تلاسن وعبارات وانتهاكات للبرتوكول. هكذا بدت أجواء أول محادثات مباشرة بين الوفدين الصيني والأميركي، في عهد الرئيس جو بايدن بمدينة أنكوريج – ولاية ألاسكا. واقع جديد فُرض في هذه الأجواء الملبّدة بين الطرفين.

من حوار ألاسكا القطبي مع الصين، إلى استهلال عهد الدبلوماسية الأميركية “العائدة” بزيارة وزيري الخارجية، أنطوني بلينكن، والدفاع، لويد أوستن، للحليفين الاستراتيجيين، اليابان وكوريا الجنوبية، وزيارة عاجلة لأوستن للهند؛ كلها تشكل معالم وعناوين على الطريق الذي ستسلكه السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الأربع المقبلة، أولها مواجهة بكين.

تاريخ من المواجهات

لم تكن إدارة الرئيس بايدن هي من رأى في الصين “تهديداً متصاعداً”، وفق تعبير لويد أوستن. فلقد كان الرئيس الديموقراطي الأسبق، جيمي كارتر، من أوائل الرؤساء الأميركيين الذين دعوا إلى الأخذ بعين الإعتبار مسألة حقوق الإنسان في الصين عند رسم السياسة الخارجية الأميركية في وقت كان فيه الانفتاح على بكين لا يزال حديث العهد، العام 1972 خلال عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.

أيضاً، كان الرئيس الديموقراطي الآخر، باراك أوباما، هو أول من دعا إلى تركيز الحشد العسكري والسياسي الأميركي في آسيا بسبب الصعود الصاروخي للصين، إقتصادياً وعسكرياً. في هذا الخصوص، أشارت وزيرة الخارجية حينها، هيلاري كلينتون، بأن عنوان العصر القادم هو “القرن الباسيفيكي”، وهو ما يعتبر مؤشراً صحيحاً على إنتقال الثقل الإقتصادي إلى تلك المنطقة (وتحديداً الصين)، وهو ما تؤكده الوقائع خصوصاً القضاء على فيروس “كورونا” المستجد وبشكل تام وتحقيق نمو إقتصادي – شبه وحيد – على صعيد العالم ككل.

أما بالنسبة إلى الجمهوريين، ذهب الرئيس ترامب إلى إثارة حربٍ تجاريةٍ مع بكين وإتهام من كل سبقه بـ “محاباتها” وغض النظر عن رجحان الميزان التجاري لمصلحتها على مدى عقود، حيث عمد إلى زيادة الرسوم الجمركية على السلع الصينية وضغط على حلفائه لمحاربة تقنياتها التكنولوجية (لا سيما شركة “هواوي” والجيل الخامس من الإتصالات)، ما أثار إجراءات مضادة وتسبب بحرب تجارية بين أقوى إقتصادين في العالم.

خلالها، بدأ ترامب ووزير خارجيته، مايك بومبيو، يستعيران مفردات من عصر “الحرب الباردة” ويتحدثان عن الحزب الشيوعي الصيني، مثيرين وتراً أيديولوجياً بلغ ذروته مع وصفهما لمرض “كوفيد – 19” بـ “الفيروس الصيني”، نظراً لظهوره الأول في مدينة ووهان، وحمّلا بكين مسؤولية تفشي الوباء في العالم بعدما اتهماها بإخفاء معلومات عن قوة الفيروس ما يعني، وبشكل غير مباشر، أن عليها دفع تعويضات مالية للمتوفين، وهو ما يعني أيضاً حصول واشنطن على “حصة الأسد” من تلك تعويضات نظراً لعدد المتوفين الكبير فيها، وذلك بعدما أساء الرئيس ترامب إتباع الطرق العلمية لكبح جماح الفيروس أو على الأقل الحد من إنتشاره.

بالنسبة إلى مسألة الإيغور، ركز بومبيو، في الربع الأخير من ولاية الرئيس ترامب، عليها بشكل غير مسبوق بهدف تكديس الملفات أمام الصين في محاولة لإبتزازها. الأمر نفسه فعله الرئيس بايدن حيث تحدث كثيراً عن موضوع شينجيانغ وقضية المسلمين الإيغور.

