لم يعد خافياً على أحد أن الأزمة في سوريا حولتها إلى ساحة صراع دولي وإقليمي بالوكالة، لدرجة أنها أصبحت من أعقد الأزمات الدولية، نظراً لتداخل وتشابك المصالح بين الدول الإقليمية والدولية، وخاصة الصراع التقليدي الروسي – الأمريكي، فمن المعروف أنه ليس بجديد أنْ تتواجه القوتان المعروفتان على الساحة الدولية، وقد أصبحت سوريا الساحة الجديدة لمنافسة الطرفين، ما جعل الأنظار تتجه إلى تصرفات الاثنين ومسارات تحركاتهما، دون الاكتراث بتحركات باقي القوى المنتشرة في سوريا.
لكن عند التدقيق في واقع الأزمة السورية وتداخل الدول، يظهر لنا أن الصراع الأساسي لا يقتصر على القوتين الدوليتين (الولايات المتحدة وروسيا)، بل باتت سوريا من أهم ساحات الصراع السياسي للدول الإقليمية أيضاً، وخاصة ما بين الاستراتيجية السعودية، والمشروع الإيراني في سوريا والمنطقة، الأمر الذي ساهم في تحريك جهود الاثنين؛ لتثبيت نفوذهما في المنطقة والحفاظ على دورهما الإقليمي والدولي، وكانت سوريا هي الوجهة لتحقيق هذا الدور.
فإيران ترى نفسها المدافع الأساسي عن الإسلام الشيعي، لذا تعتبر تحالفها مع النظام السوري هو تحالف استراتيجي، وأيضاً خط رئيسي لدعم تحالفاتها ضد اسرائيل، معتبرة نفسها المدافع عن الشيعة.
أما السعودية، فهي أيضاً ترى نفسها قوة إقليمية أساسية منافسة لإيران، بالإضافة إلى مكانتها الروحية في العالم الاسلامي، والمدافعة عن المسلمين السنّة. فهي ترى النظام السوري من أهم حلفاء إيران، لذا تعمل على إسقاطه لتقليص نفوذها في سوريا.
وهنا بدأت الدولتان بتوظيف أدواتهما، ودعم تحالفاتهما مع قوى أخرى، هدفُ إحداهما إسقاط النظام؛ وهدف الثانية منع سقوطه، فإيران نسقت مع روسيا، وسعت لدعم مواليها، من خلال تكثيف السياحة الدينية إلى سوريا، واتبعت استراتيجية التعبئة الطائفية، لجعلها قوة للقتال في سوريا.
وهذا ما قابلته السعودية بالتنسيق مع تركيا وقطر في بداية الأزمة، والسعي لتجنيد المنظمات الدولية بما يخدم مصالحها. كما بدأت بدعوة السنّة لدعم المعارضة السورية، ودعوة أئمة مساجدها في مكة المكرمة، لمساعدة السوريين ضد هجوم قوى القمع والعدوان، كرسائل ضمنية ضد إيران والنظام السوري، فكان لكل طرف حسابات مختلفة؛ لدعم جهوده في سوريا منذ بداية الأزمة، والتي تغيرت مع الظروف والأحداث المتكررة فكانت:
1. حسابات متضاربة – غير متكافئة
واجهت القوتان ضغوطات مختلفة، إقليمية ومحلية، فالاثنتان اعتمدتا على شبكة تحالفات إقليمية ودولية في سوريا، الأمر الذي نتج عنه شبكة منقسمة ومعقدة ومتضاربة في الداخل، مما انعكس فعاليته سلباً على أحدهما، وايجاباً على الآخر.
فالسعودية، باعتمادها على قطر وتركيا منذ بداية الأزمة السورية، تعرضت لكبح الأهداف التي سعت لتحقيقها من خلال الاضطلاع بدور طموح في بداية الأزمة، الأمر الذي انعكس إيجاباً على الدور الايراني، وهيأ فرصةً له لتحقيق أهدافه، فالحليفين التركي والقطري باتا رهن التوافقات مع الخصم، والخروج بنتائج؛ أدّت لتقليص دور حلفائها على الأرض مقابل زيادة نفوذ إيران والميليشيات التابعة لها.
كما أن التعويل السعودي على المعارضة السورية منذ البداية، كــ “هيئة التفاوض السورية” التي اتخذت من الرياض مقراً لها بغية تعريفها بـ “المرجعية السياسية” لتوحيد المعارضة وتشكيل جسم تنافس به النفوذ الإيراني على الأرض، باء بالفشل نتيجة خلافات داخلية ضمن صفوفها؛ والتي خرجت للعلن، فمنذ محادثات مؤتمرها “الرياض – 1″، ديسمبر/كانون الأول 2015، إلى اجتماع الهيئة العليا للمفاوضات ومنصة القاهرة وموسكو، 22 أغسطس/آب 2017، كلها انتهت دون التوصل لاتفاق حول استراتيجية مشتركة، وتشكيل وفد موحد لجميع أطيافها، فلم تحقق السعودية مبتغاها.
