع تلك الدول والحصول على المزيد من الاستثمارات والاتفاقيات الاقتصادية، في إطار تمتين التعاون لمواجهة الإرهاب ودعم تلك الدول لمواجهة ما وصفته آنذاك رئيسة الوزراء البريطانية بـ “الخطر الإيراني” على دول الخليج، وهي الحجة التي استثمرت فيها لندن كما استثمرت فيها واشنطن وغيرها من الدول، مستغلة حالة التيه الخليجي وغياب القدرة على صياغة قرار سياسي واقعي تعتمد فيه تلك الدول على قراءة منطقية للمتغيرات الدولية التي حصلت، وأهمها بروز إيران كلاعب إقليمي وقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها، ظناً منهم بأن التحالف بهذا الشكل مع البريطانيين والأمريكيين قد يسهم في إضعاف الدور الإيراني في المنطقة.

وقبل أيام أي في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017، خرجت ماي بتصريح هاجمت فيه التجارب الصاروخية الإيرانية ودعت إلى وضع حدود لها. كل ذلك يأتي في سياق سياسة المد أي الضغط على إيران من جهة والحفاظ على المكتسبات التي تم تحصيلها من دول الخليج لاسيما البحرين والسعودية، من جهة أخرى.

أما في سياق الجزر، حطت طائرة وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسن في طهران، صباح التاسع من ديسمبر/كانون الاول 2017، في زيارة يلتقي فيها كبار المسؤولين الإيراني، وسوق لها إعلامياً على أن الهدف منها البحث في الافراج عن إحدى المعتقلات البريطانيات، والتي تحمل الجنسية الإيرانية، كانت قد اعتقلتها السلطات في طهران سابقاً بتهمة التجسس ومحاولة زرع الفتنة. وفي الحقيقة، لهذه الزيارة أهداف اخرى أبعد من ذلك، فلبريطانيا جملة من المصالح مع إيران يمكن إجمالها في عدة نقاط، أهمها:

أولاً، لن تترك بريطانيا الساحة الإيرانية بما فيها من مكتسبات اقتصادية لدول أخرى في الاتحاد الأوروبي توجهت إلى طهران مباشرة بعد الاتفاق النووي لعقد الصفقات بمليارات الدولارات، وابرزها فرنسا.

ثانياً، استغلال التيه الخليجي والتخبط الأمريكي، لتحصيل على افضل العلاقات التجارية مع إيران والتي يمكن تثميرها سياسياً بشكل أكبر للضغط على الدول الخليجية.

ثالثاً، الرغبة الضمنية لبريطانيا والدول الأوروبية، لإزعاج الإدارة الأمريكية وتحديداً شخص الرئيس ترامب الذي يمارس ضغوطاً على الدول الأوروبية على مستويات عدة، على الرغم من ان الكل يعرف بأن لندن لا يمكن أن تختلف مع حليفتها الأمريكية في السياسات العريضة.

رابعاً، اعلنت بريطانيا، بعد انفصالها عن الإتحاد الأوروبي، بوضوح على انها ستعمل على تنويع مصادر دخلها من خلال المزيد من الاستثمارات الخارجية، ويبدو واضحاً أن الفرصة متاحة أمامها في هذه المرحلة لنسج علاقة ندية مع إيران.

خامساً، الرغبة في إحياء العلاقة الاقتصادية التاريخية بين بريطانيا وإيران، حيث كانت شركات النفط البريطانية موجودة فيها وتعمل بشكل كبير وواسع ابرزها شركة بريتش بتروليوم.

خامساً، معرفة البريطانية بأن إيران اليوم لم تعد دولة هامشية، بل صاحبة دور مركزي، ومفتاح اقتصادي وسياسي ليس فقط للمنطقة وإنما لآسيا برمتها.

هذه القراءة لا تأتي في سياق الترويج لدور إيران وقدرتها في صياغة القرار في المنطقة، وإنما لتصويب البوصلة نحو حالة التخبط الخليجي، السياسي والاقتصادي، وللتأكيد على أن تلك الدول التي أغرقت أنفسها في مستنقعات المنطقة من سوريا إلى اليمن والعراق وغيرها، لم تعد قادرة على صوغ قرار سياسي فاعل ومؤثر، وسيرتها الدول الغربية كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، نحو تقديم التنازلات والمليارات خدمة لمشاريعها ومصالحها في المنطقة والعالم، في وقت تلعب فيها بريطانيا تحديداً سياسة متوازنة ما بين تحصيل المكاسب الاقتصادية واللعب على التناقضات الحاصلة في المحصلة والاستثمار فيها.

*كاتب وإعلامي سوري

مصدر الصور: Daily Express – The National.ae