كان الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية هو التوسع لاحتواء الاتحاد السوفييتي، وذلك خلال فترة “الحرب الباردة”، وقد نظّم لأجل ذلك مؤتمر أعلن عنه الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان (الرئيس الـ 33 للولايات المتحدة)، 12 مارس/آذار 1947، واعيد تطوير المخطط في 4 يوليو/تموز 1948 عندما تعهد ترومان احتواء الشيوعية والانتفاضات في كل من اليونان وتركيا.
لم تكن القوة العسكرية الأمريكية المباشرة متورطة، لكن الكونغرس خصص مساعدات مالية لدعم اقتصادات وجيوش اليونان وتركيا بشكل عام، فقد تضمنت عقيدة ترومان – أو ما بات يعرف بـ “مبدأ ترومان” – الدعم الأمريكي للدول الأخرى التي يعتقد أنها مهددة من قبل الشيوعية السوفيتية. بالتالي، أصبح هذا المبدأ أساس السياسة الخارجية الأمريكية، وأدى – العام 1949 – إلى تشكيل حلف شمال الأطلسي – الناتو، وهو تحالف عسكري لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. ومبدأ ترومان هذا كان مستخدماً من قبل المؤرخين حتى بداية الحرب الباردة.
دعم الشعوب الحرة؟!
تذرع الرئيس ترومان أن أساس هذا المبدأ يمكن في دعم الشعوب الحرة التي تقاوم محاولات القهر من قِبل الأقليات المسلحة أو من خلال الضغوط الخارجية، فقد اعتبرت واشنطن أن الأنظمة الشمولية أنها أرغمت الشعوب الحرة على الخضوع لها، وهو ما يشكل مخالفة وتهديداً صريحاً للسلام الدولي والأمن القومي للولايات المتحدة، فخرج مبدأ ترومان – في خضم الحرب الأهلية اليونانية (1946 – 1949)؛ جينها، قال الرئيس الأمريكي إنه إذا لم تتلقَ اليونان وتركيا المساعدة، فسوف يسقطان حتماً في قبضة الشيوعية إلى جانب حدوث عواقب كارثية في جميع أنحاء المنطقة، وذلك في وقت يعرف فيه الجميع أن تركيا واليونان هما خصمين تاريخيين. وإلى الآن، لا تزال العلاقات غير مستقرة أو جيدة بالقدر المأمول، فقد نشبت خلافات بينهما مؤخراً خصوصاً في منطقة شرق المتوسط، وكادت أن ترتقي إلى نشوب حرب لولا تدخل حلف الناتو بذاته، لكونها عضوتان في الحلف.
بالعودة إلى الرئيس ترومان، فقد رأى أنه كان لا بد من مساعدة أنقرة وأثينا على قدمٍ المساواة على الرغم من أن الأزمة في اليونان كانت أكثر حدة آنذاك.
من هنا، لاحظ منتقدوه أن حكومتي اليونان وتركيا كانتا بعيدين كل البعد عن الديمقراطية في ذلك الوقت، ولم تكن أي منهما تواجه التخريب السوفييتي، ربيع العام 1949. في هذا، الصدد كتب المؤرخ إريك فونر أن تلك العقيدة “شكلت سابقة للمساعدة الأمريكية لمناهضة الشيوعية كأنظمة في جميع أنحاء العالم مهما كانت غير ديمقراطية، ولإنشاء مجموعة من التحالفات العسكرية العالمية الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك”، ولأعوام تلقت اليونان دعماً من المملكة المتحدة، ثم تنازلت الأخيرة عن هذا الدور – العام 1947 – لصالح الولايات المتحدة حيث حازت هذه السياسة على دعم الجمهوريين الذين سيطروا على الكونغرس وتضمنت إرسال 400 مليون دولار من الأموال الأمريكية – دون وجود قوات عسكرية – إلى المنطقة. كان التأثير هو لإنهاء التمرد اليوناني ضد الملكية فيها؛ وفي العام 1952، انضمت كل من اليونان وتركيا إلى حلف الناتو، وذلك تحت ذريعة ضمان استقرارهم.
سياسة الحرب الباردة
تم تمديد “مبدأ ترومان” بشكل غير رسمي ليصبح أساس سياسة الحرب الباردة الأمريكية في جميع أنحاء أوروبا وحول العالم، إذ حولت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الاتحاد السوفيتي من تحالف مناهض للفاشية إلى سياسة احتواء التوسع السوفيتي كما دعا إليها الدبلوماسي جورج كينان. ومن بين الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لتبني هذا النهج كان تعرض تركيا للضغوط السوفييتية بسبب الملاحة في مضيق الدردنيل، فيما كانت اليونان تخوض غمار حرب أهلية يلعب فيها الحزب الشيوعي اليوناني دوراً رئيسياً.
من هنا، اقترن هذا المبدأ بسياسة الاحتواء التي مارستها حكومة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لوقف التغلغل الشيوعي في أوروبا خاصة وكسياسة كونية عامة، فجاء “مشروع مارشال” – العام 1947 – وانشاء حلف الأطلسي بمثابة تطبيق اقتصادي وعسكري أشمل لـ “مبدأ ترومان”. في حينها، بدأت التوترات في المنطقة، فقامت الولايات المتحدة بارسال مساعدات عسكرية لضمان احتفاظ تركيا بالسيطرة الرئيسية على الممر. وبين العامين 1946 – 1947، انتقلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من كونهما حليفتين في زمن الحرب إلى خصوم الحرب الباردة، لكن الحقيقة تكمن في أن المنطقة غنية بالنفط ممراً مهما عند المياه دافئة، ومن يسيطر عليهم يسيطر على العالم حينها.
بالتالي، أدرك صانعو السياسة الأمريكيون عدم الاستقرار في المنطقة، خوفاً من أنه إذا فقدت اليونان أمام الشيوعية، فلن تدوم تركيا طويلاً. وبالمثل، إذا استسلمت تركيا للمطالب السوفيتية، فإن موقف اليونان سيتعرض للخطر. لذا، إن تهديدات هذا “الدومينو” الإقليمي هو الذي وجه القرار الأمريكي. لقد كانت اليونان وتركيا حليفين استراتيجيين مهمين لأسباب جغرافية أيضاً، لأن سقوط أثينا من شأنه أن يضع السوفييت على جانب خطير بشكل خاص بالنسبة للأتراك، ويعزز قدرة الاتحاد السوفيتي على قطع خطوط إمداد الحلفاء في حالة الحرب.
وعلى الرغم من أن الرئيس ترومان – الذي اختاره الرئيس فرانكلن روزفلت لمنصب نيابة الرئاسة الأمريكية العام 1944 وخلفه لدى مماته في العام التالي دون أن يكون له خبرة كبيرة في اتخاذ القرارات القومية والدولية – فقد أيد فكرة الأمم المتحدة، وقرر استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان، أغسطس/آب 1945؛ بالتالي، كان الهدف هو تمرير أي مشروع إذ كان الرئيس ترومان بحاجة إلى دعم الجمهوريين، ولقد وضع أساس طلبه في لقاء مع قادة الكونغرس الرئيسيين، ومنهم من أيده ونصحه بإخافة الشعب الأمريكي من المد السوفييتي، وألقى خطابه الذي استمر 18 دقيقة في هذا الخصوص؛ بالتالي، كانت الأصداء إيجابية، وكانت كما لو أن الرئيس ترومان قد فاز بالجائزة الكبرى.
لكن حقيقة الأمر وواقع الحال تكمن في أن هذا المبدأ يمكن تلخيصه بجملة واحدة وهي أن الهدف منه هو “خنق القوة السوفيتية ومنعها من التسرب إلى المناطق ذات الثقل الاستراتيجي والاقتصادي البارز بالنسبة للأمن الغربي”، وبدأ ذلك عند البدء في عملية الدفاع عن اليونان وتركيا وشرق البحر الأبيض المتوسط في وجه الأطماع السوفيتية، ودعم الحكومات المعارضة للإيديولوجيات السوفيتية الواقعة في المنطقة نفسها.
من هنا، أصبح “مبدأ ترومان” يشكل شعاراً للمساعدة في الحفاظ على الأمة من التأثير الشيوعي. فلقد استخدم الرئيس ترومان صوراً للإنذار بالكارثة الوشيكة في انتشار الشيوعية وذلك من خلال مد درع وقائي حول البلدان غير الشيوعية في جميع أنحاء العالم، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه أمام من أتى بعده وحتى من سبقه، كالرئيس روزفلت، حيث سعت تلك السياسة لفرض احتواء على ألمانيا واليابان في العام 1937.
من خلال الأحداث، نستطيع القول بأن الأهداف المباشرة لـ “مبدأ ترومان” كانت تقف جنباً إلى جنب مع كل الحرائق والفيضانات الكارثية التي حصلت حول العالم، حيث قدمت الولايات المتحدة انتقالاً سهلاً لتوجيه المواجهة العسكرية في الأعوام الأخيرة مع الحرب الكورية وحرب فيتنام؛ فمن خلال تأطير الاختلافات الإيديولوجية في شروط الحياة أو الموت، كان الرئيس ترومان قادراً على حشد الدعم لهذه السياسة التي تمتد تداعياتها إلى أيامنا هذه.
مصدر الصور: العربية – الموسوعة العربية الشاملة.
موضوع ذا صلة: “مبدأ آيزنهاور” .. مبرر التوسّع العسكري الأمريكي
كاتب ومفكر – الكويت.