2. الإعلام والهوية والتاريخ
إذا كان التاريخ هو البوتقة التي تنصهر داخلها زمنياً عناصر الهوية، فلا بدّ لنا أن نعرف كيف ننظر إلى هذا التاريخ، ولا بدّ للإعلام أن ينقل هذه النظرة التي يرتأيها الناس بعيداً عن كل التحريفات والتشويهات والتزويقات والتزويرات، فالتاريخ في مجمله ليس كل ما حدث في الماضي، ولكنه جزء يسير منه، مثلما أن الآثار القائمة الآن ليست كل ما بناه الأولون، ولكنها تلك الصروح والمعالم التي استطاعت أن تصمد طويلاً عبر الزمن.
ورغم أن هذا يمثل مشكلة أساسية للمنطق التاريخي، إلا أن المشكلة تمتد إلى حقيقة أن التاريخ يكتبه عادة المنتصرون، كما أن هناك منطقاً تاريخياً آخر يتحاشاه دارسو التاريخ عادة لصعوبته، وهو يتمثل في محاولة معرفة ماذا لو أن الذي حدث لم يحدث، أو أن عكسه تماماً قد تحقق تاريخياً، وهذا المنطق الافتراضي شيّق وجذاب رغم انه صعب تتبعه بأسلوب علمي قويم.
لقد لخّص الفيلسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشه معالم الرؤى التي ترتبط بالتاريخ عندما أشار إلى ثلاثة أنواع من تلك الرؤى تتمثل في تحنيط التاريخ، وتعظيم التاريخ، ونقد التاريخ.(1) يمثل النوع الأول النظرة المحافظة للتاريخ، وهي التي ترى أن ما تعودنا عليه فيما مضى يجب المحافظة عليه الآن وغداً؛ وبالتالي، فنقطة قصور هذه النظرة المحنطة للتاريخ تتمثل في أننا يجب أن ننظر إلى الحاضر والمستقبل بعيون الماضي، بحيث يتعين علينا أن نسير وأعناقنا ملتوية نحو الوراء، رغم أن تيار الزمن لا يعود إلى الخلف، وأن ظروف كل زمان تختلف عن ظروف غيره من الأزمان، ولكن أصحاب هذه النظرة يصرون على أن المرء يجب عليه دوماً أن يعيش كما كان يعيش، وأن يحب كما كان يحب، وأن يكره كما كان يكره، وأن يشاهد الفضائيات كما كان يشاهدها، وأن يفهم الأشياء كما كان يفهمها.
أما النوع الثاني من تلك الرؤى التاريخية فهي تعظيم التاريخ؛ أي تلك النظرة الأثرية للتاريخ؛ معالم شامخة تمتد عبر آلاف السنين، تمثل نموذجاً يحتذى في الحاضر والمستقبل. تلك الرؤى التعظيمية للتاريخ تعتبر المسائل العظيمة التي كان حصولها ممكناً في الماضي حصلت بالفعل، ولذا فهي يمكن لها أن تعود للظهور من جديد طالما كان احتمال ظهورها ممكناً. ورغم أن هذه الرؤى تفضل سابقتها من حيث أنها من الممكن أن تساعد في استلهام عناصر القوة من الماضي من أجل بناء الحاضر والمستقبل، إلا أنها قد تقع في فخ النظرة المعيارية التي تجعل الماضي معياراً مطلقاً للحكم على الحاضر والمستقبل، كما أنها من خلال تركيزها على الأشياء العظام والأحداث العظام والرجال العظام تتوهم أن المسائل الكبرى هي وحدها أداة التغيير والتطوير، وهذا خطأ يقع فيه الكثيرون الذين يتوهمون أن الأرقام الكبيرة، والأشياء الضخمة هي الأهم في حياة الأمم والشعوب، في حين أن كثيراً من التغييرات الكبرى قد تبدأ بأبسط الأشياء وأصغرها؛ فمعظم النار من مستصغر الشرر كما يقولون.
أما النوع الثالث من رؤى التاريخ فهي نقد التاريخ، أي أن توضع الأحداث التاريخية في الميزان، وان يتم استجواب التاريخ، ويساءل ويحاكم وتصدر معه أو ضده الأحكام. هذا النوع من الرؤى يبدو أفضل من سابقيه من حيث أنه يعمد إلى إقحام أنفسنا في ما جرى من أحداث وسعينا إلى فهمها فهماً قويماً بدلاً من مجرد تقديسها والانبهار بها، وتحصينها ضد أي نقد.
