ذكرنا في دراسات سابقة أن إسرائيل لها دور في جميع المآسي العربية لأنها مع واشنطن قررا أن المجال لا يتسع إلا لإسرائيل؛ لذلك، كانت الأخيرة واثقة أن وقوف العرب إلى جانب فلسطين يرتهن بأمرين: الأمر الأول، قوة إسرائيل الخارقة وبطشها بلا رحمة بالأطراف العربية. الأمر الثاني، تمزيق البلاد العربية وشعوبها وارهاقها في مشاكلها الداخلية.
من هنا، تساءل أحد الباحثين الإسرائيليين وهو في شك عميق: هل انتهى الصراع العربي – الإسرائيلي إلى الأبد وانفسح الطريق أمام تسيد المشروع الصهيوني؟!
وقد رددنا عليه بأن العرب أمة واحدة وهي تتصدى للوجود الصهيوني، الذي تمثل إسرائيل فيه رأس الحربة السرطانية؛ ومهما كانت انحرافات بعض أعضاء الجسد واستقوائها بإسرائيل، فإن الجسد يلتئم لا محالة، ومهمتنا في هذه المرحلة هي المحافظة على العقل العربي الذي يضمن لملمة أجزاء الجسد الواحد.
لقد تنبهت إسرائيل إلى أن انصراف الحاكم العربي إلى تنمية بلاده وتقويتها والاهتمام بمجتمعه حتى دون صراع معها هو علامة من علامات الخطر عليها. لذلك، حرصت إسرائيل، بمساندة من الولايات المتحدة، على تدمير بوصلة الحاكم العربي حتى وصل الأمر إلى حد رضاء واشنطن ترضى عنه بتوصية إسرائيل بل وتقوم بتعيين بعضهم، ولا يستطيع أحد أن يجادل في هذا السيناريو الذي رأيناه كيف قام الطرفان بتنفيذه بأم العين.
لذا، من البديهي أن حل المشاكل العربية يتطلب نزع العامل الإسرائيلي السرطاني من الجسد العربي، وذلك يتم عبر ثلاثة مراحل، المرحلة الأولى، تقوية المجتمع والاقتصاد والتآلف في داخل مجتمع عربي. المرحلة الثانية، التناسق والتوافق بين الدول العربية على خطط للتنمية والاستقرار. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي مصارحة إسرائيل بأن هذا السرطان يجب تحجيمه ووضعه في مكانه الصحيح.
بعد هذه المقدمة، ننتقل إلى دور إسرائيل وضياع البوصلة العربية ودور واشنطن في هذه المآسي.
أولاً: في اليمن
كان اليمن، تحت حكم الإمام أحمد بن يحيى إلى أن زحف الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، بشعاراته التي قسّمت العالم العربي، بين تقدمي ورجعي، وتحت شعار “ثورة العرب التحريرية من الاستعمار والرجعية”.
حينها، تقدم الرئيس عبد الناصر صوب اليمن وأشعل فيها فتنة أدت إلى صدام مع السعودية وإيران – الشاه وإسرائيل وبريطانيا وأمريكا والأردن، الذين دعموا زعماء القبائل ضد الجيش المصري، حيث وقعت مصر في “مستنقع” اليمن بعد أن أنشأت كل هذه العداوات ثم عاجلتها إسرائيل بضربة العام 1967 وقضت على قوتها، كما قضت على الرئيس عبد الناصر نفسه.
لذلك، إن الانقلاب الذي رتبه كل من الإنجليز والأمريكيين في مصر، العام 1952، كان السبب بنشر الانقلابات العسكرية في معظم الدول العربية تحت شعار “الثورة”، علماً بأن كل هذه الأحداث لا علاقة لها بالثورات. فلم يستقر اليمن منذ ذلك الوقت، ووقعت فيه انقلابات عسكرية متتالية مزقت نسيج المجتمع اليمني بين الثورة والإمامة، وبين أنصار النظام وخصومه؛ لذلك وعندما وقعت ثورة اليمن الحقيقية في يناير/كانون الثاني 2011 ضمن الثورات العربية ضد الرئيس الراحل عل عبد الله صالح، تم احتواؤها مثل كل الثورات العربية. بعدها، تقدم الحوثيون، وهم جزء من المجتمع اليمني استخدمته السعودية ضد الرئيس عبد الناصر في ستينيات القرن الـ 20، فأرادوا السيطرة على كل اليمن خصوصاً للسعودية، فظنت الأخيرة بأنهم “ذراع” إيران في اليمن، وأنهم من الشيعة. ولذلك، قررت الرياض تدمير اليمن فوق رؤسهم جميعاً.
وقد أشرنا سابقاً إلى أن إسرائيل، أن لم يكن لها دور مباشر في تدمير اليمن لكنها سعيدة بما حدث فيه لأن مصر أغلقت باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية بالتسيق مع اليمن العام 1973؛ ولذلك، إن من مصلحة إسرائيل حرمان مصر من اليمن الذي كان شعبه يقدّر دور “مصر الناصرية”، في ثورة عبدالله السلال، وهي في الواقع انقلاب عسكري.
على أية حال، تعقّد موقف المنطقة منذ الثورة الإسلامية في إيران وصدامها مع واشنطن وإسرائيل؛ ولذلك، اقترحنا حلاً لهذه المشكلة وهو الوقف الفوري لإطلاق النار على جميع الجبهات، وانسحاب كافة القوات الأجنبية من اليمن، ورعاية التسوية السياسية بين الأطراف اليمنية تقودها كل من السعودية وإيران ومصر والأمم المتحدة.
ثانياً: المآساة السورية
يعلم الجميع الهدف مما يحدث في سوريا وهو القضاء على قلعة المقاومة لإسرائيل بعد أن تخلت مصر، في صفقة “كامب ديفيد”، حتى اضطرت سوريا إلى التحالف مع إيران فتشابكت الخطوط.
إن الحل الفوري للمآساة السورية هي انسحاب المقاتلين الأجانب، وكذلك الدول من سوريا، وأن تكف إسرائيل عن العدوان عليها ثم يتم تسوية المشكلة بين الحكومة السورية والمعارضين السوريين في الداخل من دون أية تدخلات خارجية.
ثالثاً: المشكلة اللبنانية
من خلال ملاحظة الوضع في لبنان، يظهر أن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية وإيران يتصارعون فيه وعليه. ومن الواضح أيضاً أن خطة إيران هي بتقوية حزب الله ودعم قدراته المقاومة ضد إسرائيل. أما المعسكر الآخر، فهو يسعى إلى تدمير المقاومة من خلال تدمير لبنان؛ أي هدم المعبد فوق رؤوس الجميع.
من هنا، يكمن الحل في أن تكف كل الأطراف الخارجية عن التدخل في لبنان، وأن يُعلن لبنان دولة محايدة وهذا الحياد لا ينال من المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي؛ الحياد فُهم خطأً في لبنان والعالم العربي بأنه تسريح لكل القوات وطلب الحماية عند العدوان من المجتمع الدولي، وهذا المفهوم غير صحيح.
بمعنى آخر يمكن أن تتفق السعودية وإسرائيل وواشنطن مع إيران على انقاذ لبنان الذي يحتضر، بل أن الصراع فيه وعليه قد جعل تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة أمراً بعيد المنال. ويظهر لي أن ما يحدث في لبنان الآن هو تنفيذ لـ “جريمة القرن” وأهمها القضاء على المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل وهيمنتها على لبنان وإبعاد النفوذ الإيراني عنه كما كان الحال زمن الشاه.
رابعاً: العراق
لا بد من تسوية بين إيران والولايات المتحدة والسعودية ومصر بحيث تضمن عروبة العراق، ووضع دستور جديد بدلاً من الدستور الأمريكي الذي وضعه الحاكم العسكري بول بريمر، العام 2005، واعادة اعماره ووضع نظام سياسي يضمن المواطنة الكاملة لكل الطوائف دون هيمنة طائفة على أخرى، كما أقترح أيضا أن يتم حياد العراق.
في الحقيقة، إن معظم الدول العربية يصلحها الحياد حتى لا يؤدي فائض القوة عندها إلى تدخلات خارجية.
خامساً: ليبيا
أما ليبيا، فقد اتفق الليبيون على تسوية تنفذها الحكومة الجديدة التي حازت موافقة مجلس النواب وبقي أن تحترم كل الأطراف، الاقليمية والدولية، هذه التسوية وأن تدعمها حتى لا تنقسم البلاد ولا تتعرض للحرب الأهلية مرة أخرى. ولا شك أن إبعاد المشير خليفة حفتر عن المشهد سوف يسهم في تحقيق هذه التسوية وتلك النتيجة.
مصدر الصور: ذا إيكونومست – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: تحرير المصطلحات الصهيونية في الصراع العربي – الإسرائيلي
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر