يعتبر قطاع الزراعة الضخم في الهند غير منصف للمزارعين، لا سيما بسبب تدني مداخيلهم التي بقيت منخفضة إلى حد كبير نظراً لحاجة هذا القطاع الماسة إلى الاستثمار والتحديث، على الرغم من أنه يوفر مصدر رزق لما يقرب من 910 ملايين شخص، أي ما نسبته 70% من عدد سكان البلاد البالغ 1.3 مليار نسمة، كما يمثل حوالي 15% من الناتج الاقتصادي البالغ 2.7 تريليون دولار.

في سبعينات القرن الـ 20، حولت “الثورة الخضراء” الهند من بلد يعاني من نقص غذائي منتظم إلى بلد حقق فائضاً في الانتاج الزراعي، وبات المصدّر الرئيسي للغذاء للعديد من بلدان العالم خاصة دول الخليج.

لكن تمركّز ملكية الأراضي الزراعية الكبيرة في يد 15% من الملاكين فقط، واقتصار تملك 85% من المزارعين على أقل من هكتارين (خمسة أفدنة) من الأرض وأقل من واحد 1% مزارع يمتلكون أكثر من 10 هكتارات، وفقاً لمسح أجرته وزارة الزراعة في 2015 – 2016، ناهيك عن النقص في المياه وقلة الفيضانات والطقس المتقلب بنحو متزايد بسبب تغير المناخ، وتراكم الديون، كلها عناصر سببت بخسائر فادحة للمزارعين ما جعل العديد منهم، وعمالهم أيضاً، يتخلون عن هذا القطاع وبأعداد ضخمة وصل إلى ألفي مزارع يومياً، بحسب بعض الإحصاءات.

هذا الوضع المعيشي الصعب، تسبب أيضاً في إقدام ما يربو على الـ 103 ألف مزارع على الإنتحار، العام 2019، إضافة الى أن أكثر من 300 ألف مزارع قتلو أنفسهم منذ تسعينيات القرن الماضي، وفقاً لأحدث الأرقام الرسمية لوكالة “فرانس برس”.

من هنا، إعتصم نحو 250 ألف مزارع هندي (مدعومين من حوالي 250 مليون شخص من ملاّك الأراضي الزراعية) من جميع أنحاء البلاد بجراراتهم الزراعية، منذ أشهر، في خيم حيث حاصروا العاصمة نيودلهي احتجاجاً على برنامج الإصلاح الزراعي الجاري ورفضاً لقوانين الزراعة الثلاث التي اعتمدتها حكومة ناريندرا مودي، سبتمبر/أيلول 2020، والذي يفتح القطاع الزراعي أمام كبار التجار الفاعلين من القطاع الخاص.

هؤلاء المزارعين منظمون جيداً. فمنذ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2020 وعلى الرغم من ليالي الشتاء الباردة، إلا أنهم سكنوا ضمن مخيمات وأقاموا فيها مدارس للأطفال، وصحيفة خاصة بهم، وفرقاً على وسائل التواصل الاجتماعي، ومطابخ طعام، وخدمات طبية، وحتى آلات تدليك للأقدام المتعبة، حيث أعلنوا بأن لديهم ما يكفي من الإمدادات لاستمرار مخيماتهم الاحتجاجية لمدة عام، مؤكدين أنّ الشرطة هي التي دفعت المزارعين إلى العنف. كما أفاد المسؤول النقابي، كاوالبريت سينغ بانو، بأن “هذا لن يتوقف هنا. حركتنا ورسالتنا أصبحتا أقوى”.

وفي حين يرى البعض بأن الإحتجاجات يجب أن تكون تحت سقف معين، يؤكد بعض المنظمين أن “التصعيد هو الحل” للضغط على الحكومة لكونها لم تلتفت إلى مطالبهم بإلغاء القوانين المثيرة للجدل، وهي لم تعد إلا بتأجيل التشريعات الزراعية 18 شهراً.

لذا، تثار العديد من التساؤلات حول الأسواق التي تنظمها الدولة والأسعار الدنيا لبعض المواد الغذائية الأساسية. والسؤال هنا: ما هي هذه القوانين وأسباب الخلاف حولها والخيارات المطروحة أمام رئيس الحكومة ناريندرا مودي كون هذه التظاهرات تعتبر أصعب تحدٍ له منذ توليه السلطة العام 2014؟

وعود كاذبة

قدّمت الحكومات الهندية وعوداً كبيرة للمزارعين (القاعدة الانتخابية الأساسية في البلاد – 1/3)، حيث تعهد الرئيس ومودي بمضاعفة دخولهم بحلول، العام 2022. وفي سبتمبر/ أيلول 2020، أصدر البرلمان ثلاثة قوانين تمكّن المزارعين من البيع لأيِّ مشترٍ يختارونه، بدلاً من تكليف وكلاء في الأسواق التي تسيطر عليها الدولة. والقوانين الثلاثة هي:

1. قانون تجارة منتجات المزارعين: يوسع نطاق المناطق التجارية للمزارعين المنتجين من مناطق مختارة إلى “أي مكان للإنتاج والجمع والتجميع”، ويسمح بالتجارة الإلكترونية لمنتجات المزارعين المجدولة.

2. قانون ضمان أسعار الخدمات الزراعية: ينشئ إطاراً للزراعة التعاقدية من خلال اتفاق بين المزارع والمشتري قبل إنتاج أو تربية أي منتج زراعي.

3. قانون السلع الأساسية: يسمح للسلطة بتنظيم إنتاج بعض المواد الغذائية في سياق المواقف الاستثنائية مثل الحرب أو المجاعة.

هذه القوانين أثارت غضب المزارعين لانها تشجع، بشكل مباشر، الشركات الكبرى على التعامل المباشر مع المزارعين ضمن ما يعرف بإسم منح المزارعين حرية بيع وشراء المنتجات، كما تسمح للمزارعين بالتعامل مع الشركات الكبيرة خارج لجنة سوق المنتجات الزراعية الحكومية – APMC (أُنشئت في خمسينات القرن الماضي) والتي تضمن حداً أدنى لسعر الدعم – MSP لمنتجي المزارع. الـ MSP يعتبر نوعاً من الدخل الأساسي الشامل للمزارعين ويدفع مقابل إنتاجهم، وهو يشمل التكلفة وبعض الارباح، ليشكل ذلك دعماً لهذه المنتجات وللمزارعين.

لذا، إن الشركات التي تتعامل مع المزارعين خارج اللجنة، المقررة ضمن قانون الـ APMC، تستطيع الالتفاف على سعر الدعم – MSP؛ حيث يتم تحفيز مثل هذه المعاملات الخارجية في فواتير الإعفاءات الضريبية، كما تشجع الفواتير أيضاً على عمليات التخزين دون أية قيود على الكمية أو الوقت مما يزيد من أنواع المحاصيل التي يمكن تخزينها، بالإضافة إلى تسهيل العقود الآجلة التي تفتح الباب واسعاً أمام عمليات الاحتكار والتحكم في أسعار الأسواق.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها الحكومة الهندية إلى تحرير قطاع الزراعة؛ فخلال الحكومات السابقة، بُذلت مثل هذه المحاولات حيث أدى ذلك، وعلى مدى سنوات، إلى حصر المزارعين في حلقة مفرغة لا سميا في مسألة ارتفاع تكاليف الزراعة، وعدم التيقن من مخرجات المحاصيل، وإنخفاض أسعارها، وزيادة الديون، ونقص تقنيات الزراعة الحديثة.

بناء على ما سبق، يرى العديد من المزارعين بأن نظام – APMC يشكل لهم “شبكة أمان” حيوية، خصوصاً وأنهم يخشون من عدم القدرة على منافسة كبار المزارعين، وقيام الشركات الكبرى بدفع اسعار منخفضة لهم في حال وقفه. لكن اللافت في الأمر أنهم يعتبرون الرئيس مودي “متحالف” مع كبار المزارعين لسحقهم وزيادة استغلالهم لأن التشريع الذي مرره البرلمان، سبتمبر/أيلول 2020، سيؤدي إلى احتكار الزراعة، في وقت تصر فيه الحكومة على أنه سيفيد المزارعين ويعزز الإنتاج بالاستثمار القادم من القطاع الخاص.

في هذا الشأن، أعلنت جبهة المزارعين الموحدة، المكونة من عدة نقابات للفلاحين، في بيان لها أنها ترفض مقترح الحكومة، ولن تقبل بأقل من سحب كامل للقوانين. كما قال مسؤولو النقابات إن القوانين الثلاث ستمنح التكتلات الهندية السيطرة على الصناعة الزراعية، وتنهي الأسعار المضمونة لمعظم المنتجات الزراعية.

وحدة وطنية

ظهرت ثورة الفلاحين أول مرة في ولايتي البنجاب وهاريانا، المنتجتين الزراعيتين الرئيسيتين (سلة غذاء الهند)، بقيادة مجتمع السيخ القوي، لكنها ما لبثت وأن إنتشرت منذ ذلك الحين على نطاق واسع جغرافياً واجتماعياً في ولايات عديدة متنوعة الثروة والسكان، ولقد بدأ غضب الفلاحين يحقق إنجازاً اجتماعياً يفوق كل تصور، جامعاً بين المزارعين الهندوس والمسلمين (المتناحرين تاريخياً منذ الاستقلال)؛ بالتالي، اعادة وحدة النسيج الاجتماعي الهندي علما أن الغالبية المؤيدة لمودي تتبنى أيديولوجيا قومية، والبعض يقول “تفتيتية”، تؤمن بتفوّق الهندوس على المسلمين، الذين يتم وصفهم بأنهم أعداء.

فلقد أسس الرئيس مودي مساره السياسي على استخدام الإسلام، وما يسمى بـ “الأعداء الداخليين”، ككبش فداء، حتى إنه تعرض لعزل دولي للاشتباه في أنه قام بتغطية أعمال الشغب المتعلقة بمسجد أيودهيا التي أسفرت عن مقتل ما يقرب من ألفي مسلم هندي.

فمع بدء الاحتجاجات الشعبية، تقلصت شعبية مودي في الريف، لكنه لا يزال يتمتع بأغلبية نيابية كبيرة في البرلمان، وهو ما يظهر من خلال تصرفات الحكومة التي لم تُبدِ أية إشارات إذعان لمطالب المزارعين كما أنها لم تلتزم بوعودها دعم رواتب المزراعين حتى الآن، إذ أنها تصور هؤلاء المتظاهرين على أنهم “معادون للقومية”، على غرار ما حدث مع متظاهري العام 2019.

لكن ما يحدث اليوم، يمكن أن يأتي بنتائج عكسية عليها وعلى رئيسها، لأنهم المتظاهرين يتمتعون بدعم واسع النطاق بين الهنود، وتجاهل مطالبهم سيتعارض مع صورة مودي الذي يوصف بأنه “نصير للفقراء”.

ولا شك بان ثورة المزارعين قد أثرت سلبياً على الاقتصاد الهندي، إذ توقعت الحكومة الهندية انكماشاً اقتصادياً بنسبة 7.7%، في العام المالي الذي ينتهي في مارس/آذار 2021، مقارنة بنمو 4.2% قبل عام، وفقا لوكالة “رويترز”. كما سبق لعدد كبير من الاقتصاديين أن عدلوا توقعاتهم بشأن الهند إلى انكماش يراوح بين 7% و9.5% للعام المالي 2020 – 2021 بعدما عدّل البنك المركزي تقديره إلى 7.5%.

في الختام، يبدو أن مستقبل الرئيس مودي بالحكم بات خطيراً وعلى المحك لتمنعه عن التراجع عن القوانين الثلاث في مقابل رفض المزارعين التراجع عن الاحتجاج الا بعد تراجع الحكومة عن هذه القوانين. فالإصرار على عدم تلبية مطالب هذه الشريحة الكبيرة من السكان، قد تكون نتائجة عكسية كون هذه الثورة قد تطيح برئيس الوزراء في أية إنتخابات مقبلة.

مصدر الصور: US today – The Economist.

موضوع ذا صلة: هل وقعت الهند عقداً مع إسرائيل لشراء طائرات “هيرمس – 900″؟

رياض عيد

كاتب وباحث في العلاقات الدولية في “مركز سيتا” – لبنان