كل الدول حول العالم، صغيرة كانت أم كبيرة، لها مصالح إستراتيجية خاصة بها، سواء الولايات المتحدة أو روسيا أو إيران، أو المملكة العربية السعودية ودول الإتحاد الأوروبي، ومعهم حتى الكيان الصهيوني. هذه هي السياسة والنقطة التي يقف عندها الجميع والذين يتفقون عليها.
من هذا المدخل، لا بد من القول، إن الولايات المتحدة، وأذرعها، قد نجحت في المنطقة من خلال شيطنة “الإسلام السياسي”، على الرغم من ملاحظاتنا الكثيرة على أدائه في الحكم، يقابل ذلك أيضاً ملاحظات كثيرة على الأحزاب اليسارية والعلمانية والليبرالية، حيث فشلت جميعها عملياً.
التجربة الإسلامية
شيطنت واشنطن، ومعها “تل أبيب” (تل الربيع الفلسطينية)، “الإسلام السياسي” من خلال إستغلال أخطائه في بعض الأقطار العربية، كالعراق وسوريا ولبنان أيضاً. هذه الأخطاء تم العمل عليها من خلال تضخيمها، والتي أدت فيما بعد إلى إشعال الحروب تحت ذرائع طائفية. وعلى الرغم من أن الدول التي تشيطن “الإسلام السياسي”، نرى بأن تلك الدول نفسها من دعم بعض الحركات في الدول العربية المذكورة وزجت بآلاف الإرهابيين إلى داخلها.
إن التجربة الإسلامية، هي تجربة حالها كحال أية تجربة مرت بالمنطقة. ونستطيع القول أنه منذ سقوط الخلافة العثمانية وصولاً إلى يومنا هذا، أثبتت التجارب العربية كلها أنها تجارب فاشلة، “الإسلامية والعسكرية واليسارية والقومية”، بالإضافة إلى الأنظمة القائمة في بعض دول الخليج أيضاً، التي تعتبر كـ “محميات” أمريكية وهو ما يترجم اليوم من خلال “قطار التطبيع”، الأمر الذي يؤكد أن وصفها بـ “الأذرع” لتمرير الأجندات الغربية تم تثبيته الآن بالفعل.
لكن هذا الأمر لم يعجب البعض حتى ثبت العكس، ولنسقط هذا الأمر بمثال واقعي. عند الغزو العراقي للكويت، قلنا حينها أن هذا الغزو كان بوابة واشنطن للتغلغل في المنطقة وتثبيت وجودها، ومن ثم فرض التطبيع. بالفعل، كان هذا الحدث هو النكسة الحقيقية للعرب.
مخاض عسير
كما أسلفت أعلاه، إن غزو الكويت كان بوابة التغلغل الأمريكي وولادة التطبيع والهجمة الرأسمالية، زد على ذلك أنه شكَّل نقطة تحول كبرى في العالم العربي بعد العام 1990 وصولاً إلى الغزو الأمريكي للعراق، العام 2003. من تكلم حينها نعتوه “البعثي” أو “الصدَّامي”. لكننا كنا نتكلم عما سيأتي فيما بعد، وهو أكبر بكثير، إذ أنه تحقق بسقوط المنطقة عملياً؛ فتدمير العراق والتدخلات الأمريكية وما حصل بعدها، كان بمثابة “كرة الثلج” التي بدأت تتوسع وتكبر في كامل المنطقة العربية. فلقد أثبت الواقع أن تشخيصنا كان حقيقة صحيحة.
عند وقوفنا مع سوريا، لم يكن لبُّ الأمر موالاة طرف على حساب آخر، بل كنا نقف في وجه مشروع أكبر من مسألة الحرية كما يدعون، كما رأينا كيف تعالج أفراد التنظيمات المتطرفة في المشافي الصهيونية، ناهيك عن حجم التدخلات العالمية.
هذا الأمر يدفعنا إلى القول بأن “نظامي صدام حسين، في العراق، أو معمر القذافي، في ليبيا، كانا قويين، ولكلٍّ منهما حساباته السياسية بحسب علاقاته وتحالفاته ومصدر قلق للولايات المتحدة وذلك في ضوء صعود وتنامي قوتهم، حيث تم العمل جيداً على إنهاء أي خطر سواء كان الحكم إسلامي أو ناصري أو علماني، وهذا موجود في تقارير معهد واشنطن، خلال فترة الثمانينات والتسعينات، وليس بسر. وبصرف النظر عمن يتفق أو لا يتفق مع تلك الأنظمة أو غيرها، فهذا واقع حقيقي على الأرض إستشعرت واشنطن منه الخطر عبر نماذج الحكم تلك وعلمت على تدميرها أو تقويض دورها”.
من هنا، لنخرج بسؤال مهم: لماذا كان الغزو على الكويت؟ بجواب واضح، لأنها كانت حاضنة لكل المنظمات الفلسطينية، إذ تم ضرب العرب بالعرب وضرب القضية معهم بدءاً من العام 1990؛ بالتالي، حققت واشنطن هدفها، أما مسألة كيف؟ ولماذا؟، فسنكشف تباعاً هذه المراحل في العمق قريباً.
هجمة رأسمالية
الآن، إن المنطقة مقبلة على إستثمارات إقتصادية كبرى للصهاينة، ورأينا كم الإتفاقيات الموقعة بين الكيان الصهيوني والدول المطبعة خاصة لجهة الإستثمار في الموانئ البحرية. ليس هذا فقط، لا بل سيمتلك الكيان أراضٍ وعقارات وينفذون الكثير من المشاريع الاقتصادية؛ بالتالي، إن كل هذه الأمور مجتمعة ستنعش وتقوي الداخل الصهيوني على عكس الدول الخليجية التي لن تستفيد منها أي شيء لكونها دولاً غير منتجة وكل ما تقوم به هو فتح أسواقها للمستثمر الأجنبي.
أما الدليل على ذلك، فهو إفتتاح مطعم في إحدى الدول الخليجية، ما بعد التطبيع، والذي رافقه حملات إعلانية وإعلامية من تصوير وتبريكات وكأنه صرح حضاري، وهذا من ورائه قصد، بأن الصهاينة ونحن “معركتنا مع الصهاينة وليست مع اليهود” (والفرق بين الصهاينة واليهود سنفرد له مقالاً وبحثاً مستقلاً نوضح فيه “الفرق ما بين الصهيونية واليهودية وحقيقة أرض كنعان”، بالإضافة إلى موضوع حول “كيف أخذت فلسطين”) كونهم معتدين ومحتلين لأراضٍ عربية، وتمليكهم لكل فرد يحمل جنسية الكيان الصهيوني في بلادنا، خاصة شبه الجزيرة العربية وهذا يعني أن الكيان يحقق حلمه بإقامة “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات”. هذا التملك، سيسهل عليهم التحكم برقاب العرب، من خليجيين ومسلمين، خصوصاً وأن تلك الدول لا تملك مورداً إقتصادياً سوى النفط، ولقد بات واضحاً ومعروفاً من سيستفيد منه للأسف، هذه الدول هي من تساعدهم على تحقيق حلمهم هذا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إقتصاد جلّ الدول العربية لا يقوم على الصناعة أو الزراعة بل على الإستثمار من خلال التعاقد مع الوكالات العالمية، وهذا ما يعني تمكين الصهاينة من التملك فيها وإعطائهم الفرصة الكبيرة للمطالبة بحقوقهم التاريخية، كما يزعمون، إضافة إلى الدور الأخطر وهو التجسس على المنطقتين العربية والإقليمية من خلال خلاياهم التي ستنتشر تحت صفات متعددة، ناهيك عن تجنيد العملاء بشكل سري من أجل العمل لصالح جهاز الموساد ووكالة الإستخبارات الأمريكية، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى إضعاف البيت العربي أكثر مما هو عليه.
إن الرأسمالية نظام قذر لا يرحم، فهي تقتات على دماء الشعوب والمستضعفين وتلغي حقوقهم، كما أنها لا تعترف بالعدالة الإجتماعية وتعمل على تدمير الطبقة الوسطى. من هنا ستغرق المنطقة بالرأسمالية والشعب الخليجي “المترف” سيجد نفسه غارقاً في الديون، ليتغير الواقع بعد سنوات إلى أن يصبح المواطن الخليجي عاملاً لدى الشركات الصهيونية والأجنبية في المنطقة العربية والخليجية.
