لا شك أن تركيا تحاول أن تسير على خيط دقيق كلما توترت العلاقات بين موسكو وواشنطن. فالمصالح التركية مع كلميهما، لا يمكن التضحية بها؛ فلذلك، يبقى السؤال المُلح: إلى أيهما تميل تركيا نفسياً وسياسياً؟

إن المصالح التركية مع روسيا هي مصالح اقتصادية في الأساس، أما مصالح تركيا مع الولايات المتحدة فهي مصالح استراتيجية. لكن الدبلوماسية التركية تحاول أن لا تصطدم بالعملاقين، كما أنها لا تتمنى أن تحدث مواجهة بينهما، فمن مصلحتها أن يتوفر حد أدنى من التوافق بينهما وليس معنى ذلك أن العلاقات التركية مع كليهما سلسة، وأنما تعترضها عقبات كثيرة.

الدبوماسية التركية مع موسكو

تتواجه أنقرة وموسكو في سوريا حيث تحارب روسيا الجماعات الإسلامية المتشددة نفسها التي تتبناها تركيا؛ وبالطبع، فإن روسيا لا تستريح لهذا الموقف، فهي تطارد تلك الجماعات المسلحة – التي تحميها تركيا – وتدعم الحكومة السورية بخلاف الموقف التركي. هذا البُعد في موقف أنقرة ينبع من فكرة القيادة التركية بإنها تريد أن تكون وريثة لامجاد الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية.

نذكر هنا بأن الشباب المسلم – الذي أراد الانضمام إلى الجماعات والمنظمات المسلحة – كان يتوافد إلى تركيا، وأن أوروبا كانت تساند هذه الجهود التركية لتتخلص من الجاليات الإسلامية في دولها، والدليل على ذلك أنها يسّرت خروجهم ثم حظرت عودتهم، وهذا واضح في جميع الدول الأوروبية التي دفعت حكوماتها الشباب المسلم للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، على غرار “داعش” وغيرها.

صحيح أن روسيا لا تؤيد كرد تركيا لأنها لا تزال تعيش هاجس انفصال الشيشان، فيما بعض الدول الإسلامية وإسرائيل والولايات المتحدة تؤيدهم. هذا الأمر يشكل “نقطة رمادية” في العلاقات التركية – الأمريكية، والطريف أن الرئيس رجب طيب أردوغان أراد من خلال مبادرته لاستضافة المحادثات الروسية – الأمريكية حول أوكرانيا عمد إلى مغازلة واشنطن بالدور الإسرائيلي واستعداده لأن الغاز الإسرائيلى سيمر إلى أوروبا بديلاً عن الغاز الروسي، ولكن واشنطن بادرت برفض المبادرة التركية، وحرمت أنقرة لعب دور الوسيط في هذه الأزمة.

الدبلوماسية التركية مع واشنطن

الكل يعلم بأن تركيا هي عضو في حلف شمال الأطلسي – الناتو، وتشعر بأن التحالف الغربي – مثلما كان الأمر عقب الحرب العالمية الثانية – هو الضمان لأمنها في مواجهة روسيا، لكنها تحرص على خدمة مصالحها واستقلال قرارها مع هذا التحالف. هنا، نذكّر بأن تركيا تريد استرجاع تاريخ الدولة العثمانية لا سيما فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم، حيث ترى أنها أرض تركية وانتزعتها روسيا القيصرية منها خلال حرب القرم، العام 1854، ثم أكدتها معاهدة باريس التي أنهت الحرب، العام 1856.

من هنا، لا تعترف أنقرة بادعاءات موسكو بأن هذه الجزيرة هي امتداد للأرض الروسية، وهذا ما يغضب واشنطن ولا يريح روسيا فى نفس الوقت؛ ولهذا السبب، نعتقد أن واشنطن لا ترى تركيا مؤهلة للوساطة أو حتى بذل مساعٍ حميدة بينها وبين روسيا.

لذا، صحيح بأن تركيا تتماهى مع واشنطن في دعم الجماعات والتنظيمات المسلحة وتقف مع نفس المعسكر في سوريا، إلا أن المصالح التركية لا تتطابق مع المصالح الأمريكية، وقد فوجئت بأن الرئيس أردوغان – في مبادرته – تطوّع بأن تقوم بلاده بتصدير الغاز الإسرائيلي – وربما المسروق من مصر ولبنان وفلسطين – إلى أوروبا إذا قررت روسيا قطع إمدادات الغاز إليها عبر أوكرنيا، أي أن تركيا تريد أن توسط إسرائيل لكي يكون لها دور في هذه الملحمة التي كان يتعين عليها أن تنأى بنفسها عنها.

