لاحظت أن التيارات الإسلامية تخلط بين الإجتهادات الدينية وعدم الإدراك السياسي؛ لذلك، اعتقدت أن المسلمين في جميع بقاع الأرض يشكلون أمة واحدة، والمسلم أقرب إلى المسلم مهما تعددت الأوطان والدول والولاءات. وقد اختصر الإسلاميون الانجليز هذه القضية عندما انضموا إلى اخوانهم العراقيين في مقاومة الاحتلال البريطاني – الأمريكي، فقالوا إن العراقي المسلم ودعمه “يُدخل الجنة وينتمي إلى الآخرة”. وأما المسلم البريطاني، بالنسبة لصنوه البريطاني، فيجمع بينهما رابطة الجنسية وهي خاصة بالدنيا، وعندما نخير بين الدنيا والآخرة فإننا قطعا نختار الآخرة ونهجر الدنيا.

هذا الفهم مغلوط ومشوش لأنه تفسير ديني دخل في ظلمات السياسة، فلن يفهم الإسلامي تعقيدات السياسة إلا بالتخصص، ولن يفهم المتسرع كيف يفكر الإسلامي إلا بالصبر والتركيز وعدم التمييز وقد أخذ الإعلام ذلك واعتبره من سيئات التيار الإسلامي، ورد بالتركيز حتى الآن على معنى الوطن والوطنية لدرجة أن خطبة الجمعة الأولى من شهر يوليو/تموز خصصت لهذا الموضوع. وربما كان السبب في ذلك أن التيار الإسلامي فهم “أن المسلم غير المصري أولى بالمعروف من المصري غير المسلم”، وكان بذلك يعتقد أن الأمة الإسلامية تضم جميع المسلمين ولم يفهم أن المواطنة الوطنية مقدمة على الوشائج الدينية الإنسانية وهو ما تنص عليه جميع الشرائع، هذا على جانب.

على الجانب الآخر، عندما طرحت فكرة وحدة الأمة العربية ومعالجة تفتيت المستعمر لهذه الأمة إلى أوطان وحدود وفق تصور الفكر القومي، فإن ذلك استفز المكونات الدينية والعرقية داخل الجسد العربي ونحن نشهد عداء مستحكماً بين العرب وبين هذه المكونات، وقد قلنا أن ما لا يفهمه الإسلاميون أن مصر بمكوناتها تحتمل أن يكون رئيسها مسلماً ولكنها لا تحتمل أن يكون إسلامياً والفرق بين المسلم العادي والإسلامي واضح فيما رأيناه من تعقيدات وهذا هو أحد أهم الأسباب التي استعْدت طوائف مصرية كثيرة ضد الحكم الإسلاموي مما هدد الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، الذين عاشوا طيلة هذه القرون مع اخوانهم المسلمين ولم نكن نعرف الفرق ولا يهمنا أن نعرف ديانة أصدقائنا وزملائنا الفضلاء.

ومما ينبغي أن يذكر أنني عندما التحقت بوزارة الخارجية عملت في قسم يرأسه زميل أقدم مسيحي وكان نعم الراعي والمعلم، وكان نموذجاً للمواطن المعتز بكرامته واسع الأفق والثقافة حتى أنني اصطحبته وحده كولي الأمر لي وتقدمت لخطبة زوجتي، وأذكر أنني قلت له “ضع يدك في يد حمايا واقرأ الفاتحة ولن تسلم”، وكانت النفوس صافية ولا زلنا نحتفظ بهذه النفوس الصافية حتى اليوم وتعجبت ما حل بالمجتمع المصري غريباً عليه.

عندما تحدث فلاسفة القرن التاسع عشر في أوروبا عن القومية، كان يقصد بها مكونات الشخصية الوطنية في دولة واحدة، وكان من بينها الدين. ولكن القوميين العرب فهموا خطأً المكون الديني في الشخصية الوطنية، فعمدوا إلى إنكاره أملاً بتوحيد المكونات المختلفة دينياً؛ لذلك، عرف التيار القومي الوحدوي بأنه تيار علماني يعادي الدين، مع أن أوروبا لم تستقيم أحوالها إلا بعد أن عبرت مرحلة المراهقة الفكرية والدينية بتضحيات باهظة، واستندت إلى مذهب الحرية والمواطنة المطلقة فلك أن تعبد من تشاء ولكننا ننتمي إلى الوطن الواحد الذي يشاركك فيه غيرك من ذوي الملل والنِحل، وهذا هو الإسلام الصحيح الذي قامت عليه دولة المدينة ولم تكن دولة دينية.

في مصر بالذات، عندما استقلت عن الدولة العثمانية بعد زوالها، تمسك الإسلاميون فيها بقشور لا أساس لها وهي التباكي على الخلافة الإسلامية، فلا ينطبق على مصر مسألة التفتيت لأن الكيان المصري قائم متصل قبل الاستعمار وبعده. ومما يذكر في هذا الصدد أن جمال حمدان إعتبر جريان النيل عاصماً من التفتيت، ولذلك فإن العبث بالنيل هو ما يهدد الوحدة الوطنية.

بقيت نقطة أخيرة وهي استخدام الدين كأساس للتضامن؛ ونحن لا ننكر أن مسلمي الصين وبورما يُنكل بهم، فنحن نريد أن يكون التضامن معهم على أساس أنهم مواطنون في بلادهم يستحقون الحياة ولا يجوز التنكيل بهم بسبب دينهم أو معتقداتهم وإنكار الحق في العبادة عليهم لأي سبب، ولكن يجوز للدولة أن تنظم هذا الحق مما لا يجور عليه أحد.

ومما يذكر أن منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تعالج قضايا الاقليات الدينية، تمسكت بضرورة التسوية وفقاً للدستور ويترتب على ذلك أن المنظمة الإسلامية لا تعترف بالإنفصال.

معنى ذلك، أن المسلم في أي بلد مرجعيته القيم الإنسانية التي تضمنتها كافة الشرائع. ومن حُسن الحظ أن القوانين الغربية والدولية تتسق إلى حد معقول مع هذه القيم. ويترتب على ذلك أن المسلم يدافع عن أي إنسان تتعرض حقوقه الإنسانية والدستورية للانتهاك، ولذلك فإن الدول الغربية لا ترتاح إلى التكتل الديني، ولهذا السبب نظرت باستخفاف إلى منظمة التعاون الإسلامي، التي كنت المستشار القانوني لها عدة سنوات ولمست بنفسي ذلك.

إن البشاعة في التعامل ومجافاة الإنسانية ليس مصدرها شريعة سماوية أو أرضية حتى وإن قاد رجال العقيدة البوذية حملة التنكيل بالمسلمين في بورما أو الحاخامات اليهود جرائمهم ضد الفلسطينيين بإسم التوراة، فلقد إنضم اليهم رجال الدين المسلمون في اساءة استخدام الدين، فتصرفات كل رجال الدين المنحرفة ليس لها أساس في أية شريعة سماوية أو أرضية.

مصدر الصورة: الحرة.

موضوع ذا صلة: الإسلام و”الشرق الأوسط الجديد”.. الواقع الأسود!

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر