أوفيد هيردوزو**

هناك معركة مستمرة من أجل كيان وروح النظام العالمي القادم. هذه المعركة تُخاض على عدة جبهات: سياسية، اجتماعية، ثقافية، دينية. غالباً ما يتم تقديم هذه المعركة على أنها نزاع بين “الليبرالية” و”المحافظة”، وبمعنى أكبر، بين “الليبرالية” وكل من يعارضها. ومع ذلك، فإن الصدام الحقيقي ليس بين الليبراليين والمحافظين، التي باتت عبارة عن كلمات ذات معنى غامض في أحسن الأحوال ومضللة في أسوئها. عوضاً من ذلك، إن الصراع الحقيقي يدور بين اثنين من التقاليد الدينية: الغنوصية (المعرفية) وحلفائها ضد المسيحية الثالوثية. من خلال تلك الأخيرة، يمكن القول بأن الكنيسة الشرقية لسيت وحدها من حاربت الغنوصيين بل التقاليد المسيحية أيضاً بإسم الثالوث المقدس.

هنا، ليس في نيتي تتبع الغنوصية من بداياتها، في القرنين الأول والثاني حتى القرون الوسطى إلى وقتنا الحاضر. ستكون المسألة عديمة الفائدة لأن الغنوصية تتحدى التفسير التاريخي العادي. إن الربط ما بين الغنوصية القديمة والحديثة يمكن معرفته من خلال تحديد نوع أو نمط الغنوصية. تعتبر المنهجية النموذجية أكثر ملاءمة في فهم العلاقة بين الغنوصيين، في جميع الأوقات، والخطر الذي فرضوه على حضارتنا.

إن تخريب المسيحية من قبل الغنوصية هو ظاهرة شاسعة، ولكن لدينا متسع من الوقت للتعامل مع العديد من جوانب هذا التخريب. هنا، أود أن أوجه انتباهكم إلى عدد قليل من القضايا المزعجة؛ القضية الأولى، كان تعليم المعرفة، أي معرفة الله التي تلقاها خلال رحلة روحية داخلية، هو الطريق الوحيد للخلاص. بحسب الغنوصية، لا يصل الإنسان إلى الجنة من خلال عيش حياة طيبة أو الإيمان، ولكن عبر إمتلاك الغنوصة. إن التنوير الغنوصي ليس للجميع بل للنخبة الروحية، التي يمكنها وحدها الوصول إلى المعرفة الخالصة لله، المعرفة التي لا يثقلها الزمان والمكان والأحداث والأشخاص أو أي تشابك مادي آخر.

لقد أصبح البحث الباطني عن الله والذات الداخلية غير المجسمة مرادفاً بسبب التحديد الأنطولوجي بين الإثنين. إن الهروب الغنوصي من العالم هو في الأساس هروب إلى النفس. عندما يتلقى المرء المعرفة، تتطور الذات في الواقع إلى “إله” ولا يمكن إفسادها بأي شيء يمكن أن يفعله الإنسان في هذا العالم.

أما القضية الثانية الجديرة بالذكر، فتشير إلى الإنحطاط الكلي للعالم المادي. إذا انسحب الغنوصيون من العالم الواقعي فذلك لأن مسألة الخلق، كالمادة والمكان والوقت والتغيير والجسد وكل ما يُرى أو يسمع أو يمس أو يشم، كانت بمثابة فوضى شريرة. لتبرئة الله على وظيفة فاشلة كارثية، يؤسس الغنوصيون إزدواجية جذرية بين الله ومسألة الخلق. إنهم ينسبون الشر إلى قوة ثانية، خلق مادي للكون غير متكافئ، يتشارك مع الأبدية لكنه لا يمت إلى “إله الحب” بصلة مطلقاً. في مقابل الغنوصية والإزدواجية بكافة أشكالها، تؤكد المسيحية على الخير الجوهري للعالم المادي للزمان والمكان.

صحيح أن ترتيب الوقت غير كامل بسبب الخطيئة. ومع ذلك، لا ينبغي التغلب على كل ما هو طبيعي تاريخي ومادي، بل المسألة تحتاج فقط إلى الكمال في الوقت وعبر الزمن من خلال عمل إله الخلق. مسألة الخلق هي مشروع يجب إكماله إلى ما بعد الموت. إنها ليست مثالية ولكنها نوع من التحسين بمعنى أنها غير كاملة. لا يوجد خلل في الخلق بأي حال من الأحوال بسبب نقص وجودي. وعلى الرغم من السقوط، تحتفل المسيحية بالإصلاح الجوهري لنظام الخلق الذي نشأ كـ “بركة”. بالنسبة للمسيحيين، الحياة هي رحلة عبر العالم وليست هروباً منه.

قال الكاتب الإنجليزي العظيم غلبرت كايث تشيسترتون – Gilbert Keith Chesterton ذات مرة إن الولايات المتحدة “أمة لها روح الكنيسة”؛ لكن أفضل وصف لها هو “أمة بروح الكنيسة الغنوصية”. إن النزعة الإستهلاكية العالمية الحالية، القائمة على النموذج الأمريكي بإستهلاك النخبة، تعتبر غنوصية تماماً. أود أن أقول إنه نموذج ديني أكثر منه اقتصادي.

تبحث “الذات ما بعد الحداثة” عن نفسها من خلال الإستهلاك فقط. “أنا أستهلك، أنا موجود” هو المبدأ الأول. إن فعل الإستهلاك يوفر مجرد فرصة لـ “التأليه الذاتي”. تعد حملة “ريكبوك” الإعلانية، “أنا ما أنا عليه”، رمزاً لجهة رغبة الأنا اللا نهائية في إعادة تصميم الأزياء وإعادة تصميم الذات من خلال الإستهلاك. في مجتمع مستهلك، تعد الكائنات في حد ذاتها غير مهمة. وبعد أن تحولت إلى سلع، لا بد من تغييرها بإستمرار من أجل الحفاظ على رغبة الفرد في إعادة تأكيد ذاته. اليوم، لا يربط المستهلك أية قيمة مع العالم الخارجي لأن أي عملية من هذا النوع ستجعله أقل حرية. تُفهم الحرية، على الطريقة الغنوصية، بأنها الإستقلال التام عن الأشياء والعلاقات الخارجية. إن أي ارتباط بعالم مقيد وموضوعي أو أي “ولاء” للقيم والمعنى والتقاليد، ينظر إليه على أنه قيد وحد من الحرية الفردية. ما يهم حقاً هو السلعة كمسرحية؛ لا قيمة لها ولكن، بنفس الوقت، لا يمكن مقاومة صورها التي تقدم متعة فورية من دون القيام بأي جهد.

بطريقة مماثلة، تعمل الإمبراطورية الأمريكية كمستهلك هائل مضلل للذات غير مقيد بالحقائق الأساسية في العالم. يهدف المشروع الأمريكي إلى تحرير الغنوصية، ذات “السيادة الإمبراطورية”، من التعددية لكي تصبح أكثر مطابقة معها. بالنسبة للإمبراطورية الأمريكية، إن تعددية الوجود، التي تميز بحقائق موجودة لذاتها، هي عيب في الوجود. التعددية يجب أن تُلغى لأن الإمبراطورية الأمريكية لا تبحث عن شيء خارج ذاتها. يقول أحد مساعدي الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، الذين سخروا مما اسموه “المجتمع القائم على الواقع” عبارة فحواها “نحن إمبراطورية الآن. وعندما نتصرف، فإننا نخلق واقعنا الخاص”.

من هنا، تعتبر الإمبراطورية الأمريكية المصدر الأول والأساس لمبدأ الواقع. فإن خلق “واقعنا الخاص” عبر عالم الزمان والمكان كان مشروعاً نخبوياً أطلق عليه تسمية “ثورة ديمقراطية عالمية”. لكن وجود الكثير من “التدمير الخلاق”، كما الحال في سوريا، والعديد من الحكام الإستبداديين، الحقيقيين أو المنتجين، هو من المكونات الرئيسية الضرورية للحفاظ على المشروع الأمريكي مستمراً بدون أهداف أو نوايا محددة.

وكما كتب أحد محللي “المحافظين الجدد”، مايكل ليدن – Michael Ledeen، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول (2001) بفترة وجيزة “لا ينبغي أن تكون لدينا أية مخاوف بشأن قدرتنا على تدمير الطغاة. هذا هو أفضل ما نفعله. إنه أمر طبيعي بالنسبة لنا، فنحن الدولة الثورية الوحيدة في العالم، كما كنا قبل أكثر من 200 عام. إن التدمير الخلاق هو إسمنا الأوسط … وبعبارة أخرى، لقد حان الوقت مجدداً لتصدير الثورة الديمقراطية. ولمن يرون بأن ذلك غير ممكن، أود فقط الإشارة إلى حقبة الثمانينيات عندما قادنا ثورة ديمقراطية عالمية أطاحت بالطغاة من موسكو إلى جوهانسبرغ.”

ومع ذلك، فإن انتصار الإمبراطورية الأمريكية لم يكن تدميراً للطغاة بل استهلاكاً للنخبة في جميع أنحاء العالم وبإمتياز. من نيويورك إلى جوهانسبرغ ومن طهران إلى بوخارست، لم تعد تجمعات الأفراد القابلة للتبادل قادرة على مواجهة الواقع بعد الآن. من خلال إنفاق المال، الذي يمثل الحد الأدنى من المادية، يتوقون إلى استهلاك النخبة لتحريرها من الإنسانية العادية. حريتهم المستعادة تستثني كل إرتباط، وتتنازل عن ما هو مادي ما عدا الشيء الأكثر أهمية على الإطلاق: الذات.

إن مبدأ “التدمير الخلاق” لم يستجلب من الخارج، بل ذات منشأ داخلي. مثل القنبلة العنقودية، انفجرت “الذات الإمبراطورية السيادية” بين مليارات الأنفس الفارغة والمستعبدة، بحيث إنخرطت الأخيرة ضمن مشروع “التدمير الخلاق” الذاتي.

بغض النظر عن كيفية تجسيد الذات المستهلكة وما ستكون عليه، فمازال هناك إعتماد كبير على الشبكة العالمية من سلسلة المتاجر، ومراكز التسوق، والممرات الضخمة الواسعة في الضواحي، وثقافة الشركات المهووسة بـ “الحد الأدنى” اليومي: تكبير الأرباح. أمريكا، بدورها، لا تزال متورطة في ثقافة وتاريخ معين. كل هذا يجعل من مشروعها الإمبراطوري غير قادر على التعامل مع المرحلة التالية من الثورة الغنوصية: تحرير الذات من الذات نفسها وتلاشيها في رمز رقمي.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**كاتب وناقد سياسي – رومانيا.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.