اندلعت الاضطرابات في دولة جنوب إفريقيا على خلفية سجن الرئيس السابق، جاكوب زوما، بتهمة ازدراء المحكمة، لكنها اتسعت لتتحول إلى احتجاجات على اتساع الفقر وعدم المساواة.
وأدت الاضطرابات إلى تعطيل بعض المستشفيات التي تكافح لمواجهة الموجة الثالثة من وباء “كورونا”، وبعضها نفد منه الأوكسجين والأدوية بسبب تعطل حركة النقل بين المناطق، مما عطل نقل المعدات والأجهزة والحاجيات إلى هذه المستشفيات، كما اضطر عشرات مراكز التسوق في جميع أنحاء البلاد إلى الإغلاق بسبب أعمال العنف والسرقة، إلى جانب أن آلاف الشركات للنهب أو أجبرت على إغلاق أبوابها.
انهيار ممنهج
من الصعب التكهن بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه الأوضاع الحالية في جنوب إفريقيا؛ لكن المؤكد أن المآلات ستكون خطيرة وذلك بالنظر إلى أن البُعد القبلي كان الغالب عند اندلاع أعمال العنف الحالية، والتي ألقت بظلال قاتمة على الأوضاع السياسية في البلاد.
ويعتقد نعيم جينا، مدير مركز الدراسات الشرق أوسطية الإفريقية، أن ما يحدث هو “عملية مدبّرة ومدروسة لزعزعة الاستقرار وشل اقتصاد البلاد من أجل إسقاط الحكومة الحالية”، وصحيح أن الاحتجاجات اندلعت بسبب سجن الرئيس السابق “لكن تم استغلالها بشكل انتهازي من قبل المجرمين والأشخاص اليائسين”.
انطلقت الأحداث من مدينة ديربان، معقل قبيلة الزولو التي ينتمي إليها زوما وتشكّل نحو 30% من التركيبة السكانية في البلاد. وعلى الرغم من نشر نحو 25 ألف جندي في عدة مدن من بينها ديربان وجوهانسبورغ، فإن حصيلة القتلى ارتفعت بشكل كبير بسبب استمرار موجات العنف وعدم قدرة المستشفيات على التعامل مع المصابين في ظل المعاناة الكبيرة التي يشهدها القطاع الصحي، إضافة إلى اتخاذ أعمال العنف الحالية بُعداً قبلياً وعرقياً خطيراً.
البُعد العرقي
يزيد البُعد العرقي من مخاطر الأحداث الحالية، وقد يطيل من أمدها إلى مدة يمكن أن تصل إلى 3 أسابيع قبل السيطرة عليها، إذ تدور مخاوف جديّة من أن تؤدي موجة العنف الحالية إلى المزيد من التشظي في النسيج المجتمعي الهش للبلاد، حيث تتزايد حدة الاحتقان أكثر في ظل شعور بعض المناطق والولايات – مثل كوازولو والكاب الشمالية التي انطلقت منها أعمال العنف – بالتهميش.
للعلم، تنقسم البلاد إلى مجتمعين شبه منفصلين؛ الأول يُحاكي الغرب، والثاني يعد تسجيداً حقيقياً للدولة الفقيرة، ويظهر في الأحياء الشعبية التي تنقصها الخدمات العامة مما يزيد من الاحتقان المؤجج للصراع
خسائر ضخمة
بحسب الإحصائيات الأولية – وفي وقت لا تزال فيه أعمال العنف مستمرة – بلغت الخسائر المباشرة التي طالت الأسواق والمؤسسات الإنتاجية والخدمية نتيجة أعمال النهب وتوقف الإنتاج أكثر من 15 مليار دولار. ونظراً لأهمية مدينة ديربان، مركز موجة العنف الحالية وكميناء رئيسي للبلاد، تتزايد الآثار الاقتصادية التي برزت ملامحها في تخلص الأجانب من معظم الأسهم التي يمتلكونها.
أيضاً، أثرت الأحداث على حوالي 40 ألف شركة إضافة إلى أكثر من 50 ألف متجر حيث سادت أعمال العنف والنهب حيث ساعد على ذلك وجود عوامل كثيرة، مثل معدلات الفقر العالية وارتفاع نسب البطالة إلى نحو 40%، بحسب مصادر مستقلة، كما أدت الاضطرابات أيضاً إلى تعليق عمل النقل العام، مما حدّ من قدرة العمال على الوصول إلى أماكن عملهم، وتشير بيانات إلى أن عمليات النهب دفعت إلى حالة من الركود الاقتصادي في نحو 60% من مناطق البلاد، ومع اشتداد موجة العنف وتعرض مئات الشركات للنهب والسلب والتحطيم، أغلقت العديد من الأسواق والمحال التجارية الكبرى أبوابها، واضطر أصحابها لدفع مبالغ طائلة لشركات الأمن من أجل حمايتها.
وكان الرئيس سيريل رامافوزا قد حذّر – في لقاء مع قادة الأحزاب السياسية – من أن المواد الأساسية قد تنفد قريباً من بعض أجزاء البلاد، بعد تعطل سلاسل التوريد.
الجيش في الميدان
استدعت جنوب إفريقيا احتياطي قوات الجيش لمساعدة الشرطة في السيطرة على الاضطرابات التي خلفت أكثر من 100 قتيل، وقالت السلطات إنها بدأت في نشر أكثر من 20 ألف جندي لمساعدة الشرطة في السيطرة على الاضطرابات المستمرة، حيث ارتفع عدد القتلى إلى 117 شخصاً في أعمال الشغب والنهب التي أعقبت سجن زوما.
وتُعتبر هذه العملية واحدة من أكبر عمليات انتشار الجيش في البلاد منذ نهاية حكم الأقلية البيضاء العام 1994، حيث ذكرت الحكومة أن 10 آلاف جندي نزلوا إلى الشوارع، كما استدعت قوات الدفاع الوطني كل قواتها الاحتياطية المكونة من 12 ألف جندي، وفي تأهب عسكري واضح، نقلت قافلة مؤلفة من أكثر من 12 ناقلة جند مدرعة جنوداً، إلى مقاطعة خاوتنغ التي تعتبر أكثر مناطق البلاد اكتظاظاً بالسكان، وتضم مدينة جوهانسبرغ والعاصمة بريتوريا.
أيضاً، تم استخدام الحافلات والشاحنات والمروحيات لنقل الأعداد الكبيرة من القوات إلى مناطق الاضطرابات في مقاطعة خاوتنغ وكوازولو ناتال (ديربان) والتي شهدت بدورها أسبوعاً من العنف في المناطق الفقيرة بشكل رئيسي.
العين على الثروات
في تقرير صدر العام 2020 وبتكليف من بنك سيتي غروب – Citigroup الأمريكي، تم تصنيف جنوب إفريقيا كأغنى دولة في العالم من حيث احتياطياتها المعدنية، والتي تقدر قيمتها بنحو 2.5 تريليون دولار أمريكي. كما تعد البلاد أكبر منتج في العالم للبلاتين والكروم والفاناديوم والمنغنيز، وهي ثالث أكبر منجم للذهب، وتقدم خدمات احترافية متطورة للغاية متعلقة بالتعدين، هذه الثروات التي تفتح شهية الطامعين بهذه البلد، توحي بأن هناك ما يُحاك ضدها، وأن هذه الاحتجاجات لم تأتِ من فراغ، رغم أن الرئيس المعتقل يمتلك قاعدة شعبية كبيرة جلها من الفقراء، قد استغلها البعض لإسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة موالية للغرب وتكون تبعيتها بشكل كامل له.
إلى جانب ذلك، لا يمكن التغافل عن أن جنوب إفريقيا هي عضو في تكتل “البريكس”، حيث يرى العديد من المراقبين بأن ما يحصل من أحداث قد يكون سببه محاولة “جر” البلاد من هذه المنظومة لا سيما بعد استطاعت واشنطن – نوعاً ما – سحب البرازيل منها مع وصول جايير بولسونارو إلى سدة الحكم، بالإضافة إلى السعي الدؤوب لإقامة “ناتو آسيوي” يضم الهند – العضو في “البريكس” أيضاً – لمواجهة الصعود الصيني، ما يعني إفراغ ذاك التكتل من مضمونه كونه يشكل الخطر الأساس على منطومة الدولار مستقبلاً حيث يضم التكتل أكبر الشركاء التجاريين لإفريقيا وأكبر المستثمرين الجدد.
أيضاً، لا يمكن إغفال الموقع الاستراتيجي الذي تتميز به جنوب إفريقيا خصوصاً بعد كارثة “إيفر غيفن” والتفكير في طرق جديدة للملاحة في حال تعطّل قناة السويس، حيث تقع على خط الفصل بين المحيطين الهندي والهادئ، مما يجعلها محطة إلزامية للسفن العابرة.
أخيراً وبناء على كل ما سبق، يحتمل القول إن تلك الأحداث تخفي وراءها اهدافاً سياسية دولية، خصوصاً وأن تكتل “البريكس” – الذي تأسس العام 2009 كمنتدى للدول الخمس الناشئة التي تمثل أكثر من ربع سكان الارض – يحاول بطريقة أو بأخرى التصدي لقواعد اللعبة الاقتصادية التي سطّرها الغرب، يقابل ذلك ازدياد المخططات الغربية لإنهاء هذا التكتل بأي ثمن. كل تلك التوقعات تبقى رهينة الأحداث المستقبلية وتطوراتها.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: الصحيفة – نبض.
موضوع ذا صلة: “بريكس – إفريقيا”: نحو تعددية قطبية “تجارية”.. على قاعدة “الدولار”؟!