تؤثّر الطائفية في لبنان على كل جوانب الحياة، بدءاً من الزواج والميراث، مروراً بالتمثيل السياسي والتوظيف، وصولاً إلى ملكية الأراضي والتعيينات القضائية وغيرها. وقد ضمن النظام الديمقراطي التوافقي – الصيغة المعتمدة ما بعد إقرار اتفاق الطائف – التمثيل لكل طائفة من طوائف البلاد في الحكومة وسائر مؤسسات الدولة. نظرياً، تتمثّل حسنات “الديمقراطية التوافقية” في أنها تسمح بتشارك السلطة على نحو عادل بين أطراف متعدّدة، لكنها عملياً تقوّض عملية الحوكمة، وتسد الأفق أمام أي حلم بالتغيير، فهذا التنافس ما بين الطوائف والمذاهب يكرّس تفشّي الممارسات الزبائنية، سعياً من أصحاب السلطة الى تجنّب صعود منافسين جدد إلى المشهد السياسي، ويعيق إمكانية ظهور أحزاب سياسية متعدّدة الطوائف من شأنها كسر هذه الحلقة المفرغة.
وتتجلّى الحلقة المفرغة القائمة على الشكل التالي: تشلّ الديمقراطية التوافقية عملية بناء الدولة وتحول دون تبنّي سياسات تحقّق المصلحة العامّة، الأمر الذي يزيد بدوره اعتماد المواطنين على زعماء الطوائف. وهكذا، يواصل الشعب دعم المسؤولين الطائفيين، فيحافظ هؤلاء على امتيازاتهم الاقتصادية ويحكمون قبضتهم على السلطة.
يقول الدكتور جورج قرم أن “الأزمة الديمقراطية في لبنان هي نتاج عوامل عدة منها إيديولوجية وفكرية ومنها ما يتعلق بمبدأ توزيع المناصب في الدولة. وإذا كنا نميل إلى نسيان ظروف نشأة النظام اللبناني الذي بدأ مع القائم مقاميتن ثم المتصرفية، فلا بد من التذكير بأن بلدنا نشأ في خضم النزاع البريطاني والفرنسي على تقاسم النفوذ في المنطقة وهذا الصراع هو الذي أرسى النظام الطائفي في لبنان لمصالح هاتين الدولتين؛ تمثلت تلك المصالح بقرار المندوب السامي الفرنسي العام 1936، الذي شكّل الكيانات الطائفية وجعلها كجسم وسيط بين المواطنن والدولة، وبعد الميثاق الوطني، جاءت تعديلات الطائف مع جانبها الإيجابي الذي وضع آلية للخروج من الطائفية السياسية إلا أن ذلك لم يطبق. وأتحفنا بعد الطائف بنظام المحاصصة وفق الديمقراطية التوافقية التي ألغت كل معاير الأنظمة الديمقراطية.”
لقد أفرز النموذج اللبناني من الديمقراطية التوافقية نظام “الكارتيل الحزبي”. وهو عبارة عن تكتّل من نخبٍ متجابهة إيديولوجياً إنما مضطرة لتقاسم السلطة مع بعضها البعض، عبر تشكيل حكومات “الوحدة الوطنية” التي اعتمدت منذ نهاية الحرب الأهلية، وخصوصاً خلال الأعوام التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، العام 2005، وتوقيع اتفاق الدوحة، العام 2008. ونظراً إلى أن تلك الحكومات تضم جهات متنازعة وتمثّل أحزاباً سياسية ذات مصالح متضاربة، فهي لا تطبِّق، لا بل، بحسب البعض، تعجز عن تطبيق سياسات عامة متّسقة تصبّ في خير الجميع.
الطائفية في الإقتصاد
منح هذا النظام التوافقي النُخب الحاكمة، أي المسؤولين السياسيين الطائفيين، في غياب أو تغييب الحوكمة العادلة، وسائل شتى لتكديس الثروات على حساب السواد الأعظم من السكان. فعلى الرغم من الخلافات الإيديولوجية بين النخب الحاكمة، غالباً ما تتواطأ تلك القوى على ترسيخ مبدأ المحاصصة في سبيل حماية امتيازاتها الاقتصادية، ويقدّم المسؤولون السياسيون مجموعة من الخدمات للحصول على دعم المواطنين العاديين، أبرزها تأمين الوظائف وخفض الأقساط المدرسية وتوفير الرعاية الصحية إلى أبناء طوائفهم. ويعمد ملوك الطوائف هؤلاء، للحفاظ على شبكات المحسوبية التابعة لهم، إلى تأجيج التظلّمات الدينية والسياسية ومنع الدولة من تحمّل مسؤولية توفير مثل تلك الخدمات بنفسها.
في تقرير مركز الشرق الأوسط لمؤسسة كارنيغي للأبحاث بعنوان “الاقتصاد السياسي اللبناني: من اقتصاد مفترس إلى اقتصاد يلتهم نفسه”، كتبت ليديا أسود تقول “بسبب غياب القيود السياسية المفروضة على زعماء الطوائف، تمكّن هؤلاء من صياغة نموذج اقتصادي يعزّز امتيازاتهم الاقتصادية، بغضّ النظر عن الشبكات الطائفية والزبائنية، من خلال إقامة علاقات وطيدة مع كبار رجال الأعمال والمصرفيين. ففي لبنان، ثمة ارتباط وثيق بين نخب رجال الأعمال ونخب السياسيين، ربما لا نظير له في أي بلد آخر. على سبيل المثال، إن أبرز المساهمين في ما لا يقل عن 18 مصرفاً من أصل المصارف الـ 20 الرئيسة في لبنان، عبارة عن شخصيات مرتبطة بالطبقة السياسية أو مقرّبة منها، فيما يسيطر أفراد مقرّبون للغاية من الطبقة الحاكمة على 43% من أصول المصارف التجارية”. وتضيف “يرتدي هذا الأمر أهمية بالغة لأن القطاعات الاقتصادية التي هيمنت عليها تاريخياً مؤسسات ذات ارتباطات سياسية، لطالما كانت أقل تنافسية. وتقدّم نخب رجال الأعمال بانتظام رشاوى وعمولات إلى الطبقة السياسية، مقابل الحصول على إعفاءات ضريبية، واتّباع سياسات التغاضي المطلق، والحد الأدنى من تدخّل الدولة”.
بين النظام الطائفي والإدارة العامة
إن عدم قيام الدولة المدنية اتي نشدها واضعو أسس الدستور اللبناني، وترسيخ الممارسة المحصاصية في كافة مجالات ممارسة السلطة يقودنا الى البحث في إشكالية العلاقة بين النظام الطائفي والإدارة العامة في ظلّ ما اصطلح على تسميته “التمييز الطائفي الوظيفي” في الوظيفة العامة وقياس مدى ملاءمة هذه الممارسة مع عملية بناء دولة القانون.
الوزير د. خالد قباني – والذي خبر الإدارة اللبنانية من خلال ترؤسه لأعوام مجلس الخدمة المدنية – يثمّن عالياً مندرجات الدستور اللبناني الذي “يشكّل شرعة الحياة الاجتماعية والسياسة المشتركة في لبنان والتعبير الحي عن الواقع المعاش ويعكس تركيبة لبنان الاجتماعية التي تقوم عى التعدّدية الطائفية ويمنح مختلف الطوائف وجوداً دستورياً وسياسياً.”
ويشدد د. قباني على أن جميع المواثيق التي قام عليها لبنان في تاريخه الحديث من دستور، العام 1926، إلى الميثاق الوطني، العام 1943، إلى دستور الطائف، العام 1990، اعتمدت الطائفية السياسة كنظام مشاركة في الحكم والإدارة على أنها أمر موقت، وأوصت بضرورة إلغائها حفاظاً عى المصلحة الوطنية العليا، معتبراً أن روحية اعتماد الصيغة الطائفية في جميع هذه المواثيق كانت بهدف ضمان المساواة بين الطوائف والحؤول دون أن يستأثر فريق بالحكم على حساب فريق آخر.
فالتوظيف السياسي للطائفية ووضع أهل السياسة يدهم على الإدارة العامة واستخدامها في النزاعات السياسية، أضعفها وأفقدها حيادها ودورها في خدمة المواطنين وفقاً للقوانين المرعية ودون أي تمييز بينهم. وتحولت الإدارة العامة إلى ملك للطوائف، وذلك تحت شعار حقوق الطوائف، ما عطّل المساءلة والمحاسبة وحكم القانون، فالمسؤولون باتوا يعتبرون أنفسهم حماة لطوائفهم فلا يتجرأ أحد على محاسبتهم إذ أن ذلك يعني محاسبة الطائفة برمتها، وأدى ذلك أيضاً إلى تعطيل دور مؤسسات الرقابة وقطع الطريق على إمكانية تحول لبنان إلى دولة قانون ومؤسسات.
ويرى د. قباني أنه “من جهة أخرى، أدى النظام الطائفي إلى استشراء الفساد في جسم الادارة حتى بات ظاهرة مسلماً بها بحيث لا يتجرأ أحد على مواجهتها ولا يوجد إرادة جامعة لكبحها، وأصبحت جزءاً من الثقافة المجتمعية تغذيها شبكة من المستفيدين، ومدعاة للتفاخر بين الناس لما تؤمنه لهم من مال وسلطة ونفوذ وحماية، والأسوء من ذلك الترقي في السلم الاجتماعي. ظاهرة الفساد هذه تقف عثرة في وجه بناء دولة القانون في لبنان.”
تعاني الإدارة العامة، وفق د. قباني، من مشاكل أخرى غير النظام الطائفي وتأثيره، يمكن اختصارها بنقاط ثلاثة، وهي: آلية التشريع وعدم وضوح النصوص المتعلقة بالإدارة العامة، ضعف الموارد البشرية وعدم كفاءتها وغياب أي آلية جدية للتحفيز والمحاسبة، وسوء بيئة العمل في الادارة. وخلص إلى ضرورة تغيير الذهنية لدى المسؤولين الذين حولوا الإدارة العامة إلى إقطاعات، وضرورة وجود إرادة سياسية للإصلاح الإداري يبدأ بإلغاء الطائفية السياسية.
إشكالية النظام الطائفي والعمل التشريعي
يتطرق النائب السابق صلاح حنين إلى تضاد ما بين مواد تضمنها الدستور فيما يوظف في سلطة دينية فوق سلطة القانون، فيقول: مما لا شكّ فيه أن المعتقدات الدينية والتقاليد الدينية جديرة بالاحترام التام، إنما المادة 19 من الدستور أعطت زعماء الطوائف حقّ مراجعة المجلس الدستوري في كلّ ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، وكشف عن مطالبته بإلغاء هذه المادة لا سيّما أن الدستور اللبناني يضمن كل الحريات التي تنصّ عليها هذه المادة، معتبراً أن الحريات العامة شأن وطني وليست شأناً طائفياً. ويخلص الى أن أي اقتراح لإلغاء الطائفية السياسية سوف يواجه باعتراض زعماء الطوائف أمام المجلس الدستوري، واستغرب أن يكون المشرّع مهّد الطريق أمام إلغاء الطائفية السياسية، من جهة، ووضع، من جهة أخرى، عائقاً أمام ذلك في المادة 19 من الدستور.
وعن دور التوظيفات الطائفية والسياسية في عملية التشريع، تبرز ظاهرة جديدة في الحياة السياسية وهي ظاهرة وضع الميثاق الوطني بمواجهة الدستور للتشكيك في شرعية القوانين. واعتبر حنين هذا الأمر من باب “الهرطقة” لا سيّما وأن دستور العام 1990 ضمّ كل ما اتفق عليه اللبنانيون عبر تاريخهم الحديث وجمع بين دستور العام 1926 والميثاق الوطني ووثيقة اتفاق الطائف وبات الثلاثة جزءاً لا يتجزأ من الدستور. وقال “فلا يتحججن أحد بالقول إنه لا يطبق الدستور، لأن تطبيق الدستور يناقض الميثاق. بل العكس صحيح، فتطبيق الدستور هو احترام للميثاق”.
