تعتبر الدول الديمقراطية الفنان مواطناً حراً؛ ولذلك، يُقبل ويُرفض من منظور فني وسياسي. أما في الدول المتخلّفة – أي غير الديمقراطية – فالفن يؤممه النظام، إذ لا عمل ولا كرامة لفنان حر.

كان الفنان الموالي للسلطة يسمى تسمية شيوعية وهو “الفنان الملتزم”، واطلقت الجماعات الإسلامية على الشخص القريب من الدين بأنه ملتزم. فالالتزام السياسي يعني أن يكون الفنان في معسكر الحاكم الذي يتوهم ويوهم أنه الوطن ويعذب الناس بإسم الوطن ومن أجل رفعته، حتى أن المخابرات المصرية – في وقت ما – كانت ترغم الفنانات على الدعارة من أجل الوطن، والوطن منهم براء وخصيمهم إلى يوم الدين.

لذلك، عندما نتحدث عن دور الفن في بلادنا لا بد أن نلاحظ الفرق بين الفن الحر في بلاد الأحرار، وفن العبيد في بلادنا، فكل شيء مؤمم وفق خطة الحاكم الذي يعتبر الوطن “ضيعته الخاصة”، وأن أعوانه وحوارييه يمرحون في ربوعها فيتعاملون مع الناس كـ “السائمة” رغم خطبهم النارية التي تمتلئ رحمة وحناناً ووطنية، والمخدوعون وبادي الرأي من الناس هم من يصدقون.

هنا، لدي إشكالية شخصية. فبعد أن دخلت مرحلة الإفاقة متأخراً وراجعت كل شيء، تبين لي أن فناناً موهوباً مثقفاً مثل الراحل عبد الحليم حافظ، الذي عشقت أغانيه الوطنية والعاطفية في شبابي كانت أشعارها كلها تأريخاً للأحداث وتأليها للرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، حيث طانت حقبة حكمه “أفدح” مما نتصور من تقسيم الشعب إلى “بقر يسبح بحمده”، ورجال ينتقدون عصره، أو كشفت الوسائل السرية أنه كذلك، و”زوار الفجر” لأنه كفر بالطاغوت الذي آمن بأن ذلك يفيد الوطن.

ولا خلاف على سجل القهر للمعارضين أو قتل غير الموالين بشكل ظاهر، فتعلّم الناس النفاق فوق ما يملكون، من تراث تاريخي، حتى سقط الوطن العام 1967.

ومع ذلك، استمر الزبانية بلا رحمة وفي مقدمتهم المغفور له العبقري محمد حسنين هيكل الذي كان “فيلسوف الاستبداد”. فمن مقولاته الشهيرة أن الحاكم الوطني حارس للوطن ضد معارضيه الذين كفروا به وبالله والوطن فاستحقوا العذاب والطرد من جهة النظام لأنهم ببساطة عبدوا الله دون الحاكم وقدسوا الوطن دون النظام الذي رأوه يمعن في إهانة الوطن والمواطنين.

إقرأ أيضاً: تشكيل محكمة التاريخ ونظامها وأهميتها

ومن أقواله أيضاً: “حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن”، وأنا أقول له ليس هناك وطن حر يسكنه مستعبدون، فالحرية للمواطن تكفل الحرية لوطنه. إن استعباد المواطن يؤدي إلى استعباد الخارج الذي يسند الحاكم للوطن والمواطنين، فالدول المتخلفة في كل شيء هي التي تضم مواطنين مستعبدين.

والسؤال الأول: هل استُخدم عبد الحليم حافظ من جانب النظام ضمن أدواته لتسخير الفن وشعبيته في استبقار المواطن؟ الإجابة مؤكد.
السؤال الثاني: هل كان عبد الحليم يعلم أنه أداة لاستبقار الناس أم أنه كان يؤمن بالشعارت التي تغنى بها؟ أم أنه كان يفهم أنها أكاذيب ولكنه كان مضطراً حتى يظهر ويسوق للشعب وإلا كان مصيره السجون؟ وفي هذه الحالة كان انتهازياً.

فالفنان بين ثلاثة احتمالات؛ إما أنه برئ وجاهل بأبعاد وحقيقة ما يؤديه، وإما أنه انتهازي يعلم كل شيء ولكنه يؤدي للشهرة والمال، فهو انتهازي، الاحتمال الثالث والأخير أنه يعلم ويقبل أن يوظِّف موهبته وشعبيته في استعباد الناس لصالح النظام.

بجميع الأحوال، كانت النتيجة استخدام الفن من جانب النظام لرفع أسهمه عند الناس مقابل الإضرار الجسيم بالوطن؛ لذلك، يجب على كل من يعنيه الأمر أن يفكر في علاقة الفن بالسلطة في الدول المتخلفة والدول الديمقراطية.

إن الفن – عموماً – هو أداة للتحضّر والمدنية، وهو يرقق النفوس؛ أما الفن في بلادنا، فيستخدم كأداة سلبية لارباك حسابات الشعب. فقد كانت الثقافة والفن في قمة الازدهار في العصر الناصري يستمتع به الموالون، أما الآخرون فلا مكان لهم، وهو نفس العصر الذي ازدهرت فيه المشاعر الوطنية والوحدوية، وهو العصر نفسه الذي سجل أكبر انتهاك لحقوق الإنسان المصري.

مصدر الصورة: اليوم السابع

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر