د. عبدالله الأشعل*

روسيا دولة معروفة في المنطقة العربية، كما أن الأدب الروسي يعتبر مألوفاً عند المثقفين العرب، لا سيما الأعمال المسرحية التي عرضت على مسارح القاهرة حيث كان الفن، في العصر السوفيتي، هو الأبرز. أيضاً، كانت أخبار الأحرار الروس، الذين عذبهم الحزب الشيوعي في سيبريا، مرصودة عند المثقفين المصريين. لذا، يجب علينا هنا التفريق ما بين صورة روسيا عند المثقفين العرب، وبين صورتها عند العامة.

في العصر الإمبراطوري، كانت الأعمال الأدبية لكبار الرواة والشعراء الروس مألوفة عند الطبقة المثقفة المصرية وحدها؛ فلما أصبحت أعمالاً درامية وموسيقية، نزلت إلى العامة لا سيما وأن المسرح المصري في تلك الفترة كان يحبو وينشغل بالأعمال الأدبية لأوروبا والولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين.

كانت الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية حدثاً هاماً في المنطقة العربية، ومصر بصفة خاصة بعدما إنتكست الحركة الوطنية المصرية، بعد أحمد عرابي. لكن ظهور الحزب الوطني العام 1908 وتشجيع عباس حلمي الثاني لها، أنعش الحركة مجدداً.

مثَّلت الحرب العالمية الأولى، مع وجود الإحتلال البريطاني، إزدواجية في العقل المصري؛ فالجناح ذو الميول الإسلامية وعموم الحركة الوطنية تقاربت من تركيا ضد بريطانيا، كقوة إستعمارية، في وقت لم تكن تعتبر تركيا دولة إستعمارية، حيث إقتصر الإستعمار فقط في العقل المصري على الدول الغربية. ولكن د. مراد غالب، وزير الخارجية في أواخر سبعينيات القرن العشرين، يشير في مذكراته إلى أن الفريق عزيز المصري، الضابط السابق في الجيش التركي، كان يحرّض ضد السلطنة العثمانية، وبالطبع ضد الانجليز، وكان “الأب الروحي” التاريخي لضباط “ثورة يوليو”، الذين وقفوا في مواجهة الحكم الأجنبي عموماً، تركيا أو غربياً.

لقد قدّر المثقفين المصريين للثورة البلشيفية كشفها لمؤامرة “سايكس – بيكو”، لأن روسيا القيصرية كانت طرفاً فيها. كما كانت ضد الثورة العربية الكبرى وتركيا لمجرد أن بريطانيا هي من وقف وراء المؤامرة.

وفور قيام الثورة البلشيفية تشكل حزب شيوعي في مصر، وكان فرعاً من الحركة الوطنية التي ضمت كافة الأجنحة، لتتعدد فروعه بعد إعتراف مصر بالإتحاد السوفيتي بإيعاز من بريطانيا بصفتها شريكاً في التحالف مع موسكو ضد دول المحور، العام 1944.

كانت حركة “ضباط يوليو” محسوبة على الأمريكيين، ثم حدثت قطيعة بين الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، وواشنطن بسبب عدوان إسرائيل على الحامية المصرية في غزة العام 1955، حسبما ذكر رئيس الوزراء الراحل، آرييل شارون، في مذكراته. وعند توجه مصر نحو موسكو، كان الرئيس عبد الناصر “حساساً” تجاه الحزب الشيوعي خشية هيمنة موسكو عليه من الداخل، فحظر الحزب وإصطدم مع نيكيتا خروتشوف.

ثم جاء مشروع السد العالي والمعركة السياسية التي خاضتها مصر مع كل من البنك الدولي وواشنطن، فإرتفعت أسهم موسكو خاصة بعد العام 1967، حيث أعتقد الرأي العام أنها لم تزود الرئيس عبد الناصر بالسلاح لردع إسرائيل فأحرجته، ثم أعتقد أنها فرضت عليه النظام الشيوعي، فيما يعرف بـ “الإتحاد الاشتراكي” و”التنظيم الطليعي” المشابه للحزب الشيوعي، وكذلك القرارات الإشتراكية التي وجد خصوم الرئيس عبد الناصر فيها “ضرباً للإسلام وإتجاها للإلحاد”.

أحدثت مأساة 1967، شعوراً مركباً عند المصريين تجاه موسكو. كان أبرزها الإعجاب بقوة الإتحاد السوفيتي، الذي أعطى إنذاراً، العام 1956، للدول المعتدية الثلاثة وهدد بضرب عواصمها بالصواريخ مما كان له الأثر الكبير في دفع واشنطن وحلفاءها للإنسحاب حتى لا تنفذ موسكو تهديدها وينفجر العالم. الطريف أن الرئيس عبد الناصر لم يكن معجباً بالسوفييت، الذين إصطدم معهم فيما بعد الرئيس أنور السادات بسبب ذلك وغيره؛ مع ذلك، دفع إعلامه الشعوب العربية كلها إلى الشعور بالإمتنان لموسكو.

لكن هزيمة مصر العام 1967، صورها الكاتب الراحل، محمد حسنين هيكل، على أنها كانت هزيمة للسلاح السوفيتي وليست هزيمة للجيش المصري، أي “قمة التضليل”. وبفضله، أعجبت الشعوب العربية بمن يساند العرب وحيث أسمى موسكو بـ “الحليف الطبيعي الصديق” للعرب ولحركة عدم الإنحياز، التي كانت وهماً وقشرة تخفي إنحياز أعضائها للإتحاد السوفيتي وأبرزها الهند مقابل إنحياز باكستان لواشنطن.

كانت الدعاية المعاكسة للإشتراكية سلاحاً في يد السعودية و”الإخوان المسلمين” بحربهم ضد الرئيس عبد الناصر لتأتي نكبة 1967، التي شكلت فرصة للشماتة بسبب صدامه وإجراءاته ضد حركة الإخوان، وكذلك حرب اليمن مع السعودية التي إستفادت من عداء الإخوان للرئيس.

بعد ذلك، نمت العلاقات العسكرية، خلال حرب الإستنزاف و”حرب أكتوبر” بالإضافة إلى مساندة موسكو للجيش المصري وعلاقات ما بين العسكريين المصريين والسوفييت، وشكلت موسكو قُبلة للمنح الدراسية، وأنشئت “أكاديمية ناصر العسكرية العليا” على نسق الأكاديمية السوفيتية، كإطار سياسي وعسكري.

أيضاً، شكلت إنتصارات الجيش في “حرب أكتوبر” نقطة تحسب لموسكو في قلوب المصريين، الذين شعروا بغصة لما حدث في العام 1967. ولا شك أن إتجاه الرئيس السادات صوب إسرائيل وواشنطن كان مفاجئاً وصادماً للشعب والعسكريين المصريين حيث تغيرت عقيدة الجيش ونوعية السلاح إلى أن جاءت صفقة “كامب ديفيد”، التي عارضتها موسكو وساندت جبهة الرفض مع عدد من الدول العربية وإيران.

من هنا، يمكن القول حقيقة أن الشعب المصري صمد في عدائه لإسرائيل، ولم تجرؤ الحكومة المصرية على إرغامه على التطبيع حيث لا يزال هو والجيش والسلطة أيضاً (ربما بشكل غير مباشر) يعتبرون إسرائيل العدو الدائم على الرغم من توقيع إتفاقية السلام، التي لا تلزم مصر بالتطبيع لأنها تعالج ما فات وتضع قواعد للعلاقات المستقبلية وهذا يعتمد على حسابات المصالح لكل طرف.

أما خلال السنوات العشر الأخيرة، إنقسم الشعب المصري تجاه موسكو، فقد لاحظ أنها وقفت ضد “ثورة يناير” و”ثورة سوريا”، وقد يكون السبب في أن التيارات الإسلامية طفت على وجه هذه الثورات، كما أنها حاربت موسكو في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وغيرها، وهو السبب الذي دفع موسكو للتدخل عسكرياً في سوريا. من هنا، إن الذين أيدوا الثورة السورية، ومعظمهم من التيار الإسلامي وضد آل الأسد، إنتقدوا موسكو وتدخلها في سوريا وإرتكابها مذابح بحق السوريين وتقييد إستقلالها والحصول على قواعد عسكرية فيها وإستخدامها كساحة لتصفية الحسابات مع تلك التيارات ومع واشنطن أيضاً.

أما المناصرون للحكومة السورية، فهم يشعرون بالإمتنان للدعم الروسي القوي وحفظ النظام من السقوط؛ بالقطع، إن النظام والعسكريين في مصر من هذا الفريق لكن مع فارق أن النظام يؤازر الحكم السوري ضد التيارات الإسلامية، والذي يشكل هدفاً مشتركاً لكل من روسيا ومصر وسوريا وإيران وحزب الله بالرغم من إعتبار الحكم في مصر حليفاً للسعودية التي تمول الجماعات المسلحة وحليفاً لإسرائيل التي تدرب هذه الجماعات لصالحها.

كذلك، شعر الكثيرون من مؤيدي الحكومة المصرية بالسعادة لقتال المرتزقة الروس بجانب قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، ضد الأتراك في ليبيا، لتضاف إليهم صداقة السيسي – بوتين رغم علاقات الرئيس عبد الفتاح السيسي الحميمة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خاصة وأن الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والسيسي يقفان ضد الأتراك في سوريا وضد التيارات الإسلامية، كلٌ لأسباب تخصه، في وقت يختلف فيه عدد وحجم الدعم للحكومة السورية؛ فموسكو تعهدت بحماية الأجواء السورية، ولكن ليس ضد الهجمات الإسرائيلية.

وهكذا، نجد أن الشعب المصري منقسم حول الموقف من موسكو، وهذا هو الحال في ليبيا. أيضاً، تعتبر موسكو منتقدة في الخليج وعند أنصار حكومة فايز السراج في طرابلس الغرب. أما في تونس، التي تعارض أي تدخل أجنبي في ليبيا، فإنها ضد المرتزقة الروس وكذلك تركيا ومصر والإمارات، المساندين لأطراف الصراع في ليبيا. أما العراق القريب من إيران، فشعور الشعب إيجابي تجاه موسكو.
ختاماً، تلك هي أبرز الإنطباعات العامة عن موقف النُخب والعامة العرب من موسكو، ولكن هذه الإطلالة لا تغني عن إجراء مسح شامل منضبط مع غياب مراكز قياسات الرأي العام في العالم العربي.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: روسيا اليوم – إندبندنت عربية.

موضوع ذا صلة: من سوريا إلى القوقاز.. روسيا تستخلص الدروس