مع تواتر الأحداث الكارثية في ذاك العالم البعيد عن العالم العربي، تتواصل التدخلات الخارجية الراعية لإطالة أمد الحرب بدلاً من السعي لفتح قنوات مفاوضات وسلام من شأنها أن تضع حداً لهذه الحرب الدائرة، بل على العكس تماماً، يواصل الغرب مد أوكرانيا بالسلاح، لتطول حرب سيكون ضحيتها الإنسان، عسكرياً كان أم مدني.
جولة عربية
في تطورات الأزمة الأوكرانية، استقبلت دول مجلس التعاون الخليجي مؤخراً، وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وتم التباحث في مختلف القضايا الدولية والإقليمية وبالطبع أخبار الحرب الأوكرانية، وكل هذا أصبح معروفاً للجميع.
لكن الذي يجب التوقف عنده هو موقف الدول العربية المتوازن من هذه الحرب، وعدم أخذ موقف قد تندم عليه لاحقاً، من السعودية إلى الإمارات فالكويت، وقطر، كلهم كانوا على مسافة واحدة من الصراع، ومع التشبيك المباشر مع كل الأطراف، وزيادة التنسيق والتواصل مع روسيا، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على الوعي السياسي لدى القادة العرب عموماً، ولدى الخليجيين على وجه الخصوص، فجولة لافروف مهمة جداً، وإلا لما صرحت الإدارة الأمريكية عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الرياض قيل إنها لخفض أسعار النفط، لكن ربما في الأجندة ما هو أكبر من ذلك، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تعاني الأمرين نتيجة ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الوقود ما قد يسبب بأزمة داخلية قد تطيح بالحزب الديمقراطي إن لم يتدارك بايدن وإدارته سريعاً هذا الأمر.
بالتالي، حددت الدول العربية موقفها من الصراع الروسي – الأوكراني منذ بدايته، وحتى ولو كانت ضد روسيا في حربها، لكنها تعرف كيف تحترم ضيوفها وتقدرهم على عكس بعض الدول الغربية التي أفرزت مواقف مخجلة أقل ما يُقال عنها أو يمكن وصفها بأنها “غير أخلاقية”.
تطور الأزمة
الآن أخذ الصراع الروسي – الأوكراني منعطفاً خطيراً، لجهة إمكانية تسليم الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا طائرات بدون طيار هجومية من شأنها أن تقلق الجانب الروسي، لقدرتها على تحديد الهدف وما إلى هنالك من تقنيات عالية تملكها، فضلاً عن صواريخ ميلرز بعيدة المدى والتي قد تصل إلى العمق الروسي، رغم أن الرواية الأمريكية تقول إنها نبهت الجانب الأوكراني، لكن في الحروب لا يُضمن أحد أو شيء، مقابل الظفر والانتصار، فهذا الموضوع حساس وقد يكون مقدمة لتوسع نطاق المعارك، فقد قالت روسيا إن هذا الأمر لن يتم السكوت عنه، ولذلك نجد معارك دونباس اليوم ساحنة لدرجة كبيرة، فالقوات الروسية اليوم تحاول السيطرة على القدر الأكبر من المناطق من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، في حين تُصاب القوات الأوكرانية بالجنون وتقصف المدنيين بدون وعي، لذلك ارتفعت حصيلة القتلى والإصابات كثيراً، ما يعني وكأن الوضع مسألة حياة أو موت.
حتى الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلنيسكي، اعترف مؤخراً بأن القوات الروسية سيطرت على قرابة 20% من أوكرانيا، مناشداً العالم مده بالأسلحة لاسترجاع تلك المناطق، وبصرف النظر عن الرأي الشعبي في دونباس أو خيرسون وغيرهما من المناطق التي تريد الانضمام إلى روسيا، تبقى كييف متلهفة للحصول على العتاد العسكري والمساعدات، بدل أن تحافظ على كامل بلدها بمجرد القبول بشروط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهي نزع السلاح والعودة إلى اتفاقية مينسك، لكن الغرب مع الأسف يمسك كييف من يدها بوعده لها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا ما لن يحدث مع الأسف، وستكتشفه أوكرانيا في المستقبل وتندم على وضع ثقتها بهذا الغرب.
إذاً، المشهد الآن يبين أن الشعب الأوكراني تشرد، والاقتصاد الأوكراني توقف، وكل هذه المساعدات سيقبض ثمنها الغرب، فقد بينت الأخبار الواردة من هناك أن زيلنيسكي قد أوعز لحكومته بأن يشرعن التواجد البولندي للجالية في بلاده بشكل قانوني، في حين أعلنت الحكومة البولندية عن نيتها إلغاء الحدود مع أوكرانيا، لكن هذا ليس حبّاً لها، بل هناك أطماع تاريخية بالغرب الأوكراني الذي تقول وارسو إنه لها، وهذا يعني مع إلغاء الحدود أن قوات حفظ السلام التي ستدخل الغرب الأوكراني وستكون بولندية لأنها صاحبة المصلحة الكبرى في ذلك، على عكس دول أوروبا الشرقية، التي تحاول قدر الإمكان التهدئة لكنها ليس بقوة غرب أوروبا، رغم الضرر الكبير الذي لحق بدولهم جراء حظر النفط الروسي باستثناء المجر وبلغاريا لأنهما لا يملكان حدوداً بحرية، بالتالي الحزمة السادسة من العقوبات الغربية حظرت خطوط النقل البحرية وتركت جزئياً خط أنابيب دروغبا ريثما تحل مشكلة المجر وبلغاريا.
أزمة الموانئ البحرية
من المعروف أن روسيا سيطرت تقريباً على أغلب الموانئ البحرية في أوديسا وماريوبول وأطبقت سيطرتها على جزيرة زميني (جزيرة الثعبان) لكن قبل انسحاب القوات الأوكرانية رمت ألغاماً في السواحل، وهذا أمر يشكل خطراً على السفن بكافة أنواعها، فأزمة الغذاء العالمي التي تقول الأمم المتحدة أنها قد تكون كارثية إن لم يتم فتح الموانئ، في حين عرضت تركيا أن تكون ضامناً وأن تسيير دورياتها مع السفن التي تنقل الحبوب، في حال وافق الطرف الأوكراني، لكن الأخير يريد استعادة الموانئ، والجانب الروسي لإتمام هذا الأمر يريد خروج القوات الأوكرانية من المشهد، فضلاً عن أن هذا الأمر لن يتحقق إلا برفع العقوبات عن روسيا، ليس وكأنه شرط تعجيزي، لكن لنقل الحبوب على الدول المستوردة أن تدفع ثمنه وتقوم بالتحويل إلى البنوك الروسية التي تم فصلها عن نظام سويفت جراء العقوبات، فمن الطبيعي أن موسكو لن تقدم مواردها هبةً وبالمجان، وفي هذا لها بعض الحق.
ثم أتت الرغبة البريطانية في التفكير جدياً بمحاولة شن عملية عسكرية بمساعدة بعض الحلفاء للسيطرة على الموانئ من أجل تصدير الحبوب، وهذا بالطبع ليس حباً بأوكرانيا، فكل هذه الدول التي ترعى الفكرة هي المتضرر الأول من هذا كله، وبدأت شعوبها تلوم حكوماتها على مواقفهم غير المدروسة نتيجة تضررهم، وبالمنطق كل الدول اقتصادياً بحاجة روسيا، فالمسألة ليس طاقة ونفط وغاز، هناك معادن تدخل في صناعة الطائرات وهناك مواد غذائية كثيرة، فقد بينت هذه الأزمة أن العالم يعتمد على روسيا في أغلب المجالات، بالتالي، الموقف الغربي المتصلب، دمر العالم وشعوبه قبل أي شعوب أخرى.
فقد قال الرئيس بوتين، إن مشكلة الأمن الغذائي، بدأت في العالم قبل وقت طويل من العملية الخاصة في أوكرانيا، أي في فترة وباء كورونا، وهذا منطقياً صحيح، إلى جانب رفض الأوروبيين، الطلب الروسي بالاحتفاظ بعقود طويلة الأمد لتوريد الغاز، وبسبب ذلك، ارتفعت الأسعار، ولا علاقة لروسيا بهذا الأمر، والآن، بسبب العقوبات، سوف يتدهور وضع الأسمدة العالمية، وسترتفع أسعار المواد الغذائية، أما عن حقيقة منع أوكرانيا من تصدير الحبوب، فقد أكد بوتين أن ذلك كذبة، وأسهل طريقة لتصدير الحبوب من أوكرانيا هي طريق التجارة عبر بيلاروسيا، من أجل وصول الشحنات إلى المستلمين، وهذا يتعلق بالجانب الغربي الذي فرض العقوبات، لقد ارتكب الغرب الكثير من الأخطاء، وهم الآن يبحثون عن شخص يلوم كل شيء عليه، وكانت روسيا هي المرشح الأكثر ملاءمة، وهنا لا بد من ذكر نقطة مهمة أن روسيا تشكل 25٪ من سوق الأسمدة العالمي، بالتالي، هذا تصريح مهم، ومن المؤكد أن الكثير من العرب مغيب عن حقيقة الأوضاع، لكن عند الاطلاع على الجانبين لتبيان الواقع وفهم اللعبة الكبرى على الصعيد الدولي، لأن أوكرانيا كسوريا مسرح عمليات عالمي يقوده الكبار.
بالتالي، كل ما حدث يبين أن الوضع ليس إلا بداية نهاية الفصل الأول من معركة لا يبدو أنها ستنتهي بسهولة، الخصم قوي، والطرف الآخر المدعوم بأقوى الدول بات لا يُستهان به، ومن غير المعروف كيف ستتطور الأمور، ففي كل يوم تتغير المعطيات سلباً أو إيجاباً، على أمل أن تنتهي بأقل الخسائر ويعم السلام في القريب العاجل.
مصدر الصور: رويترز + أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: تمدد الناتو.. مشروع حرب على روسيا أم خطوة الضرورة؟
عبد العزيز بدر القطان
كاتب ومفكر – الكويت