وعلى الرغم من أن مثل هذا التوجه النقدي مهدّد دوماً بأن يواجه بنقد مضاد، ونقد للنقد، واحتمال أن تسترسل حلقات هذا النقد عن النقد دون أي فعل، إلا أنه يظل مهماً لأنه قادر على أن يحرك المياه الفكرية الراكدة، ويسهم في إذكاء روح التمحيص والتحليل لدى الشعوب التي تمارسه.
بيد أن ابرز ما أورده نيتشه إزاء مسألة التاريخ يتجسد في التحذير من أن يقع المرء ضحية تفسير كل شيء في ضوء ما يعتبره يمثل التاريخ؛ لأن الشجاعة الحقة تتمثل أيضاً في القدرة على تجاوز التاريخ وعيش لحظات لا تاريخية؛ أي القدرة على تجاوز الماضي لكي يستطيع المرء أن ينظر إلى آفاق جديدة، ورؤى جديدة، وعوالم جديدة للحاضر والمستقبل. وذاك أمر مهم لأن التاريخ لا يطلق أحكاما أبدية، ولا ينظر إلى أفراد أو فئات أو قبائل أو أمم أو شعوب بعينها بأنها ذات سمات ايجابية أو سلبية محددة وثابتة، وهو ما يجعل التطور البشري ممكناً رغم أن الحضارة البشرية يتم تداولها من مكان إلى آخر، ومن شعوب إلى أخرى.
بيد أن إعلام اليوم يعمد في كثير من حالاته إلى وسم ليبيين آخرين بأنهم قد صدرت معهم أو ضدهم أحكام التاريخ التي يستخلصها كما يشاء، ويفسرها كما يشاء، ويطلب من الليبيين جميعاً أن يفهموها ويمارسوها كما يشاء. اللحظات التاريخية في مجملها هي لحظات انتقالية لا نهائية منفتحة دوماً على أية تطورات جديدة، ومعطيات جديدة، وظروف جديدة، ولهذا فإن التاريخ يعني أيضاً تجاوز تحنيط التاريخ وتعليبه في فئات ومعايير وقيم يصنعها في الغالب ذوو المال والسلطان، ويتلقفها التابعون من رجالات الإعلام والتعليم والثقافة من أجل محاولة تكريس ما لا يمكن تكريسه، وتسويغ ما لا يمكن تسويغه.
الإعلام الليبي البديل يحتاج إذاً إلى مثل هذه الرؤى القادرة على تجاوز الليبيين لكل النعرات والسقطات التي حدثت في الماضي، والتركيز على ما يجمع الليبيين ولا يفرقهم، لان كثيراً من شعوب الأرض مرت بعثرات وسقطات، ولكنها نهضت وتعافت وتطورت وارتقت سلّم العلم والحضارة. وفي إطار هذا الفهم من التاريخ، لا بد أن يبادر الجميع في الإعلام وغير الإعلام إلى تمكين الليبيين من تجاوز نعرات وخلافات وحزازت الماضي التي نشأ اغلبها مفتعلاً في ظل مساعي السلطة الحاكمة إلى أن تمارس سراً وعلناً مبدأ السياسة الواقعية المعروف “فرق تسد”.
إن الحديث عن تجاوز التاريخ لا يعني تسفيهاً للتاريخ، ولكنه تسفيه لكل أنماط الفهم الخاطئ للتاريخ؛ فالتاريخ ليس إعادة إنتاج للماضي بصور جديدة، لأن الناس قادرون دوماً على صنع تاريخهم، ولكن التاريخ في حد ذاته لا يمثل وحده بوصلة التوجه نحو الحاضر والمستقبل لدرجة أن يقول قائل مثلاً: “إذا لم تكن جزءاً من التاريخ، فلن تكون جزءاً من المستقبل”؛ ذلك أنه مثلما للتاريخ مخرجات عدة، فله أيضاً عدة مدخلات تتفاعل وتتنافس وتتنازع وتتبادل الأدوار أحياناً، ولكن حركتها في المجمل ليست مجرد دفق لتيار زمني واحد محدّد الشكل، والنوع، والاتجاه.
من هنا، لا يجب أن ينصب الجهد على إعادة إنتاج ما سبق من بنى وهياكل، وإعطائها وظائف جديدة وأدوار مستحدثة بل على إنتاج هياكل وبنى جديدة قادرة على الاستجابة لحاجات الناس وآمالهم وطموحاتهم؛ ذلك أنه ما دمنا قابلين للعودة إلى نقطة الصفر من جديد، فمعنى ذلك أن كل التغييرات التي أوهمونا على مدى تاريخنا الحديث كلّه بأنها جذرية، لم تكن في حقيقة الأمر سوى ذر للرماد في العيون.
التاريخ في ذاته ليس له مغزى أو معنى ثابت محدد، ولكننا نحن الذين نسبغ عليه هذه المعاني، وفي التاريخ ليس هناك حتمية لحدوث أي شيء قبل أن يحدث، فإرادة الناس – إذا تحررت وتجسدت – قادرة دوماً على صنع التاريخ، الذي هو في نظر البعض استمرار للصراع البيولوجي بين البشر بطرق أخرى، بحيث لا يكون هذا الصراع محتدماً بين الأنواع البشرية فقط من أجل البقاء الوجودي؛ بل يمتد الصراع ليشمل اللغات والثقافات والقيم والمعاني.(2)
كل ذلك يقود إلى مسألة أن المغالاة في النظرة التاريخية للهوية تفترض أن الهوية تكتشف اكتشافاً لشيء تشكل عبر الزمن في إطار جغرافي معين، لكنّنا مثلما يمكن لنا أن نلاحظ في حالات عدة من عوالم اليوم – لعل أبرزها الاستيطان الأوروبي في أمريكا واستراليا والاستيطان الصهيوني في فلسطين – فإن الهوية يمكن لها أن تخلق وأن تصنع، وليس مجرّد أن تكتشف، وهو ما يؤكد أهمية الانتقال بالهوية من مجرد علاقات ارتباط زمنية وجغرافية محكومة بعوامل خارجية تدفع بالأفراد والوحدات الاجتماعية إلى قدر من التفاعل والتماسك، إلى آفاق سياسية واقتصادية وثقافية وقانونية أرحب؛ فالتاريخ في مجمله ليس مجرد إنتاج للماضي بصورة جديدة كما سبق أن أشير.
وكم هو محزن وشائن أن ينبري بعض المتعالمين الذين يدعون أنهم محللون وناشطون وخبراء في التاريخ الوطني لكي يقولوا لإخوانهم الليبيين – عبر شاشات التلفاز – إن بلادهم ليبيا صناعة ايطالية لأن أقاليمها كانت منفصلة قبل أيام الاحتلال، وكأنهم يريدون أن يقولوا أن الهوية الليبية لا تتحقق إلا بفعل ضغط خارجي واستعمار أجنبي يجعل الليبيين رعايا متساوين في أعين الغزاة!
مثل هذا المنطق ينتزع جزئية من التاريخ ثم يعمد إلى تعميمها كظاهرة، لأن نظرة لتاريخ ليبيا كما كتبه الأجانب تشير إلى أن إسم ليبيا أطلقه اليونانيون القدماء على كل مناطق شمال إفريقيا التي تقع إلى الغرب من مصر. ففي عام 300 للميلاد، أطلق الإمبراطور ديوكليتيان إسم ليبيا العليا وليبيا السفلى على مناطق في شمال برقة، رغم أن إسم ليبيا ارتبط أيضاً بإقليم طرابلس، وهو ما دفع الايطاليين عقب بسط هيمنتهم على ليبيا العام 1934 إلى إطلاق إسم مستعمرة ليبيا على مناطق طرابلس وبرقة وفزّان، ثم استمر استعمال هذا الاسم من قبل الأمم المتحدة عندما تولت معالجة مسألة المستعمرات الايطالية السابقة ومن بينها ليبيا.(3)
أما فيما يخص التجزئة الإقليمية لمناطق ليبيا خلال الفترات اليونانية والرومانية القديمة، فقد كانت سمة للأسلوب الإداري السائد آنذاك الذي كان يقوم على اتحاد بين المدن أو البلديات مثلما كان الأمر بالنسبة لطرابلس (الثلاث مدن: لبدة – أويا – صبراته) أو (بنتابوليس في شرق ليبيا التي كانت تشمل الخمس مدن: أبولونيا – برنيق – قورينا – توكرة – طلميثة)، ثم استمرت تبعية ليبيا كإقليم للإمبراطورية العثمانية لأن المهم بالنسبة للإمبراطوريات الكبرى هو تبعية مختلف المناطق لها، والمناطق الصغرى سهل إخضاعها وتحقيق تبعيتها من الكيانات الوطنية الأكبر.
وفي ضوء هذا التقسيم، شارك ممثلون من طرابلس برقة وفزّان، العام 1908، في برلمان تركيا الفتاة بالقسطنطينية؛ بيد أنه عقب الاحتلال الايطالي لليبيا وقبل أن يطلق الايطاليون إسم مستعمرة ليبيا على ليبيا الحالية العام 1934، كان واضحاً بالنسبة لحركة الجهاد الليبية – خلال مؤتمر سرت في 21 يناير/كانون الثاني 1922 – مطلب “تحقيق وحدة أراضي الآباء والأجداد” كمطلب جوهري للسياسة الوطنية في ليبيا. وعندما شاركت القوات الليبية بفاعلية فاجأت البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، حيث أطلق البريطانيون على هذه القوات التي قاتلت الإيطاليين في ليبيا اسم “القوة البريطانية العربية” لكنّه سرعان أعيدت تسميتها لكي تصبح “القوة العربية الليبية”.(4)
ولعل أبرز ما يمكن أن يلاحظه القارئ الكريم في هذا المقام هو التركيز المقصود على عنصر الإعلام في كل المحاور التي يتضمنها هذا المسعى، بحيث يتم ترديد علاقته بالهوية في ضوء علاقاته الأخرى بالتاريخ، والسياسة والاقتصاد والقانون. بيد أنّ هذا الأمر لا يجب أن ينظر إليه على أنه تبجيل أو تفضيل للإعلام على غيره من المجالات الأخرى، لأن الذي قاد إلى هذا التوجه يتمثل ببساطة في أن هشاشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية الأخرى في ليبيا المعاصرة أتاحت المجال للإعلام المعاصر أن يتغوّل ويسود رغم كل مثالبه ونقائصه.
ففي غياب الدور الحقيقي لمنظمات سياسية وطنية فاعلة، ومنظمات المجتمع المدني القادرة، يضطلع الإعلام بمختلف منابره وهياكله بنصيب الأسد في حشد الناس، ليس للتأمل أو التفكير أو الفهم أو التدبير، بل للسب واللعن والتحقير، بحيث لم يعد الإعلام يمثل مجالاً مشتركاً يلتقي حوله الناس، بل مجالاً للتنافر والتباعد والخصام والتناحر، خاصة وان كلاً له منبره، وكلاً له شيوخ الإعلام الذين يعتلون هذه المنابر، ينشرون الفتنة، ويحرقون حولها كل أنواع الأبخرة غير المقدسة لكي تستقر الشرور والكراهية في عيون الناس وفي أذهانهن وفكرهم وسلوكهم.
الإعلام لدينا – كما نراه الآن في هذه اللحظات الاستثنائية من تاريخ الوطن – هو سلسلة من مطاعم الأغذية الجاهزة التي يستعد أصحابه لنقل وجباتها إلى كل ليبي وليبية لكي يلتهموها في بيوتهم بما يكفل رفع مستويات الحقد والكره والضغينة التي تلتهم الوطن وتختزله في رؤى حاقدة جاحدة لأصحاب المصالح والمطامع. وأما محطات التلفاز الحالية لدينا فهي في أغلبها متاجر كبرى للأشرطة الجاهزة التي تبيع الأكاذيب والأوهام والضغائن، ولا تتحرج إطلاقاً في أن تلقي مسؤولية كل الشرور التي تلحق بجسد الوطن الطاهر على عاتق الإنسان البسيط الذي لا حول له ولا قوة، وفي أفضل الأحوال على عاتق بعض الفئات أو المناطق أو القبائل.
الإعلام الذي نراه الآن في ليبيا يمثل جزءاً من مشكلة ليبيا، وهو لأجل ذلك غير قادر في صورته الحالية على الإسهام بأي قدر مهما صغر في حل مشكلات الوطن. هذا الإعلام جعل الليبيين مثل الأسرى الذين يقبعون في “كهف أفلاطون” لا يرون حقيقة الأحداث، ولكنهم يلاحظونها فقط عبر ظلال الأشياء والأشخاص خارج الكهف التي تنعكس على الجدران الداخلية لهذا الكهف؛ أي تلك التي تعكسها شاشات الفضائيات، وأبواق الإذاعات، وصفحات المواقع الالكترونية التي تنسج من الوطن أسماءها لكي تهدم الوطن اسماً ومعنى ووجوداً في برامجها وتغطياتها.
الإعلاميون الحاليون لدينا في أغلبهم هم الحكواتيون المعاصرون الذين يريدون من خلال عرضهم لمختلف الحكايا أن يكونوا في مركز الانتباه، أي أن يكونوا الأبطال الحقيقيين في معارك بلا سلاح، يخوضون جلها ضد شعب ليبيا وليس ضد أعدائه.
المراجع:
1. أنظر:
Friedrich Nietzche. VomNutzen and Nachtheil der HistorieFyer das Leben, Muenchen 1996 (Nachdruck), S, 11.
2. أنظر:
Seyla Benhabib. Democracy and Difference: Contesting the Boundaries of the Political, Princton 1996, p.334.
3. أنظر:
John Wright. A History of Libya, Hurst and Company, London 2012,
P.(Xiii).
4. أنظر:
Adrian pelt, Op. Cit, p.39.
مصدر الصور: راديو سوا – Zenith.
موضوع ذا صلة: الوكالات الإعلامية وتأثيرها على صناعة الرأي
أ. د. علي المنتصر فرفر
أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس – ليبيا