محمود أبو حوش*
مقدمة
شهدت الآونة الأخيرة حالة من التوتر لدي الجانب المصري من جهة والجانب التركي من جهة أخرى بعد اعتراض مجموعة السفن التركية لسفينة “سايبم 12000” التابعة لشركة “إيني” الإيطالية المسؤولة عن التنقيبات في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، حيث تبادل الجانبان انتقادات عدة. فقد حذر رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، السلطات القبرصية من التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط مؤكداً، ابان وجوده في العاصمة القبرصية نيقوسيا، ان الخطوات التي تقوم بها قبرص في غير وقتها وخطيرة، ومشدداً أن انقرة ستواصل حماية حقوقها ومصالح قبرص التركية، ثم أكد على الأمر نفسه وزير الخارجية التركي، مولود شاويش اوغلو، في تصريح له.
في هذه الأجواء، وضحت وزارة الخارجية المصرية، على لسان متحدثها السفير أحمد أبو زيد، حيث الموقف المصري الثابت تجاه الأزمة قائلاً “ان الاتفاقية المبرمة بين مصر وقبرص لا يمكن لأي طرف أن يتنازع على قانونيتها، وأنها تتسق مع قواعد القانون الدولي”، فيما جددت البحرية المصرية التأكيد على استمرارية تأمين الأهداف الحيوية في عمق المنطقة الاقتصادية. في هذا الصدد، تساءل البعض حول ما إذا كانت أجواء التوتر والانتقادات المتبادلة بين الطرفين ستدفع إلى الحرب، والدخول في مواجهات عسكرية عنيفة وبالأخص مع وجود مناورات مصرية في البحر المتوسط.
بعد أن قمنا بسرد بسيط لأحداث الآونة الأخيرة والتعرف على مواقف الأطراف، يستدعينا الفضول إلى أن نفهم طبيعة هذا الخلاف وكيفية تبلوره، وبالتالي ستتمحور هذه الدراسة ضمن ثلاث محاور رئيسية نشير في بدايتها إلى تعريف المناطق الاقتصادية الخالصة، وفقاً لأحكام ونصوص اتفاقية الأمم المتحدة للقانون البحار لسنة 1982، وبالتالي سوف نذكر الطريقة التي يتم بها ترسيم هذه المنطقة وبالأخص بالنسبة للدول الساحلية المتقابلة، والحقوق والالتزامات المخولة للدول فيها، وبعد ذلك سوف نذكر المحور الثاني الكيفية التي تم على أساسها ترسيم الحدود بين مصر وقبرص منذ أن أودع كلا الطرفين نقاط الأساس لدى الأمين العام للأمم المتحدة، في تسعينات القرن الماضي، وحتى بدء إجراء المفاوضات الثنائية في العام 2003 وإقرار الاتفاقية في العام 2004.
وفي هذا الإطار، سوف نقوم أيضاً بتوضيح وجهات النظر التركية في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية بين كلٍ من مصر وقبرص واليونان، وسنظهر كيف غيرت تركيا كيان دولة قبرص إلى جزيرة بحرية ليس لها سوى 12 ميل بحري، كذلك ستنتهي هذه الدراسة إلى ذكر الملابسات بين الأطراف، مصر وقبرص من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، وهل هناك من إمكانية لنشوب نزاع بين تلك الأطراف (مصر وتركيا)، وما هي الدولة التي سوف تتفوق على الأخرى؟ أم ان فكرة نشوب حرب غير واردة في تلك الفترة بسبب انهماك مصر بحربها ضد الإرهاب في سيناء عقب اطلاقها لـ “عملية سيناء 2018” وانشغال الطرف التركي في حربة ضد الكرد، بعد إطلاق عملية “غضن الزيتون” في عفرين. كل هذا سوف يتضح حالياً في تلك السطور القادمة.
المناطق الاقتصادية الخالصة في القانون الدولي
ما هي المنطقة الاقتصادية الخالصة؟ وكيف تتم عملية ترسيم الحدود البحرية؟ وما هي الحقوق التي تعطى للدولة فيها والقيود التي تفرض عليها؟
إن مجمل الخلافات، التي تنشب بين الدول البحرية بصفة عامة وبين الدول الساحلية المتقابلة بصفة خاصة، تتمحور حول الكيفية التي تتم بها عملية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تلك الدول. لذلك، لا يمكننا الخوض في تعريف ما هي المنطقة الاقتصادية الخالصة دون التطرق إلى العوامل التي كانت سبباً في ظهورها، وبالتالي العملية التي تلتها بعقد اتفاقية “قانون البحار” لعام 1982 التي سنبني عليها حديثنا.
إن فكرة إقامة منطقة اقتصادية خالصة انبثقت من تقرير إقامة مناطق الأمن عام 1939 والتي على أثرها زادت المنازعات الأوروبية. في ذلك الحين، أعطى الرئيس فراكلن روزفلت أوامره للسفن الحربية الأمريكية بأن تقوم بدوريات حتى مساحة 200 ميل بحري طولي بدءاً من سواحل الولايات المتحدة لمراقبة السفن الحربية، إذ اعتبرت هذه المناطق في ذلك التوقيت بداية “الأمن الأمريكي”. وبعدها اعتمدت دول أمريكا اللاتينية هذا الاجراء، وأصبحت تستثمر بحدود 200 ميل بحري سيما وأن معظم أسراب الأسماك كانت تتجمع عند تيار Humboldt. وخلال الدورة السنوية للجنة القانونية الاستشارية الافرو – آسيوية، التي عقدت في كولومبو، عرضت حكومة كينيا مشروع إقامة منطقة اقتصادية على اللجنة الفرعية الثانية المنبثقة من لجنة الاستخدامات السلمية لقاع البحر والمحيطات بغرض مد حقوق الولاية القومية للدول الساحلية.
ومن ثم، أصبحت البحار والمحيطات، بعد أن كان ينظر إليها على أنها وسيلة السفن التي تدفعها الريح للوصول للأماكن المختلفة بغرض توصيل البشر أو البضائع فقط، مصدراً للثروات الحية وغير الحية، والثروات البدائية مثل الصيد الأسماك وممارسة الأنشطة اليدوية التقليدية والثروات غير البدائية مثل الاكتشافات العلمية الحديثة في النفط والاستغلال من أجل توليد الطاقة المتجددة. بالتالي، أصبح من البديهي أن تسعى تلك الدول، وأقصد بذلك الدول النامية التي كانت تحت قبضة الاستعمار، إلى التطلع نحو إضافة ثروات جديدة إلى ثرواتها بعد أن أنهك المستعمر اقتصاديتها، وهو ما اعتبر السبب الأساس وراء التوصل إلى اتفاق دولي ينظم حقوق الدول في البحار مع ما أظهرته حاجة الدول النامية إلى ما يضمن لها ثرواتها في البحر.
ومن هنا، ظهرت اتفاقية الأمم المتحدة للبحار عام 1982 والتي نصت في مادتها الـ 57 بأن المنطقة الاقتصادية الخالصة هي تلك المنطقة التي تمتد من خطوط اساس الدولة إلى مسافة 200 ميل بحري متضمنتا في ذلك منطقة البحر الإقليمي، 12 ميل التي تلي شواطئ الدولة، وبالتالي يكون مجمل مساحة المنطقة الاقتصادية 188 ميل إذا امتدت من نهاية 12 ميل التابعة للبحر الإقليمي. وقد أصبحت تلك المنطقة ذات أهمية قصوى للعديد من الدول بشكل عام والدول الساحلية بشكل خاص إلا أن هناك عدد قليل من الدول التي لم تصدق على تلك الاتفاقية مثل تركيا والولايات المتحدة، وبالتالي فهي لا تعترف بمسافة 200 ميل بحر للمنطقة الاقتصادية الخالصة. اما بالنسبة للدول التي تطل على مسطحات مائية ذات عرض بحري يفوق 400 ميل بحري، فعندما تقوم بترسيم حدودها مع الدول الأخرى لا تكون هناك أي خلافات فكلا منهما تلتزم بـ 200 ميل بحري التي نصت عليها الاتفاقية. لكن المشكلة تكمن في الدول الساحلية المتقابلة التي تطل على مسطحات بحرية ضيقة، وبالتحديد عندما تكون المسافة بين الدولتين أقل من 400 ميل بحري، حين ذلك تلجأ هذه الدول إلى المادة 74 من ذات الاتفاقية والتي تقول إن الدول المتقابلة والمتلاصقة في السواحل تلجأ إلى المادة 38 من اتفاقية 1969 لقانون المعاهدات للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من أجل التوصل إلى حل منصف بين الأطراف بمعنى أنه سوف يتم ترسيم الحدود بين الدول الساحلية المتقابلة على أساس (خط المنتصف) بينهما، وقد يلجأ الأطراف في ذلك إلى الاستعانة بالخرائط والإحداثيات الجغرافية.
بمجرد أن تتم عملية ترسيم الحدود بين تلك الدول، يأتي دور معرفة الفرق بين الحقوق السيادية وحقوق الولاية الي تمارسها الدولة في هذه المنطقة. فالحقوق السيادية هي كما نصت عليها اتفاقية القانون الدولي للبحار، في مادتها الـ 56، باستغلال المنطقة الاقتصادية واستكشاف كل ما فيها من ثروات في باطن الأرض أو قاع البحر وإنشاء المحطات التي تستخدم في توليد الطاقة المتجددة وقد منحت الاتفاقية حق الدول في استكشاف واستغلال الثروات الحية وغير الحية بأنواعها المختلفة النباتية والحيوانية، إضافة إلى حق الدولة في أن تقيم مشروعاتها القومية من المنشآت والجزر الصناعية والتركيبات. أما فيما يخص حقوق الولاية حيث تنص الاتفاقية، في ذات المادة 56، إن الدولة لها الحق في إقامة هذه الأنشطة عليها سواء كان ذلك بنفسها أو خولت غيرها القيام بذلك بعد ترخيص له من جانبها. بالتالي، إن حقوق السيادة هي التي تخص الدولة وحدها دون سواها أما حقوق الولاية فهي خاصة بالأشراف والرقابة والتنظيم. وفي هذا السياق، جاءت المادة 56 من اتفاقية البحار لتنص على أن الدولة صاحبة الولاية يخول لها إقامة الجزر الصناعية والمنشآت والتركيبات وممارسة أنشطة البحث العملي والمحافظة على البيئة البحرية وحمايتها من التلوث، إلا أن هناك قيوداً لا بد للدولة الالتزام بها وفي مقدمتها مراعاة حرية وسلامة الملاحة الدولية وإلا يقع عليها عبء إزالتها فوراً. كما يجب على السفن الأجنبية المارة في المنطقة الاقتصادية الخالصة أن تحترم مناطق السلامة التي تلتزم الدول الساحلية بتحييدها، وهي بمسافة 500 متر مقاسة من كل نقطة من نقاط الطرف الخارجي. من هنا، يجب أن نحدد بشكل دقيق ما هي واجبات والتزامات الدول في المنطقة الاقتصادية الخالصة وفقا للاتفاقية، ويقع أبرزها في:
أولاً: الحفاظ على الثروات الطبيعية وإدارتها، حيث نصت المادة 60 في فقرتها الثانية أن على الدول الساحلية أن تستخدم أفضل الوسائل والتدابير للحفاظ على الموارد الطبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة وخطر استغلالها المفرط، كما يجب عليها تحديد كمية الصيد المسموح بها وتحدد في ذلك قدرتها على الصيد وتلتزم بإتاحة الفرصة للدول الأخرى لاستغلال الفائض الذي لا تمتلك القدرة على استغلاله لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة.
ثانياً: فيما يخص أنشطة البحث العلمي، وفي الفقرة الأولى من المادة 123، على أن الدول النامية منح الإذن بأنشطة البحث العلمي والاطلاع على نتائجه. ثم عادت الاتفاقية ونصت، في مادتها 246، على أن ليس الدولة الحق المطلق في الولاية على أنشطة البحث العلمي، إذ ذكرت في فقرتها الثالثة على أن الدولة لا ينبغي أن تؤخر الإجراءات ويجب عليها عدم رفضها.
ثالثاً: حرية الملاحة البحرية، حيث جاءت الفقرة الثالثة من المادة 60 من الاتفاقية لتشير بأن على الدولة تقديم إشعار بأنها سوف تقوم بإنشاء بعض المشروعات القومية، ويجب عليها أن تلتزم بضمان عدم إعاقة الملاحة الدولية وتكفل حرية مرور السفن الأجنبية في المسافة الآمنة التي حددتها.
ترسيم الحدود بين الدول الثلاث
هنا سنتطرق إلى عملية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية بين مصر وقبرص وما هي وجهة النظر التركية في ترسيم الحدود مع كل من قبرص واليونان ومصر.
بعد أن خضنا في تفاصيل ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول الساحلية المتقابلة وذكرنا حقوق والتزامات الدول في تلك المنطقة وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، سوف نخوض في معرفة الكيفية التي تم على أساسها ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وبعدها سنذكر مقترحات الجانب التركي في ترسيم الحدود البحرية.
إن مصر دولة لها سيادتها على حدودها البحرية المعترف بها دولياً منذ أن صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، حيث قامت بعدها بإيداع 53 نقطة أساس لدى الأمين العام للأمم المتحدة العام 1991، ثم تلتها قبرص بإيداع 57 في العام 1996. على هذا الأساس، شرعت مصر في ترسيم حدودها البحرية ضمن البحر المتوسط مع الجهات الأخرى للبحر، أي قبرص وتركيا واليونان، وبالتالي قامت مصر بمفاوضات مع تلك الدول الغاية منها ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية حيث عقدت اتفاقية مع الجانب القبرصي، في العام 2003 بعد انتهاء المفاوضات معه، في حين لم تنتهِ مع الجانب الآخر، تركيا واليونان. بعد إيداع كل من مصر وقبرص نقاط الأساس، لم يعترض أي من الدولتين الأعضاء في المنظمة الدولية، وقد بنيا على ذلك تحديد نقاط حدودية تبدأ من النقطة 1 غرباً، بداية الحدود مع تركيا، إلى النقطة 8 شرقاً، مع حدود غزة وإسرائيل.
وبناءً على ما سبق، تم ترسيم عرض المسافة بين الدولتين، وفقاً للمادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة، على أن يكون الترسيم وفقاً لخط المنتصف على امتداد متساوي الأبعاد من أقرب نقطة على خط الأساس لكلا الطرفين، وأن يظهر خط المنتصف على حدود الخريطة البحرية الدولية الصادرة من الأدميرالية البريطانية رقم 183 من رأس التين غرباً إلى الاسكندرونة شرقاً بمقياس رسم /100000. وقد استبعد الطرفين ترسيم الحدود على طريقة الجرف القاري ذلك لأن عرض المسافة بين قبرص ومصر لا يتجاوز 207 ميل. طبقت تلك الاتفاقية بكافة أحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، حيث نصت على تعاون الطرفين معاً في حالة وجود ثروات طبيعية ممتدة في المنطقة الاقتصادية الخاصة بكلٍ منهما من أجل التوصل إلى الاستغلال الأمثل للموارد، وأنه في حالة دخول أحد الأطراف في ترسيم الحدود مع الدول الأخرى يجب عليه إخبار الطرف الآخر بذلك. وفي حالة حدوث خلاف أو نزاع بين الطرفين، يتم الرجوع إلى القنوات الدبلوماسية السلمية أو الرجوع للتحكيم الدولي.
إذاً، ما هي وجهة النظر التركية في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع كل من الدول المقابلة لها؟
الجدير بالذكر هنا أننا عندما نتحدث عن الحدود البحرية، نرى أن تركيا ليست عضواً في اتفاقية 1982 كغيرها من الدول القليلة التي لم تصدق عليها. فلقد عقدت تركيا اتفاقية مع الجمهورية القبرصية الشمالية التركية (kktc) عام 2012 تم خلالها ترسيم الحدود على طريقة الجرف القاري آخذة في ذلك أن قبرص الجنوبية اليونانية (Gkry) ما هي إلا جزيرة لها 12 ميل في البحر الإقليمي ليس إلا في مواجهة الساحل الغربي، وبذلك تكون من بداية نقطة نقاطع الحدود التركية القبرصية الشمالية مع طول خط 16.3، 32 شرقاً وبالتالي تصبح الحدود التركية البحرية مع مصر متضمنة 14 نقطة وليس 8 كما نصت الاتفاقية بين مصر وقبرص والتي تبدأ من النقطة 1 غرباً إلى النقطة 14 شرقاً مع الحدود المصرية التركية، وبالتالي تكون مقابلة لنقاط الأساس التركية 2 شرقاً إلى 35 غرباً على طول السواحل التركية، والنقطة 41 شرقاً إلى النقطة 10 غرباً على طول السواحل المصرية.
أما فيما يخص المقترح التركي لترسيم الحدود اليونانية، ترى تركيا أن اليونان ليست دولة “أرخبيلية”، وأقصد بالدولة الأرخبيلية الدولة التي تتكون من مجموعة جزر كما نصت عليها الاتفاقية، وبالتالي فإن الجزر اليونانية في البحر المتوسط ليس لها سوى 12 ميل بحري كمثيل الحالة القبرصية ومن ثمة فقد أعطت تركيا جزيرتي “كارباتوس” و”ورودس” اليونانيتين 12 ميل بحري في مياههم الإقليمية.
الملابسات بين الأطراف وإمكانية نشوب حرب على حقول الغاز
لا داعي لذكر ما مدى أهمية المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل الدول بصفة عامة ولكل الدول المذكورة سابقاً بشكل خاص، مصر وتركيا وقبرص واليونان، فكل منهم يسعى إلى استغلال واكتشاف كل ما فيها من ثروات حية أو غير حية. ولكن في السنوات القليلة الماضية، تمكنت أنشطة البحث العلمي من اكتشاف حقول الغاز في كل من المناطق الاقتصادية الخاصة لتلك الدول؛ فمصر قد حالفها الحظ وحظيت بحقل “ضهر” الذي يحتوي على أكبر احتياطي في المنطقة، بنحو 30 تريليون قدم مكعب في منطقتها الاقتصادية، وأيضاً حظيت قبرص، بعد ترسيمها للحدود مع مصر، بحقل “اوفروديت”، الذي يبلغ الاحتياط فيه نحو 4.5 تريليون قدم مكعب، مع العلم أن إسرائيل عند ترسيم حدودها البحرية أصبح لديها حقل “تامار” باحتياطي يصل الى 10.8 تريليون قدم مكعب إضافة إلى حقل “ليفاياثان” باحتياطي يصل إلى نحو 21.9 تريليون قدم مكعب.
كل هذه الحقول والثروات الضخمة التي تعبر عن تغير موازين القوى الاقتصادية في المنطقة والتي جعلت تركيا تدعي بأن فبرص ما هي إلا جزيرة وليس لها سوى 12 ميل بحري يعتبر ضرباً بعرض الحائط لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، أو لأنها عضو في الاتحاد الأوروبي الذي ضاقت محاولتها في الانضمام إليه. إن ما حدث في الأيام الأخيرة، خصوصاً عندما اعترضت السفن التركية لسفينة شركة “إيني” بعد اكتمال عملية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص في العام 2013 وبعد موقف صريح بعدم احترامها للاتفاقية المبرمة بين الطرفين، تدعي تركيا أن المنطقة الاقتصادية القبرصية هي جزء من منطقتها الاقتصادية، كما أوضحنا سابقاً، وفي تلك الحالة سوف تعتبر مصر أن أي تعدي على أحكام ونصوص الاتفاقية سيعد تدخلاً صارخاً في سيادتها على منطقتها الاقتصادية، وهو ما يدفعها إلى دق طبول الحرب بوجه تركيا ما قد يشعل الحرب لا سيما مع وجود الكثير من الخلافات السياسية التي قد تكون هي العامل المحفز لذلك.
من هنا، هناك تساؤل فحواه: هل هناك إمكانية لنشوب حرب بين تلك الأطراف نتيجة لتباين الخلافات بعد ظهور حقول الغاز؟ أم أنها مجرد تهديدات بين الأطراف ليس إلا؟ إن الإجابة على هذا التساؤل، من وجهة نظري المتواضعة، ستكون “لا” للأسباب الآتية:
- المسافة الفاصلة بين القواعد العسكرية ومناطق النزاع للأطراف. إذا افترضنا أن النزاع سوف يكون على مناطق الغاز في البحر المتوسط التابعة للسيادة المصرية أو القبرصية، فإن تركيا لن تستطيع أن تستخدم قواعدها البحرية المطلة على البحر المتوسط سواء أكانت قاعدة الاسكندرونة أو اكسار؛ فالأولى، تبعد عن المناطق التي قد ينشب فيها النزاع مسافة 530 كيلو متراً، أما الثانية فتبعد مسافة 560 كيلو متراً وبالتالي يستحيل أن تلجأ إلى قاعدة “الفوجا” المطلة على شرق بحر إيجة والتي تبعد 800 كيلو متراً عن هذه المنطقة. ومع انتشار الأسطول اليوناني، يصعب على تركيا تحريك قوتها البحرية بسهولة، وبالتالي يصبح الخط الدفاعي أو الهجومي الأول لتركيا صعب الاستخدام نتيجة بعد المسافة، وبالتالي ستقوم باستبداله بخط الدفاع أو الهجوم الجوي، في حالة مبادرة مصر بالهجوم، وسوف يكون هناك صعوبة كبيرة في ذلك خصوصاً إذا ما رأينا بأن المسافة مع أقرب قاعدة جوية عن مناطق النزاع، سواء أكانت قاعدة “إنجرليك” أو “قونية”، تفوق الـ 500 كيلو متراً. وبالمثل، في قاعدة “أزمير” التي تفوقهم بمسافة 750 كيلومتراً، وبالتالي سوف يكون الطرف الآخر، أي مصر وقبرص، في حالة تفوق مطلقة وليست نسبية وذلك لقربهم الشديد من هذه المناطق، حقول الغاز، حيث تبعد مصر نحو 200 كيلو متراً وقبرص بمسافة اقل من ذلك.
- القدرات العسكرية لكلا الطرفين. إن القدرات العسكرية للجيش المصري هي ذات كفاءة وتدريب عاليين، وظهر ذلك جلياً في العملية الشاملة، “سيناء 2018″، بالإضافة إلى أن هناك بعض التقارير ترى بأن الجيش المصري أقوى جيش في المنطقة. في المقابل، لا يمكننا غض النظر عن قدرات الجيش التركي، فتركيا دولة عضو في حلف شمالي الأطلسي “الناتو” ولديها جيش قوي، بالإضافة إلى أنها قد تصبح خلال السنوات القلية القادمة دولة مصدرة للسلاح حيث زادت قوتها خصوصاً بعد عقد صفقة صواريخ “S400” مع روسيا. ولكن إذا أردنا معرفة الكفة الراجحة في هذا النزاع، فبلا شك ستكون من نصيب مصر وقبرص لا سيما وأن الجيش التركي قد تأثر بشكل كبير بعد انهماكه في عملية عفرين ضد كرد سوريا، وتحديداً “وحدات حماية الشعب الكردي”.
خلاصة
إن فكرة نشوب حرب في هذا التوقيت غير واردة، وإن كان ومهيئ لها من الجانب المصري، لكونها غير مرحب بها على الجانب التركي. فهي مجرد تهديدات ليس إلا، فأنقرة لن تستطيع أن تغامر مرة أخرى بحرب لا تعرف نهايتها كما هو الحال في حربها ضد الكرد، إذ نعرف جيداً أن الأتراك “برغاماتيون” ولذلك فإنهم لن يخضوا مواجهة غير مضمونة النتائج مسبقاً.
*كاتب سياسي
مصدر الصور: ساسة بوست – الشرق الأوسط – العربي الجديد.
المراجع
- حمد نبيل حسن العسال، ترسيم الحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين مصر واليونان وتركيا في ضوء احكام اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2013.
- محمد شوقي عبدالعال، ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية بين مصر وقبرص واثرها على ثروة مصر في المنطقة، مجلة افاق سياسية، 2014.
- راجع نصوص اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار (unclos، 1982).
- جمال جوهر، النزاع المصري على صفحة المياه في المتوسط، الشرق الاوسط، السبت 16/2/2018، العدد 14324.