العنوان الأبرز في الدوائر الأمنية والعسكرية في إسرائيل هذه الأيام هو “الجدار الذكي” حول غزة، إذ يأمل العدو من خلاله القضاء على “بعبع” الأنفاق الفلسطينية التي شكلت رعباً للجيش الإسرائيلي ومستوطني غلاف غزة على مر أعوام.

كانت إسرائيل قد تفاخرت، كذلك، بإنجازات منظومة القبة الحديدية ضد الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، والتي كلفتها المليارات، ولم تتمكن من تحييد ما مجموعه ما بين 60% و 80% من صواريخ المقاومة وحتى البدائية منها، وبصليات محدودة.

لكن ما يقلق الكيان الصهيوني، هو سهولة حصول الجيوش والمنظمات المسلحة على الطائرات من دون طيار – الدرونز الإستطلاعية منها أو القتالية، وتجربتها في سوريا وليبيا، ونجاحها في أذربيجان، وتحدي مسيّرات الجماعة الحوثية اليمنية الدفاعات الجوية الخليجية بحيث تمكنت من اختراق الأجواء الخليجية وضرب مصافي بترول ومطارات، ما غيّر من المعادلات العسكرية التقليدية.

في هذا البحث، سوف نلقي نظرة على “الجدار الذكي” أو “الجدار الحديدي”، وفق التسمية الإسرائيلية، ونحاول استقراء ما أعده العدو للتصدي للطائرات المسيّرة.

“الجدار الذكي” قفص حديدي على أسوار غزة

في 28 يوليو/تموز 2014، وفيما كانت إسرائيل تشن عدوانها على غزة المعروف بإسم “الجرف الصامد”، فاجأت كتائب القسام (الجناح العسكري لـ “حركة حماس”) المتابعين بهجوم عسكري نوعي شنّه عشرة من مقاتلي النخبة لديها؛ حيث نجحوا في التسلل عبر أحد الأنفاق خلف خطوط الجيش الإسرائيلي، وهاجموا برجاً عسكرياً إسرائيلياً محصناً، تابعاً لكتيبة “ناحال عوز” شرقي حي الشجاعية.

أسفر الهجوم عن مقتل 10 جنود إسرائيليين، وكاد يفضي إلى أسر جندي، لكن تأثيره الأكبر كان سياسياً وإعلامياً؛ فقد لفت نظر الجمهورين العربي والإسرائيلي إلى الخطورة الإستراتيجية التي بات يمثلها سلاح الأنفاق الذي استثمرت فيه فصائل المقاومة الفلسطينية الكثير من الوقت والجهد والخبرات، وباتت الأنفاق الفلسطينية منذ ذلك الوقت رقماً مهماً في أية موجهة تخوضها إسرائيل على جبهتها الجنوبية.

وبمرور الأعوام، راكمت الفصائل الفلسطينية خبرة في حفر الأنفاق واستخدامها لأغراض مختلفة، بدءاً من تهريب السلاح أو السلع الإستراتيجية الضرورية للقطاع، أو استخدامها في العمل العسكري المباشر ضد إسرائيل، إما بتفجير المواقع العسكرية بوضع المتفجرات أسفلها، أو استخدام الأنفاق لتسهيل وصول المقاتلين للموقع العسكري المستهدف، ومنها أنفاق الإمداد المسؤولة عن نقل الذخائر والصواريخ والمؤن إلى المقاتلين في مواقعهم، وأنفاق الضبط والسيطرة وهي مجهزة بوسائل المعيشة والاتصال والتواصل، وتحوي مراكز قيادة وسيطرة لإدارة العمليات العسكرية.

وتطورت شبكة الأنفاق في غزة عبر العقدين الماضيين لتصبح أحد أعمدة العمل العسكري للفصائل الفلسطينية، حتى صار الحديث يدور عن مدينة كاملة تحت الأرض؛ ما دفع وسائل الإعلام العالمية إلى تسميتها بـ “مترو حماس”.

أمام هذا الواقع، كثّفت الآلة العسكرية الإسرائيلية من جهودها لإيجاد حلول جديدة للحد من تهديد الأنفاق، ليخرج إلى النور في ديسمبر/كانون الأول 2021 ما أطلق عليه المسؤولون الإسرائيليون إسم “الجدار الحديدي” أو “الجدار الذكي”، والذي يمتد بطول 65 كلم مطوقاً القطاع تماماً، ويصل إلى البحر. ويمتد الجدار تحت الأرض بعمق نحو 30 متراً، بـ 1.2 مليون متر مكعب من الخرسانة المسلحة في الجزء السفلي منه، و140 ألف طن من الحديد، أما فوق الأرض فيمتد الجدار نحو 6 أمتار من الفولاذ، تعلوها أسلاك تحتوى على ماس كهربي، وبحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية فإن كمية الخرسانة المستخدمة في الجدار تكفي لشق طريق من إسرائيل إلى بلغاريا.

كلفة إنشاء الجدار الذكي بلغت نحو 1.2 مليار دولار، بمشاركة أكثر من 1200 عامل، وجرى إنشاء 6 مصانع للخرسانة على امتداد الشريط الحدودي مع القطاع، فالجزء السفلي من “الجدار الذكي”، تحت الأرض، جرى تدعيمه بالعديد من أجهزة الاستشعار وكاميرات المراقبة لاكتشاف أي محاولات تسلل أو حفر أنفاق، والجزء العلوي منه مزود بالعشرات من أبراج المراقبة والكاميرات، وأجهزة الرصد والإنذار ومرابض للقناصة، كما تخطط إسرائيل لتدعيم منظومة حماية حدودها مع غزة بطائرات مسيرة ومناطيد ذكية وروبوتات مقاتلة يجري توجيهها عن بعد من دون انخراط عنصر بشري في العمليات بشكل مباشر.

والجدير ذكره هنا أن التحصن بالجدران الذي اعتمده الجيش الإسرائيلي لم يقتصر على حدود دول الطوق ومناطق الصراع والتماس على الحدود الدولية، بل انتقل داخلياً حيث باتت جدران الفصل مشهداً اعتيادياً في حياة الإسرائيليين، ببناء جدران داخل بعض المدن الساحلية المختلطة (أي التي يسكنها من تبقى من أهلها الفلسطينيين واليهود، مثل اللد والرملة) لفصل وعزل الأحياء العربية عن اليهودية، ومحاصرة بلدات عربية، مثل بلدة جسر الزرقاء، بجدران ترابية لفصلها عن بلدة قيساريا.

لكن وإلى أن تختبر الأحداث صدق الرواية الإسرائيلية حول صلابة “الجدار الذكي”، يرى محللون إلى أن الجدار سيتمكن من تقليص عمليات التسلل عبر الحدود فوق الأرض، وسيحرم الفصائل من ميزة الأنفاق الهجومية التي بإمكانها أن تخترق الأراضي المحتلة.

في المقابل، لن يكون ذا قيمة كبيرة فيما يتعلق بالأنفاق الدفاعية، إذ سيظل بإمكان الفلسطينيين مفاجأة القوات المتقدمة عبر الأنفاق في أي هجوم بري، حيث يجري الاعتماد على أنفاق الإمداد والتموين وغيرها من الأنفاق التي تبطن أرض غزة، وتستخدمها الحركات الفلسطينية لأغراض مختلفة. كما قد يدفع الجدار فصائل المقاومة إلى التركيز على بدائل إبداعية أخرى، مثل الاعتماد على الطائرات بدون طيار التي بدأ استخدامها في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي منذ عام 2014، وأعلنت “حماس” استخدامها لأغراض قتالية في حرب العام 2021.

مفاعيل عكسية للجدران… انكفاء الهجوم البري

في الجانب الإسرائيلي، يعتقد المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس”، عاموس هرئيل، أن تدشين الجدار مع غزة يثبت أن إسرائيل غير معنية باحتلال القطاع، بل تُحصن ذاتها من أي هجمات مستقبلية لـ “حركة حماس” والفصائل الفلسطينية المسلحة؛ كذلك، فإنها ببناء جدار على حدود سيناء، أوقفت إسرائيل بشكل كامل – كما يقول هرئيل – “تسلل طالبي اللجوء والعمال المهاجرين من إفريقيا. ومع بداية العام القادم، من المقرر تدشين مشروع السياج على طول الحدود مع لبنان”.

وأوضح هرئيل أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بميزة عسكرية واضحة على الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، ولكن التحصن بالجدران يكشف عن مصدر ضعف، وقد يُستغل من الفصائل التي نجحت بتجاوز الدفاعات الجوية التي تحصنت بها إسرائيل عبر منظومة القبة الحديدية، وتسلحت بالأنفاق الهجومية.

برأي المختصين في الشأنين العسكري والأمني، من الجهة الفلسطينية، فإن بناء دولة الاحتلال الجدران حول نفسها يُعتبر تراجعاً في عقيدة الهجوم والهجمات الاستباقية، في مقابل تعزيز الردع والحالة الدفاعية. ويوضح الباحث رامي أبو زبيدة – لموقع الجزيرة نت – أن المقاومة التي تمكنت من حفر العديد من الأنفاق الهجومية وبعضها – وفقاً حتى لتقديرات الاحتلال – اخترق الحدود، لم تظهر الخوف أو الارتباك حيال تدشين الجدار تحت الأرض، أو التردد في المضي بتطوير الأنفاق الهجومية، وذلك على عكس ما يروج له الاحتلال من أن الجدار سيسلب “حماس” إحدى قدراتها. ويقول أبو زبيدة إنه من الصعب على المقاومة في غزة الاستغناء عن الأنفاق التي تعتبر ضرورة إستراتيجية عملياتية ولوجستية.

وحول جدوى الجدار في منع المقاومة الفلسطينية من الوصول إلى أهدافها في إسرائيل، يقول المحلل العسكري إن “النضال الفلسطيني يطوّر ذاته ويتكيّف مع المستجدات؛ وعليه، فمن المحتمل أن تبحث الفصائل في غزة عن المزيد من الطرق الالتفافية والأساليب الأخرى، ولربما تجدها تستثمر الآن في تهريب وتصنيع الطائرات المسيّرة.”

منظومة دفاعية للسيطرة على الطائرات المسيرة

أمام هذا الواقع، بدأت شركات تجارية ومنظمات حكومية كثيرة في إسرائيل والعالم تستشعر أن “خطر الطائرات المسيرة المعادية بات ملموساً”، حيث أصبحت قادرة على حمل مواد متفجرة إلى تجمعات مكشوفة، أو مناطق مفتوحة يقوم القادة العسكريون ورجالات السلطة بجولات أو إلقاء خطابات فيها. وفي هذا الإطار، نشرت الصحف الإسرائيلية، العام 2019، صوراً لحراس رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، وهم مسلحون ببنادق لتحييد الطائرات المسيرة بواسطة تشويش البث.

انكبت شركات إسرائيلية سيبرانية، ومنها شركة سكايلوك – Skylock، على دراسة الحلول بالعمل على انتاج منظومة دفاعية، جرى تطويرها مؤخراً، تتيح السيطرة على الطائرات المسيرة، وإهباطها في أي مكان يختاره المفعل دون وقوع أية أضرار، كما تسمح باستخدام الطائرة المسيرة ثانية، واستخلاص معطيات بشأن استخدامات الطائرة السابقة حتى ضبطها، وذلك بالتزامن مع نشاط شركات أخرى للهدف نفسه، وبضمنها شركة التجسس أو.أس.أن – NSO.

هذا وقد صرح مدير التطوير في شركة سكايلوك، آساف ليبوفيتش، بأن “المنظومة التي جرى تطويرها قادرة على استيعاب طائرات مسيرة معادية في أمداء تصل إلى 3.5 كلم، والسيطرة على نحو 200 طائرة مسيرة، بشكل موازٍ”. وبحسب تقرير نشرته صحيفة “هآرتس”، فإن الشركة أجرت، قبل نحو شهرين، تجربة تحاكي “تحييد وعرقلة طائرات معادية والسيطرة عليها”.

وبحسب ليبوفيتش، فإنه يتم تحديد موقع معين للسيطرة على الطائرة المسيّرة، مضيفاً أنه لدى المنظومة القدرة على تشويش الاتصال بين الطائرة المسيرة ومن يقوم بتفعيلها، وعندها تتم السيطرة عليها عن بعد، وإهباطها، وفحص حمولتها ولمن تتبع.

وأشار التقرير إلى أن شركات أمنية إسرائيلية أخرى تقدم منظومات ذات قدرات مماثلة، حيث عرضت شركة “إلبيت معرخوت”، مؤخراً، منظومة “درون دوم”، والتي أعلن عنها كعملانية في مواجهة الطائرات المسيرة، ويمكن تثبيتها في موقع معين، أو تركيبها على مركبة، أو يمكن لجندي أن يحملها. وبحسب الشركة، فإن هذه المنظومة “قادرة على السيطرة على الطائرات المعادية، وإهباطها دون حصول أي ضرر لها”، باعتبار أن ذلك مهم جداً في حال كانت الطائرة مفخخة.

في المقابل، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في موقعها على الشبكة، أن شركة السايبر الهجومية الإسرائيلية أو.أس.أن – NSO طورت تكنولوجيا تتيح السيطرة على طائرات مسيرة “معادية”. وبحسب التقرير، فإن الشركة – المعروفة كمسوقة لبرامج التجسس على الهواتف الخليوية – قادرة على التجسس على الطائرات المسيرة، واستخلاص المعلومات التي تخزنها دون أن يلاحظ مفعّلها ذلك. أيضاً، جاء أن الشركة قادرة على السيطرة على طائرات مسيرة بواسطة منظومات الاتصال، والتي تعتمد على عزل مفعل الطائرة الأصلي، وإبعادها عن المنطقة المحلية، وإهباطها في موقع يمكن ضبطها فيه.

مسيرات حزب الله تهديد مباشر

كما تثير الطائرات المسيرة مخاوف مصلحة السجون في الكيان الصهيوني، بسبب الخشية من تهريب مخدرات أو أجهزة خليوية إلى داخل السجون بواسطتها، أو سلطة المطارات التي تضطر إلى إغلاق المطارات بسبب طائرات مسيرة تدخل المجال الجوي وتعرض الطائرات للخطر، أو الشركات التي تعمل على حماية حقول النفط والمنصات البحرية للتنقيب عن النفط أو الغاز، وغيرها.

وإذا كانت المقاومة الإسلامية تعد العدة للتوجه نحو اعتماد أسلوب جديد بواسطة الطائرات المسيّرة، فإن حزب الله يطلق منذ مدة المسيّرات من أجل جمع معلومات استخباراتية لأغراض عسكرية. وفي الوقت نفسه، يستعين حزب الله بالطائرات المسيرة من أجل مراقبة انتشار الجيش الإسرائيلي على طول الحدود وقدراته على رد سريع.

وقد أعلن الجيش الإسرائيلي، في أغسطس/آب من العام الماضي، عن اسقاط طائرة مسيرة أطلقها حزب الله، وتبين أن الصور التي التقطتها هذه الطائرة اثناء تحليقها لم تتضرر. وعثرت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وفق زعم الناطق العسكري، على صور لمشغلي الطائرة وانتشار القوات الإسرائيلية في مقاطع من المنطقة الحدودية.

في الخلاصة..

من الملاحظ أن العدو الإسرائيلي يعمد، عند بدء أية عملية عسكرية، إلى منع أي مراسل من ارسال أي خبر عن أية مجريات قبل عرضه على الجهة المختصة في الإعلام العسكري، ما يجعل الوسيلة الوحيدة للحصول على المعلومة هي الإعلام الإسرئيلي. السؤال هنا: هل نثق بما تعلنه تلك المصادر من أنها فعلاً نجحت في تحقيق هذا التقدم التكنولوجي بالتمكّن من قطع الصلة بين الطائرة المسيرة ومشغّلها، عن طريق التشويش وبالتالي السيطرة عليها واسقاطها واستثمار المعلومات؟

لكن، حتى شهر أغسطس/آب الماضي، لم تكن تلك التقنيات متوفرة، ما اقتضى اسقاط طائرة من دون طيار أطلقت من غزة بصاروخ من منظومة القبة الحديدية. وفي مقاربة أخرى، فيما لو نجحت الوسائل السيبرانية في اسقاط المسيرات لكانت معظم الدول تهافتت على شراء التقنيات الحديثة من الشركات الإسرائيلية كما حصل بعد النجاح الجزئي لمنظومة القبة الحديدية، ولكن يجب أخذ هذه المعلومات على محمل الجد حتى ولو ساورتنا الشكوك بصحتها.

مصدر الصور: البوابة – إندبندنت عربية.

موضوع ذا صلة: “الدرونز”.. سلاح طهران المراوغ في حرب غير متكافئة

العميد م. ناجي ملاعب

باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.