قد يكون هذا التركيز هو الدافع الرئيس وراء قيام الاتحاد الأوروبي، 23 مارس/آذار 2021، بفرض عقوبات، وللمرة الأولى منذ أكثر من 30 عاماً، على شخصيات وكيانات صينية بسبب سوء معاملة بكين لتلك الأقلية، ما جعل الصين ترد بالمثل وتفرض العقوبات على 10 شخصيات أوروبية بتهمة “نشر أكاذيب”. هذه العقوبات الأوروبية قد تكون، في جزء منها، نوعاً من “الإرضاء” للرئيس بايدن الذي يتوسم فيه الأوروبيون خيراً لا سيما بعد “الفوضى” التي تسبب بها سلفه معهم.

لكن وبإعتقادنا، إن هذه العقوبات لن تؤثر كثيراً على العلاقات الصينية – الأوروبية خصوصاً مع حاجة سوق بروكسل إلى منتجات بكين، ووجود ترابط إقتصادي يصعب التحلل منه بالسهولة التي يُحكى عنها.

إرث ثقيل

لا شك بأن التوتّر الأميركي – الصيني الموروث من عهد ترامب، على وجه الخصوص، حال دون انعقاد أولى جلسات الحوار بين الجانبين في واشنطن أو بكين، حيث وقع الاختيار على مدينة أنكوريج، المطلة على المحيط الهادىء بولاية ألاسكا، كحلٍ وسط.

لكن على ما يبدو، عكس المناخ القطبي نفسه على المباحثات بين بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، من الجانب الأميركي، والمسؤول الديبلوماسي الأول في الحزب الشيوعي يانغ جيتشي ووزير الخارجية وانغ يي، من الجانب الصيني. ما ساقه بلينكن من أحداث هو تبرير لـ “المخاوف العميقة” للولايات المتحدة بدءاً من تايوان إلى هونغ كونغ والإيغور و”عسكرة” بحر الصين الجنوبي و”الإكراه الاقتصادي”، الذي يمارس على حلفاء بلاده، والهجمات السيبرانية، معتبراً أن “كل هذه الأفعال تهدد النظام المرتكز إلى قواعد والذي يحفظ الاستقرار العالمي”.

في الجهة المقابلة، رأى جيتشي في هذا الحديث محاولة للتدخل في الشؤون الداخلية للصين، وأن بلاده سترد بحزم على أية إجراءات أميركية ضدها، وقال إن المطلوب التخلي عن عقلية “الحرب الباردة”.

وفي تقييم أمريكي لما حدث، رأت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية (نقلاً عن موقع الميادين نت) أن رد الوزير بلينكين على كلام جيتشي (الذي قال فيه أن الولايات المتحدة “مارست ولاية قضائية طويلة الأمد وقمع الأمن القومي وأرهقت فوق طاقته من خلال استخدام القوة أو الهيمنة المالية”) أنه “صحيح جداً، لكنه دفاعي بلا داعٍ بعد تهجّم أجنبي علني على المصالح والقيم الأميركية”، مشيرة إلى أن الكلام المسرّب من المحادثات تُظهر أن المواقف الخاصة من الجانب الصيني كانت قاسية مثلها مثل التصريحات العلنية.

أما رد بلينكين فكان أن الولايات المتحدة “تعترف بنواقصنا، وتقر بأننا لسنا مثاليين، وأننا نرتكب أخطاء، ولدينا تراجعات، ونتخذ خطوات للوراء.” هذا التصريح عُدّ نوعاً من الإعتراف بأن واشنطن ترتكب أخطاء وأنها بدأت بالتراجع، في بعض الأحيان والأماكن، من خلال قوله أنها إتخذت “خطوات للوراء”.

دعوة الحليف

ما إن انتهى اجتماع أنكوريج، حتى وجّه الوزير يي دعوة إلى نظيره الروسي، سيرغي لافروف، والتي تعتبر أول زيارة لوزير خارجية روسي للصين منذ تفشي “كوفيد – 19”. فلقد جذبت الزيارة الكثير من الاهتمام بسبب التوقيت للزيارة بعد وقت قصير من انتهاء اجتماع ألاسكا والهجوم الدبلوماسي المكثف الذي شنته إدارة الرئيس بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

لكن هذا ليس كل القصة؛ فلقد زاد الرئيس بايدن من تعميق الهوة مع روسيا عندما وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بـ “القاتل” في سابقة لم تحصل حتى في ذروة الصراع الأميركي – السوفييتي إبان الحرب الباردة، متوعداً إياه بـ “دفع الثمن” قريباً.

من خلال معلوماتها، يمكن إرجاع السبب المباشر لـ “الهستيريا” الأمريكية من روسيا إلى تقرير كان قد وزعه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركي يتضمن تقويماً لتدخل الاستخبارات الروسية بإيعاز، من الرئيس الروسي، بالانتخابات الرئاسية الأخيرة لمصلحة المرشح ترامب، ويتهمها بمحاولة إضعاف الثقة بالنظام الانتخابي للبلاد.

وبالعودة إلى التنسيق الصيني – الروسي، فلقد إستؤنف بتلبية لافروف دعوة نظيره الصيني التي يرى فيها العديد من المراقبين بأن هدفها هو إقامة علاقات وثيقة أعمق وأشمل من أجل توحيد الجهود لمواجهة الولايات المتحدة؛ فاليوم، يمكن القول بأن الضغط الأمريكي الحالي على بكين وموسكو، بالتبعية، بات حقيقة موضوعية، وهي تأتي في وقت مهم جداً تتزامن فيه الأحداث المهمة هذا العام (2021) ومنها الذكرى الـ 20 لتوقيع المعاهدة الصينية – الروسية لحسن الجوار والصداقة والتعاون والذكرى الـ 20 أيضاً لتأسيس منظمة شنغهاي للتعاون.

تنسيق إستراتيجي

ليس خافياً أن كلاً من “الدب” الروسي و”التنين” الصيني، كقوتين عالميتن أساسيتين، لن يسكتا عن التصرفات الأمريكية، ولقد تُرجم ذلك عبر مواقف للوزير لافروف ومنها ما دعا فيه إلى الحد من اعتماد البلدين على إستعمال الدولار وأنظمة الدفع الغربية بهدف التصدي لما وصفها بـ “أجندة الغرب الفكرية”، وأن موسكو وبكين “مضطرتان للتطور بمعزل عن واشنطن” لإحباط ما وصفها بـ “محاولات أميركية للحد من تطورهما التكنولوجي”.

هذا التصريح هو مهم وخطير في الوقت نفسه؛ فالتخفيف من وقع إستعمال الدولار في التعاملات الخارجية سيؤثر سلباً على قوة الدولار عالمياً، بشكل بارز، خصوصاً مع إعتماد اليوان الصيني – من قِبل صندوق النقد الدولي – ضمن سلة العملات الإئتمانية وهو ما يعطيه ثقة دولية. بالإضافة إلى ذلك، قد يفتح هذا الأمر الباب أمام مواجهة مفتوحة بين كل من بكين وموسكو، من جهة، وواشنطن، من جهة أخرى، لكون هذه العلمة تشكل إحدى أدوات الضغط المالية لأمريكا، ومن خلالها تستطيع التحكّم بالعديد من الدول والشعوب عبر العقوبات التي تشل إقتصادياتها؛ فتنازل دولتين كبيرتين عنها أو الحد منها، يعد بمثابة “حرب عملات” قد تصل أحداثها إلى تطورات حامية وفي نماطق متعددة من العالم.

من هنا، يبدو أن الحليف الروسي أراد تخفيف الخناق عن الصين خصوصاً بعد ما سُرّب عن أن المحادثات الرباعية، اليابان والهند وأستراليا مع الولايات المتحدة، هدفها إنتاج “ناتو آسيوي” يشد الطوق على بكين، من الجهة البحرية تحديداً. لذا، قد تكون زيارة الوزير الروسي هي لطمأنة شريكه بأن طريق وحدود روسيا مفتوحة لإمرار بضائعه إلى أوروبا، من جهة، وإطلاعه على “النَفَس” الأمريكي الجديد عن قُرب، من جهة أخرى.

في هذا السياق، يرى الكاتب جورج فريدمان، في كتابه “العقد الأخير”، بأن الولايات المتحدة تعمل تقويض الصعود الصيني إنطلاقاً من منطقة شرق آسيا؛ ولتحقيق ذلك، حدد بعض المناطق التي تعتبرها واشنطن حيوية لتنفيذ هذا المخطط وأبرزها أستراليا، التي يرى فيها أنها قد تكون المكان المثالي لتجميع القوات الأمريكية في حال حدوث أي طارئ في تلك المنطقة.

أيضاً، يرى فريدمان بأن هناك حاجة أمريكية لكوريا الجنوبية لا سيما من خلال التكنولوجيا حيث سجلت البلاد تقدماً كبيراً في هذا المجال وضمن وقت قياسي. لكن الأمر يبدو أنه تطور إلى الناحية العسكرية (بدأت بتواجد القوات عقب الحرب الكورية 1950) وزاد وتيرته بعد تولي الرئيس بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض حيث تم الإعلان عن زيادة مساهمة سيول في تكاليف إقامة 28.5 ألف جندي أمريكي، بنسبة 13.9% (وهي نسبة كبيرة جداً مقارنة مع ما سبق)، فيها بعد فترة من الفتور في العلاقات، مارس/آذار 2021.

في هذا الخصوص، قال كبير مفاوضي كوريا الجنوبية، غيونغ أون بو، إن “الاتفاق حل أطول فترة انقطاع على الإطلاق، والتي دامت سنة وثلاثة أشهر”، مضيفاً “وفر الاتفاق فرصة للتأكيد على أهمية التحالف والحاجة لتمركز مستقر للقوات الأمريكية في كوريا” لمدة 6 سنوات، بحسب بيان لوزارة الخارجية الكورية الجنوبية.

إن الإتفاق على هذا الأمر وفي هذا التوقيت بالذات، يعدّ مؤشراً على التصعيد الذي تقوده والولايات المتحدة بوجه بكين. أيضاً وعند النظر إلى موقع كوريا الجنوبية الجغرافي، نرى بأنها تحيط بالبحر الأصفر من جهة الشرق، وهي على خط الفصل (تقريباً) ما بين البحر الأصفر وبحر الصين الشرقي، ما يعطيها موقعاً متميزاً ستستفيد واشنطن منه حكماً لمصلحتها حتى النهاية، ويجعل من القوات العسكرية الأمريكية تقف على “أنف” الصين من جهة البحر.

وفي تكملة لما قاله فريدمان، يقول روبرت كابلان، في كتابه “إنتقام الجغرافيا”، إن على الولايات المتحدة البقاء في تايوان لأن إستعادة الصين لها سيكون الخطوة الأولى في نظام عالمي متعدد الأقطاب لكون الأخيرة ستخرج من حزام “الجزر الأربع”، أي اليابان وتايوان والفلبين وأستراليا، وتنطلق إلى المحيط الهادئ ما يعني إفلاتها من الطوق؛ بالتالي، خروجها إلى العالم.

من هنا، كان على الشريك الروسي إعطاء بكين بعض الأوراق القوية من أجل وضع أسس للمواجهة المشاركة مع الولايات المتحدة، لا سيما وأن بعضاً من حلفاء الأخيرة لا يزالون يعتبرون “شركاء غير موثوق بهم” ببالنسبة إلى موسكو، على أقل تقدير، وذلك على غرار اليابان التي لا تزال تعاني من آثار الحرب العالمية الثانية، إذ لا توجد حتى الآن معاهدة تنهي حالة الحرب بينها وبين روسيا، حيث تقف جزر الكوريل (ضمها الإتحاد السوفياتي قبل انتهاء الحرب والتي يعتبرها “ملكاً تاريخياً” له والتي سبق وأن تنازل عنها – عامي 1855 ضمن إتفاقية سيمود و1875 ضمن إتفاقية بطرسبورغ تباعاً) كإحدى العقبات أمام التوصّل إلى إتفاق يرضي الطرفين.

أخيراً، في خضم التوترات الأخيرة بين ثلاث قوى عالمية، يبدو بأن الساحة الدولية قد باتت اليوم أكثر جاهزية للعودة إلى مناخات “الحرب الباردة”؛ فبقاء الولايات المتحدة متربعة على عرش الأحادية القطبية في العالم، سيؤدي حتماً إلى زيادة التعاون الصيني – الروسي وتفعيل المواجهة معها، في وقت لا يعلم فيه الكثيرون مدى وآفاق وآثار تلك المواجهات، العلنية والخفية.

مصدر الصور: سبوتنيك.

موضوع ذا صلة: “الناتو الآسيوي”.. تحالف جديد لتقويض قدرات الصين

علوان أمين الدين

مؤسس ومدير “مركز سيتا” – لبنان

سمر رضوان

المدير التنفيذي في “مركز سيتا” – سوريا