من الواضح أنَّ الهواجس والمخاوف الروسية تنبع من “الثورات الملونة” في دول الاتحاد السوفيتي السابق، والتي لا تزال تُشكل في منظومة موسكو الاستراتيجية، وهي بُعد له حساسية خاصة. تترجم تلك الهواجس الروسية واقعياً من خلال الأحداث التي وقعت في جورجيا العام 2003، وفي أوكرانيا عام 2004، وفي قرغيزستان العام 2005، وقبل مُدة في كازاخستان، لا سيما أنَّ كل تلك الساحات، تُعد مسارح مثالية لازعاج موسكو، من قبل خصومها الاستراتيجين.
بذات التوقيت، فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يُدرك أنَّ هناك تغيراً في ديناميات الصراعات الجيو – سياسية، وتحديداً حول مناطق النفوذ؛ نتيجة لذلك، فإن الرئيس بوتين يعتبر أنَّ جميع الدول في محيط روسيا هي جزء من جغرافية بلاده و”حديقتها الخلفية”، وكذا فهي من جانب أخر، ملاعب يُمكن أن تُستغل سياسياً، ويتم توظيفها واستثمارها في ملفات متعددة تكون سبباً في بعثرة أوراقه، واستنزافه سياسياً واقتصادياً.
ولأن الرئيس بوتين يُدرك هذه الحقائق، ولأنه يعلم جيداً، أنَّ هناك صراعاً إقليمياً في المنطقة، ثنائياته روسيا والغرب، وروسيا تركيا، وكذا روسيا والولايات المتحدة، مع تضارب المصالح الروسية – الصينية في بعض الجزئيات، وتحديداً تلك المتعلقة بـ “طريق الحرير”، والاستثمارات المالية الصينية الضخمة، لذلك فهو يحاول إنشاء أحلاف ومنظمات ومعاهدات أمنيّة وعسكريّة مع دول المحيط الروسي، تُشكل في مضمونها، غطاءً له للتدخل عسكرياً فيها، وتركيز هيمنته عليها في حالة حصول اضطرابات، كي يقطع الطريق على الآخرين الذين يفكرون في استثمار الاضطرابات للضغط عليه.
من هنا، بات واضحاً أنَّ ولادة منظمة الأمن الجماعي، والتي تضم روسيا وبلاروسيا وأرمينيا وطاجكستان وقرغيستان، إنما تُشكل معادلة روسية ضمن الألاعيب الجيو – سياسية؛ وبناءً على تلك المعادلة، تم الدفع بالقوات الروسية للدخول إلى كازخستان، وهندسة واقع تراه موسكو ضرورياً ضمن سلسلة الألاعيب التي تُحاك ضدها وفي محيطها. وعليه، بات مفهوماً، حديث جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، حين علّق على التدخل الروسي في كازاخستان، بقوله إنّ التدخل هو مرحلة من مراحل عودة مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي الى روسيا. وبذات الإطار، فإن العوامل وجُملتها التي تجعل من دول الجوار الروسي، خطاً أحمر أمام خصوم موسكو، إنما تنطلق من محددات جغرافية، لا سيما أنَّ دول الجوار الروسي تُشكل خواصر رخوة لموسكو، الأمر الذي يسهل بموجبه نقل الاضطرابات والفوضى وحالة عدم الاستقرار إلى عمق الأراضي الروسية، كما أن موسكو، لا يمكن لها أن تتجاهل البُعد التاريخي، فهناك نسبة كبيرة من السكان في هذه الدول من أصول روسية، ما يعطي مساحة من الحرية للقائلين إنها تابعة للأراضي الروسية، ومنهم الرئيس بوتين شخصياً الذي قال في تصريحات سابقة إن لم تكن هنالك دولة اسمها كازاخستان قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بل ذهب بعض النواب الروس أكثر من ذلك بقولهم إنَّ كازاخستان “هدية” من الاتحاد السوفييتي لهم. كل ذلك، يعطينا مشهداً واضحاً وصورة عميقة، عما يدور في الكواليس السياسية في موسكو، وعن طبيعة النظرة إلى دول المحيط الروسي.
على جانب موازً وبصرف النظر عن طبيعة وماهية الاحداث الداخلية في دول الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن القاسم المشترك – الذي يؤطر أي حدث في تلك الدول – ينطلق من قراءة محددة لا ثانٍ لها، ترتكز على أنَّ الغرب وتحديداً حلف الناتو، إنما يحاولون فتح جبهات ضد موسكو؛ وعليه، فإن الرئيس الروسي وانطلاقاً مما يراه تأمنياً لعمقه الاستراتيجي، لا يجد بديلاً سوى الضغط على حكومات تلك الدول، من منظور تقاطع المصالح، لإطلاق تهمة العامل الخارجي، ثم طلب المساعدة من موسكو باستقدام قوات روسية كي يعطي انطباعاً للمجتمع الدولي بأن تدخله شرعي، وكذلك كي يصبح التدخل متوافقاً مع شروط منظمة التعاون الأمني، وهذا في مُجمله يُعد مشروعاً، خاصة أن واشنطن دائماً ما تُحاول هندسة مشاهد تؤرق موسكو، والعمل في معادلة التضييق على السياسات الروسية، وربما مقايضة موسكو في سياق تعدد الملفات، في وقت لا يروق لموسكو فيه تلك المحاولات الأمريكية المتكررة للهيمنة على دول الاتحاد السوفيتي السابق، والتي تنظر موسكو إليها بعين العمق الاستراتيجي.
في العمق، إنَّ تصنيف موسكو للأمن القومي الروسي يبدأ عند حدود دول الاتحاد السوفيتي السابق، وليس عند حدود روسيا فقط؛ هذه الرؤية دفعت موسكو إلى التحرك ضد “الثورات الملونة” في محيطها، ومع إدراك موسكو، استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإنتاج منظومة سوفييتية جديدة، لكن العودة ممكنة في العقل السياسي الروسي، من خلال هندسة تكتلات إقليمية سياسية واقتصادية مع دول المحيط المباشر، يلعب فيها العامل الأمني دوراً بارزاً.
مصدر الصور: صحيفة السبيل.
موضوع ذا صلة: من سوريا إلى القوقاز.. روسيا تستخلص الدروس
أمجد إسماعيل الآغا
إعلامي وكاتب – سوريا