كما أن وصول “الطرف المعطِّل” المتمثل بالائتلاف السوري المدعوم تركياً وقطرياً ليسيطر على هيئة التفاوض، قلّص دورها بما يتناسب مع المصالح الإيرانية، فالمعارضة السورية أصبحت رهن الصفقات مع إيران، مما أكسب الأخيرة سيطرة أوسع لها ولميليشياتها على حساب المعارضة. الأمر الذي أدى بالسعودية إلى دفع ثمن إعادة تموضعها، وتخفيف التزاماتها تجاه المعارضين، فتجربتها هذه انعكست سلباً عليها، ولم تحقق لها أي من أهدافها، بل حققت جزءاً كبيراً من أهداف الخصم، الذي نجح في تحويل المعارضة السورية إلى مجموعات متناحرة، وخروجها من مسار المعارضة الحقيقية، إلى مجموعات متطرفة، تتحرك بما تملي عليها نتائج صفقات داعميها مع إيران، مما دفع بالسعودية مؤخراً إلى تعليق عمل موظفيها، يناير/كانون الثاني 2021، وتعطيل أعمال هيئة التفاوض السورية؛ لذا، فالحسابات السعودية مع دخولها في معترك الأزمة السورية لم تغير ميزان القوى لصالحها، فكان لا بد لها من إعادة ترتيب هذه الحسابات لخلق نوع من التوازن لتواجه به الخصم التقليدي.
2. ترتيب الحسابات – إعادة التموضع
مع تذبذب المشهد في سوريا، بدأت القوتان بالتحرك لإعادة تموضعها؛ وترتيب الحسابات، لتحقيق نوع من التوازن، يحقق لهما النفوذ والاستقرار، فاتجهت الانظار نحو مناطق شرق الفرات.
فقد كثفت إيران في الآونة الأخيرة من تواجدها في المنطقة وعلى كافة المستويات، العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والاجتماعية، ونشرت العديد من الميليشيات من أبناء المنطقة وخارجها، وبناء قواعد وثكنات عسكرية، في محاولة منها لمواجهة الوجودين الأمريكي والسعودي في منطقة شرقي الفرات، وخاصة في ريف دير الزور، باستخدامها صواريخ بالستية، كتب عليها “الموت لآل سعود” عند قصفها لمواقع في منطقة البوكمال، في إشارة إلى أنها استهدفت مجموعات “جهادية” مدعومة من الاثنين، وتشكيل خلايا من العشائر لإحكام سيطرتها على المنطقة بالكامل.
وفي المقابل ولتحقيق نوع من التوازن، رتبت السعودية حسابات جديدة للتوغل بشكل أكبر في المنطقة، والتقرب من حليف حقيقي وموثوق على الأرض متمثل بقوات سوريا الديمقراطية – “قسد”، عبر دعمه لخلق نوع من التوازن مع التواجد الكثيف للميليشيات الشيعية المنتشرة في المنطقة، بدأتها بالغزل الإعلامي لدور الحليف المحلي، كمثال ما ورد في صحيفة عكاظ لصحفي سعودي بعنوان “الأكراد .. هبة الله للعرب” يتحدث فيها عن أن الكرد كانوا هبة للعرب على مر التاريخ، منذ امجاد صلاح الدين الأيوبي وفضله في توحيد الإمارات العربية التي مزّقها الاستعمار الصليبي، واليوم هو ما يقوم به أسلافهم في حماية العراقيين والسوريين من طغيان الخوارج الإرهابيين فيها، وتحرير المدن من العصابات، وكأن صلاح الدين يعود بجيشه لتحريرهم. وفي النهاية، يشير إلى أن الكرد لم يحظوا بدعم العرب، ومن المهم استراتيجياً اليوم “أن نبني سداً منيعاً من التوازن مع شعب مخلص وقوي مثل الشعب الكردي، يستطيع أن يحمينا من طغيان وطموحات وأحلام المغامرين الجدد”.
يأتي هذا الغزل السعودي بالتزامن مع سلسلة من الخطابات الإعلامية ومقابلات مع شخصيات من كرد سوريا، تلاها زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، لمدينة الرقة العام 2019 لتأكيد دعمهم لقوات سوريا الديمقراطية كحليف مهم، وإيصال رسالة إلى تركيا وقطر أنه بإمكان السعودية استخدام هذه القوات كورقة ضغط، نتيجة توافقهما مع ايران.
يبدو أن السعودية بهذا التحرك تكون قد أوجدت استراتيجية جديدة على الأرض لمواجهة النفوذ الايراني، وخلق نوع من التوازن في شرق الفرات، عبر علاقاتها مع أبناء المنطقة، وإدارتها المتمثلة بـ “قسد”، التي تجمع ضمن هيكليتها كافة المكونات الديمغرافية في المنطقة.
فهذا التقارب يأتي في إطار انتقالها من وقف المساعدات عن المعارضة السورية، إلى الميل نحو قوات سوريا الديمقراطية، لتثبيت مصالحها في المنطقة، فأصبح الدور السعودي واضحاً، وله أثره في الأحداث الجارية في المنطقة؛ فالضغط السعودي على الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب الكرد، منحها غطاءً سياسياً لدعمهم باعتبارها قوة تواجه النفوذ الإيراني في المنطقة، وهذا الأمر سبب نوعاً من الإحباط لدى تركيا وحدّ من مساعيها لزيادة نفوذها في المنطقة على حساب الكرد، وهذا ما ينطبق على رؤية السعودية لمدينة منبج، واجتماعها مراراً بمجلسها العسكري (التابع لـ “قسد”) التي تراها ليست سداً لمواجهة النفوذ التركي فحسب، بل لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، فرغم التغيير في التكتيكات، إلا أن الأهداف الجيو – سياسية للسعودية باتت متوافقة مع الولايات المتحدة.
وفي الختام، يمكن القول أن كِلا المنافسين حاولا، وما يزالان يعملان حتى اليوم، تحقيق أهدافهما في سوريا عبر حسابات وأدوات مختلفة. فإيران، نجحت حتى الآن بمساعدة روسيا في حماية النظام السوري من السقوط، وكسبت نفوذاً كبيراً في المنطقة، كما أنها نجحت في إدراج نفسها كجهة فاعلة ورئيسية في الأزمة السورية، على حساب تراجع الدور السعودي فيها، فالضغوطات تجاوزت قدرات الأخيرة لإسقاط النظام، لذا بدأت بإعادة ترتيب حساباتها، عبر استخدامها للنفوذ الاقتصادي، ودعمها لمعارضة النظام وإيران في سوريا، مما سبب خسائر مادية كبيرة لهم، بالإضافة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها، بالتنسيق مع حلفاء دوليين كالولايات المتحدة، ومحليين كقوات “قسد”، فتطور الأحداث عسكرياً خاصة في شرق الفرات، ساهمت إلى حد كبير في تحريك الجهود السعودية، باتجاه لعب دور أكثر أهمية، لا سيما خلال هذه الفترة وما سيليها، كما يمكن أن تضطلع بدور هام في مجال إعادة الإعمار مستقبلاً.
وهنا يمكننا إيراد بعض النقاط الأساسية التي يمكن أن تصب في مصلحتها إذا ما تمكنت من ترتيب حساباتها بالشكل الصحيح وهي:
• إيران غير قادرة على تحمل تكاليف إعادة الإعمار وحدها، لذا فالفرصة كبيرة أمام السعودية، بسبب قدراتها المالية الضخمة في تحمل التكاليف، بما يتناسب مع مصالحها واستثماراتها في المنطقة، ويقوي نفوذها على الأرض، اقتصادياً بدعمها المادي، وعسكرياً لحماية مصالحها.
• الاستهداف المتكرر لإيران من قبل اسرائيل والولايات المتحدة، خاصة الضربة الأخيرة لسلاح الجو الأمريكي لمواقع تابعة لإيران في مدينة البوكمال السورية بتاريخ 25 فبراير/شباط 2021، يؤكد على استمرارية معاناة الوجود الإيراني، وتأكيد من الحليف الدولي (الأمريكي) على الاستراتيجية المشتركة؛ لذا، فأي زيادة للدور السعودي مستقبلاً سيشكل حصناً منيعاً أمام تمدد النفوذ الإيراني، خاصة أن غالبية الشعب السوري أصبح ضد التدخل الإيراني لما عاناه من تصرفات ميليشياته على الأرض، مما سيتيح الفرصة للتدخل السعودي وزيادة تواجده داخل الأحداث الجارية للأزمة السورية.
• ستوفر “قسد” فرصة ذهبية للسعودية، كحليف محلي مهم على الأرض، إلى جانب الحليف الدولي (الولايات المتحدة)، الذي يدعم هذه القوات منذ البداية، فبدعم السعودية لهم، واستثمارها في مناطقهم، تكون قد رفعت مستوى دورها في الصراع السوري، بما يفوق مستوى باقي القوى الإقليمية والمحلية، وبالتعاون مع شركاء أقوياء دوليين ومحليين على الأرض.
المصدر: مركز الفرات للدراسات.
مصدر الصور: الحرة – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: صراعات مكتومة.. السعودية وإيران وتركيا وروسيا