من ضمن هذا المفهوم، يعالج حنين مسألة في غاية الأهمية كانت وما زالت وسيلة لعرقلة قيام دولة القانون ومنسوبة إلى مندرجات الدستور، فالميثاق لم يذكر أي شيء يتعلق بمشاركة الطوائف في المؤسسات الدستورية كشرط لشرعية هذه المؤسسات؛ وإذا رفض فريق ما حضور مجلس الوزراء أو مجلس النواب فلا يحقّ له التسلح بالميثاق للطعن بشرعية أحد هذين المجلسين. صحة انعقاد الجلسات هي في قاعدة النصاب التي نصّ عليها الدستور وليس في حضور الطوائف، والعلّة ليست في نظامنا البرلماني الديمقراطي الذي يقوم عى التوازن الطائفي واحترام التعدّدية والكفاءة، إنما في القييمن عليه الذين يسيؤن تطبيقه ويمعنون في تشويهه وجعلوا منه نظام محاصصة.
في الخلاصة
منذ أن ساد الجهل والتخلف في المجتمعات العربية تواطأت ثلاث هيئات هي: السلطة الحاكمة مع بطانتها من أمراء ووزراء وولاة، وبعض المرجعيات الدينية واتباعها من مفتين وقضاة وائمة، واصحاب الرساميل من تجار وصناعيين وسماسرة، على ان يشدوا أزْر بعضهم بعضاً ويوالوا بعضهم فيما يريدونه، دون أن يمنع ذلك اختلاف اعضاء كل هيئة في ما بينهم. فالسلطان بحاجة للمرجعية الدينية لشرعنة تصرفاته وللمال لتدعيم الولاء له، والمرجعية الدينية محتاجة إلى فرمان السلطان وأوقافه ولأموال التجار وهداياهم، واصحاب المال بحاجة للسلطان وللمرجعية الدينية. وضمن هذا المثلث، جرى اعتبار كل انتقاد للمرجعيات السياسية والدينية والمالية الدينية طعناً في “مقدّس ومحرّم”، وأصبح تأويل النصوص والأحكام حكراً لا شراكة فيه لأحد.
إن البحث في مسألة عبور النظام السياسي في لبنان إلى دولة القانون يتطلب من جهة التعمّق في آليات عمل هذا النظام للوقوف عى أهم المعوّقات التي حالت – حتى اليوم – دون تحقيق دولة القانون وفق المعاير الدستورية والإدارية والديمقراطية، كما عرضها رجال فكر وخبرة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، التبحّر في التحديات الجيوسياسية – وهذا يتطلب نقاشاً آخر لا تسع له هذا المقال – التي تشكّل حجر عثرة كبيرة في عبور الدولة في لبنان إلى دولة القانون.
إن على التعدّدية في لبنان أن تكون عاملاً يغني الوحدة ولا يهدّدها، ومن هنا أهمية رفض التقوقع في الانتماءات الفرعية وادعاء الوحدة، فقد أظهر النظام الطائفي مراراً وتكراراً فشله وترك لبنان كمجتمع تعدّدي لقمة سائغة في يد الممسكين بالسياسة الدولية، وما يتمّ تناقله عن شرخ حضاري بين المكونات اللبنانية غير صحيح. ومن الإستحالة للبنان أن يكون دولة دينية أو مذهبية، وعليه العمل لإرساء ثقافة مدنية مسالمة تمنع الإزدواجية بين الحيّز الديني والحيّز الدولتي السياسي وتعزّز المواطنة التي لا يمكن لها أن تقوم دون عمق ديمقراطي لا طائفي.
مصدر الصور: الجمهورية – الميادين.
موضوع ذا صلة: التمثيل الطائفي في النظام السياسي اللبناني.. النشأة وآفاق الحلول
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.