إسقاط هيبة الإسلام
بعد شرح هذا الواقع المرير، بتنا على قناعة أن كل ما تم بثه من فيديوهات كان عملية ممنهجة ومن صناعة الموساد لإسقاط هيبة الإسلام والدول العربية والمسلمة، لأن رُعاة موقع “يوتيوب”، أو أي موقع آخر، مرتبط بالمخابرات العالمية، بشكل أو بآخر. فلو لم يكن صناعتهم، لكانوا أوقفوا عرضه. القصد من ذلك نشر فكر معين لغسل أدمغة وعقول البسطاء والشباب وطرح مشروع الوسطية، أي الإسلام الوسطي أو المعتدل، عبر إستخدام علماء السلطة من “الجامية” وغلاة “الصوفية” مع الإنتباه إلى مسألة العقائد. أما بالنسبة إلى موضوع التعايش، فهو لا يجب أن يكون على حساب عقيدة المسلمين؛ وعلى الرغم من تشارك كثر في بلاد واحدة، إلا أننا قد رأينا نماذج التعايش بين الإسلام والمسيحية كلٍّ على عقيدته، إلى جانب المواطنة والتشاركية في الحقوق ذاتها من الناحية المدنية.
أما اليوم، هم يريدون العودة إلى “الدين الإبراهيمي”، أي الخلط بين الديانات، لكن هيهات. هذا الشيء يعتبر مخالفاً لقواعد وأحكام القرآن الكريم ولسنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهنا، نحن لا نغفل أو ننسى بأن الإسلام يعترف بكل الديانات السماوية بما فيها اليهودية الصحيحة والمسيحية الحقّة، ويعترف بالكتب السماوية غير المحرفة، وهذا يوصلنا إلى أن الإسلام هو الجامع لكل الديانات. أما بالنسبة إلى اليهود، فهم لا يعترفون بسيدنا عيسى عليه السلام وبعض المسيحيين لا يعترفون بنبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويريدون كتابة إسلام يتوافق وما يرغبون من خلال معادلة “ترامب – القرآن” بصوت ولغة عبريتين، ويريدون سنَّة نبوية تتفق مع البيت الأبيض.
لذلك، لا نستغرب إن وجدنا نسخة لصحيح بخاري أو مسلم أو صحيح إبن ماجة أو سنن الترمذي طبعت على نفقة “المحسن” دونالد ترامب بعد أن يتم حذف كل الأحاديث التي لا تناسبهم ولا تتفق مع عقائدهم الرأسمالية التي يغزون بها المنطقة.
لذلك نقول، إن معركتنا ليست معركة دين، بل معركة ضد العدو الأزلي المحتل والمغتصب للأراضي العربية، وأنا أحذر مما يسمى بـ “الدين الإبراهيمي”. مع الأسف، يبدو أن من ينفذ هذه الحكم هم رجال السلطة من رجال الدين في بعض دول مجلس التعاون الخليجي.
أخيراً ومن خلال الإستراتيجية والرؤية التي يجب إتباعها، علينا إعادة قراءة التاريخ كله بكل تياراته وتوجهاته السياسية والفكرية والإسلامية ونقيمها تقييماً موضوعياً، ونقرأ المبررات من أصحاب الشأن أنفسهم ومن ثم نقيم وضعنا نحن عبر عرض “بانورامي” من الألف إلى الياء للوصول إلى حكم منطقي. فل تستعيد الأمة مجدها إلا من خلال هذه القراءة الموضوعية للتاريخ المعاصر، مع البعد كل البعد عما ورثناه أو ما اعتقدناه دون التحيز لأي طرف، أو إعلام موجه أو كتب موجهة؟ نحن بحاجة إلى جبهة توحد وتقرب وجهات النظر وتكبر دائرة الأصدقاء وتصغر دائرة الأعداء، والإعتراف بأخطائنا لكي نستطيع تصحيحها.
إن كل ما يحدث يشكل مقدمة لنسيان الهدف الأسمى هو “الدفاع عن الأمة”، بحيث سيكون النهج القادم هو التعصب إلى الفكر والنهج والمعتقد الشخصي من خلال شخصنة كل الملفات بحسب الأهواء والتي ستكون بعيدة كل البعد عن الوطنية والقيم التي نعرفها، كالدفاع عن مظلومية أو حريات أو معتقدات الآخرين. للتذكير، إن مصدر تشريع أية دولة هو الشعب لا الحكومات المغيبة، التي سلبت شعبها حق القرار في أي شيء. لذا، ستبقى الشعوب “عبدة” للحكومات إلى أن يتغير هذا الواقع بفعل تلك الشعوب ذاتها.
*كاتب ومفكر – الكويت.
مصدر الصور: جريدة الدستور – موقع أخبار مصر.
موضوع ذا صلة: القطان: الأوطان أولاً ومن ثم السياسات الحاكمة