في الواقع، تمكنت إسرائيل من الهيمنة على المنطقة العربية بعد هزيمة مصر، العام 1967. ولا شك أن الدكتاتوريات العربية وطمس حرية وإنسانية المواطن العربي و”تفريغه من عقله” شكّلت أعظم إنجازات الاستبداد العربي لصالح إسرائيل؛ حيث كان المطلوب من المواطن، لجهة الحاكم العربي، أن يفقد وعيه وعقله لصالح توافه الأمور، مثل كرة القدم والتطرف في المواقف مع فريقٍ ضد فريق آخر ويعْمى عن الإستمتاع باللعبة الجميلة. هذا المواطن هو نفسه الذي ألهب حنجرته بالهتاف لـ “الزعيم البطل” الذي نُسبت إليه بطولات وعنتريات زائفة، فـ “كسبت إسرائيل الحروب بالجدية ونحن كسبناها بالطبلة والربابة”.
أرجو أن يهتم أحد الدارسين بفحص الدراما والأغاني المصرية طوال 70 عاماً ليوثّق هذه الحقائق. وكان أكثر من غنى للهزائم والمآسي هو الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، الذي غنى للجندي المصري العائد من اليمن إذ غنى له أنه “راح وعاد بألف سلامة إلى وطنه بعد أن جلب النصر”.
في هذا المناخ الهستيري، فقد المواطن العربي العقل النقدي الذي كان كفيلاً بأن يكشف زيف الحاكم؛ فراحت إسرائيل تكتب التاريخ على هواها بمصطلحاتها ولم تنشد أهازيج النصر، وإنما تركت ذلك للعرب “الأشاوس”.
لقد آن الأوان كي نجري تقييماً لدور الاستبداد والجهل العربيين للحكام في “إستحمار” الشعوب و”إستبقارها” والقضاء على كرامتها وانسانيتها، إذ بلغ هذا المناخ غايته يوم اختار الكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل “حرية الوطن” على حساب “حرية المواطن” معتبراً أن تضحية المواطن بحريته لصالح “ديك الحارة”، الذي إخترعه الشاعر السوري الراحل نزار قباني، تضحية كبرى للوطن.
لا بل إن بعض الأعمال الدرامية صوّرت بعض الضباط، الذين ترقوا في سلك العسكرية كلما اجادوا في تعذيب المواطن وتجنيد الفنانات للدعارة من أجل الوطن، على أنهم أبطال، في حين إنتزعت الرجولة من الرجل والكرامة من المرأة فصار الإنسان العربي “صنماً بلا روح وخشباً مسندة”.
إنه ومن واجبنا الآن إفهام الأجيال الجديدة الحقيقة، وتفهيمهم بالعقل حتى يقرأوا تاريخاً محترماً موثوقاً فيه الكثير من الحقائق.
الحقيقة الأولى، أن من تغنوا بـ “أمة عربية واحدة” هم من طعنوا الأمة في شرفها لأنهم تصدوا للقيادة دون أن يكونوا أهلاً لها، ثم أنهم من الطبقات الإجتماعية البائسة التي اختصرت الطريق ولم تلقَ حظها من التعليم، فصار الحاكم العربي يكره التعليم ويبغض المتعلمين.
الحقيقة الثانية: إن معظم أفراد الجيش المصري ضحوا بأرواحهم تحت قيادة عسكرية وسياسية بائسة، فلهم كل الاحترام وسحقاً لتلك القيادات.
الحقيقة الثالثة: أثبت الجيش المصري جدارته بالوطن عندما تولى قيادته أفضل أبنائه، مثل الفريقين سعد الدين الشاذلي ومحمد عبد الغني الجمسي وغيرهما من أبطال حرب تحرير سيناء، أكتوبر/تشرين الأول 1973. إن الهزيمة الرسمية، لا تطمس البطولات الفردية والصمود الذي ضاع وسط الضجيج وحوّل النظام و”فيلسوفه” الهزيمة إلى نصر بدليل، أي أن الهزيمة لم تُسقط الزعيم والوطن والجيش ما دام الزعيم بخير.
من خلال كل ما سبق، نعالج بعض هذه المصطلحات المتعلقة بالصراع لتثبيت الحقوق العربية:
أولاً الصراع العربي – الإسرائيلي
هو مفهوم قائم على أن الصهيونية “أخطبوط” عالمي رأسه إسرائيل، وهي المقر لتجميع يهود العالم في دولة لهم. يقابل هذا المفهوم أن العرب يصارعون الحركة الصهيونية برفض وإنكار قاطعين. فهذا الصراع العربي – الإسرائيلي تحوّل من صراع بين النُظم وإسرائيل، إلى صراع هوية ووجود بين العروبة الشعبية والصهيونية، لا سيما عندما تواطأت إسرائيل مع الحكام على قهر الشعوب وتدمير الأوطان.
اليوم، يحاول الخطاب العربي – الإسرائيلي الحديث عن صراع إسرائيلي – فلسطيني، وإستعمال مصطلح “نزاع” بدلاً من “صراع”. هذا المفهوم، يسلخ العالم العربي عن فلسطين، ويحوّل الصراع إلى محلي على أرض فلسطين بعد ان تخلى الحكام العرب وانحازوا إلى إسرائيل.
ولكن، مهما غيروا المصطلحات سيظل الصراع عربياً – صهيونياً، حيث أن الأمة ما زالت تحرص على عروبة فلسطين، ولن تسمح باقتطاعها لصالح اليهود مهما تواطأ الحكام العرب، فأرجوا ألا ينقاد المثقفون إلى هذه الهوة وأن يتمسكوا بمصطلح الصراع العربي – الإسرائيلي.
ثانياً: الحروب العربية – الإسرائيلية
هو مصطلح إسرائيلي يقصد به أن إسرائيل وحدها صدت العرب جميعاً. فلم تقع حرب عربية – إسرائيلية، وإنما كانت إسرائيل، في كل الأحوال، هي المعتدية سواء ضد الدول أو ضد المقاومة. ويترتب على ذلك أن مصطلحات مثل “حرب الأيام الستة”، العام 1967، غير صحيح لأن العدوان الإسرائيلي استمر ساعات، وإرتكبت على الأراضي المصرية كل الجرائم ضد الجيش المصري وهو على أرضه. فلقد زعمت إسرائيل أنها قامت بضربة استبقت بها عدواناً مصرياً مبيتاً استناداً إلى التصريحات “العنترية” المصرية وحشد رديف اليمن في سيناء، وخلصت إسرائيل إلى أن هزيمتها للجيش المصري هو “دفاع عن النفس”، وإحتلالها لسيناء “عمل وقائي” ضد قيادة مصرية “متهورة”، كما أن الإحتلال “مكافأة” النصر، وسيناء “جائزة” المنتصر.
وقد أسمت إسرائيل حملة مصر لتحرير سيناء من الإحتلال الإسرائيلي بأنها حرب “يوم الغفران” لتعطي مسحة مقدسة على صد إسرائيل للحملة العسكرية المصرية العام 1973.
ثالثاً: مفهوم السلام
تقصد به إسرائيل الإقرار بملكيتها لفلسطين وحقها في إبادة الفلسطينيين والعرب لأنهم “لا يستحقون الحياة” ما داموا عاجزين عن الدفاع عن بلادهم وتطويرها؛ فحق لإسرائيل أن تستمتع بها، وترفض المعنى العادي للسلام ولا تقبل بأية تسوية في فلسطين لا تسلم بتبعيتها لليهود استناداً، تارة، إلى النظرية الاستعمارية وهي البقاء للأقوى، وطوراً، إلى أن قوتها سر فرض وجودها على البيئة العربية المعادية.
هذا، وتؤكد إسرائيل ان هذا “السلام الإسرائيلي” يأتي بالتفاوض وخروج العرب من الدائرة والإنفراد بالطرف الفلسطيني، الذي مزقته بحيث صار عداء الفلسطينيين ضد بعضهم البعض أشرس من العداء لإسرائيل؛ لذلك، انتقلت الأخيرة من مرحلة “المفاوضات من أجل السلام” إلى مرحلة “المفاوضات من أجل الأمن المتبادل” ثم مرحلة “التفاوض من أجل التفاوض”.
واتصالاً بذلك، فإن توسيع التطبيع العربي مع إسرائيل يمكنهم من تأمين محاربة جماعية، بين إسرائيل والعرب، لعدوهم الجديد وهو إيران؛ فالتطبيع هو طريق إلى السلام العربي مع إسرائيل، حيث اختفت جميع جوانب الحقوق الفلسطينية، واختفت صيغة “الأرض مقابل السلام” التي ظهرت في البداية.
وبناء على ذلك، اعتبرت إسرائيل أنها على حق، وأن مقاومة الإحتلال الإسرائيلي “إرهاب” صريح يجب على العرب مساندة إسرائيل على تصفيته. لكي نفهم منطق إسرائيل هذا، يجب علينا قراءة ما يكتبه زعماؤهم خاصة نظرية رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، القائمة على القوة المطلقة وهزيمة العرب وقمعهم بشكل مطلق حتى يفقدوا الأمل في استخلاص الحقوق الفلسطينية بالقوة. أما معاهدات السلام، فهي صفقات تفرض على إسرائيل التزامات أبرزها الإنسحاب من الأراضي المحتلة وتمكين الفلسطينيين من اقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
والجدير بالذكر هنا أن تلويح إسرائيل بالسلام والمفاوضات يخفي تدليساً وخداعاً للمواطن العربي الساذج الذي يتساءل ومن يرفض السلام والمفاوضات، ولكني أوضحت ما تقصده إسرائيل بهذين المصطلحين وهو مفهوم شاذ لا ينسجم مع ما توافق عليه الناس في شأن هذه المفاهيم.
مصدر الصور: العربية – الميادين.
موضوع ذا صلة: هل يبرر عداء البعض لإيران التخلي عن الأقصى وفلسطين؟
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.