إن الصراع بين موسكو وواشنطن يشبه – ولكن لا يتطابق مع – الحرب الباردة، لكن الفرق بين الحالتين هو أن روسيا ليست لديها إيديولوجية سياسية ولا تريد نشرها لتحل محل النظام الرأسمالي في الغرب كما كان يطمح الاتحاد السوفيتي السابق. وفيما عدا ذلك، فإن التحالفات الروسية – الأمريكية ليست بنفس الحدة التي كانت عليها خلال الحرب الباردةن والتي كان شعارها “من ليس معنا فهو علينا”، والدليل على تلك المرونة الجديدة هو أن مصر – مثلاً – كانت في المعسكر السوفيتي وعادت الولايات المتحدة، كما أن هزيمة مصر أمام إسرائيل، في حرب العام 1967، فهمتها موسكو على أنها هزيمة للسلاح السوفيتي في مواجهة السلاح الأمريكي. لذلك، رفضت موسكو تزويد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالسلاح لأنه – في نظر موسكو – لا يستطيع ولا يقدر أهميته وأستخداماته، كما أن الأسلحة السوفيتية التي حصلت عليها إسرائيل من الجيس المصري كشفت أسرار هذا السلاح، وهذا ما كانت موسكو تحاذر منه.

الخلاصة

تحاول تركيا توسيع دائرة نشاطها الدبلوماسي، ولكن بالاستعانة بإسرائيل فلربما شعرت أن العرب قد أقبلوا على إسرائيل والولايات المتحدة فلماذا لا تجاريهم وتنظر إلى مصالحها معهما بحيث لا تكون “ملكية أكثر من الملك”؟ لهذا السبب، خاطر الرئيس التركي دون أن يخسر العرب، بل ربما امتدحه بعض العرب على هذه اللفتة.

لكن أبراز دور لإسرائيل والغاز المسروق من العرب كمنافس لروسيا أغضب موسكو طبعاً، ولم يُسعد واشنطن، ففشل الرئيس أردوغان في رهانه على إسرائيل، والدليل على ذلك أن واشنطن لم تستغرق وقتاً لدراسة مبادرته وإنما سارعت برفضها حتى دون أن تتأمل فيها، وهذا يعتبر انتكاسة دبلوماسية لتركيا في هذه الأزمة. وكما قولنا من قبل، إن موقف تركيا من شبه جزيرة القرم – الذي لا يسلم بإستقلاله أو انضمامه إلى روسيا – لم يسعد واشنطن حتى وإنما ذكّر بتراث الامبراطورية العثمانية التي حاربتها روسيا لمدة عامين – في القرن 19 – بسبب هذه المنطقة بالذات. ومما يذكره التاريخ هنا أن بعض جنود الجيش المصري قد حاربوا مع الدولة العثمانية ضد الامبراطورية الروسية في القرم، واستقر عدد منهم فيها بحسب – الدوريات التاريخية – وربما لا يزال هناك أحفاد هؤلاء المصريين وذلك يوم أن كانت مصر تتبع الدولة العثمانية والسلطان العثماني – الذي يعيّن حاكم مصر – حتى تقوضت الدولة العثمانية، مارس/آذار 1924، وسقطت الخلافة الإسلامية بسبب اصلاحات كمال أتاتورك والتي رحب بها – في البداية – أمير الشعراء أحمد شوقي ليعود ويهاجمها بعد ذلك ارضاء للحزب الوطني الذي كان يساند الدولة العثمانية نكاية بالانجليز. أيضاً، إن تاريخ كل من مصطفى كامل ومحمد فريد يحوي صفحات من الانتماء الإسلامي المبكر قبل قيام جماعة “الإخوان المسلمين” بعدة أعوام، وأن كان الاتجاه الإسلامي في الحزب الوطنى قد انزوى بعد استقلال مصر عن الدولة العثمانية في اتفاقية لوزان، العام 1923، حيث تخلت أنقرة عن كافة ممتلكاتها وودعت قروناً طويلة من أمجاد العثمانيين، ولا يزال هذا الموضوع محل جدل حتى اليوم بين المؤرخين في العالم العربي.

مصدر الصورة: النهضة نيوز.

موضوع ذا صلة: تداعيات إقتناء تركيا منظومة “إس – 400” في علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر