السفير د. عبدالله الأشعل*
ولدت إسرائيل “بيولوجياً” في العام 1948، و لكن أُتيحت لها فرص الحياة بعد إنكسار مصر، في العام 1967 وهو الذي أدى إلى توهم مصر – السادات بأن السلام مع إسرائيل يمكن أن يكون مفتاحاً للسلام في فلسطين على أساس حل الدولتين وكان ذلك انتصاراً للمشروع الصهيوني وبداية لإنتعاشه في مصر والمنطقة بأسرها.
لا شك عندي أن “قرار التقسيم” لم يشبع ولم يحل معضلة الشرعية لدى إسرائيل، التي لم تعترف به كأساس لشرعية وجودها؛ كما أن اعتراف أكثر من 100 دولة بها، لم يحل العقدة لكن اعتراف مصر بها في صفقة السلام – “كامب ديفيد”، في العام 1979، هو الذي حلَّ عقدتها نسبياً حيث أقنعها بالثقة في نفسها التي عبرت عنها أوراق إسرائيلية بأن المنطقة لا تحتمل إثنين، إسرائيل ومصر، في نفس الوقت.
من هنا، تسعى إسرائيل للهيمنة الكاملة على مصر، وبذلك تهيمن على المنطقة كلها ولا يواري أحد، بمن فيهم رئيس وزرائها الراحل آرييل شارون نفسه، بأن مصر “صخرة عاتية” إذا استيقظت. لذلك، لا تزال الأدبيات الإسرائيلية تحتفظ بوصف العدو لمصر – enemy، وليس الخصم وأن الأخيرة نفسها لم تعد تعتبر إسرائيل حتى خصماً أو حتى منافساً بعدما اعتقدت إسرائيل أن مصر أصبحت جزءاً من المشروع الصهيوني وهذا “وهم كبير” يختلط فيه الأمل بالواقع لأن مصر لا يمكن، مهما كانت الظروف والإجراءات، أن تثبت لمدة طويلة على غير حقيقتها، فهي نفسها، وبصرف النظر عن نظام الحكم فيها، تؤمن بالتعايش بين مصر الكبيرة واليهود في كل المنطقة العربية لكنها لم تقبل هذا “الوحش” الصهيوني الذي يرهب أخواتها العربيات وسوف يأتي يوم يعود فيه “المارد” المصري إلى احتضان صغاره وإلى تنظيف المنطقة من رجس الصهاينة وأتباعهم .
إن عضويتها في الأمم المتحدة واحتضان واشنطن لها وتعاطف الغرب مع مشروعها لا يمكن أن يوفر الأمان لليهود في فلسطين لأن إسرائيل تدرك أن اختلال موازين القوى العالمية والإقليمية أمر طبيعي، وأن قوتها العسكرية ومصادر القوة الأخرى لا تشعرها بالأمان لأنها تملك نفسية المغتصب حتى لو سلَّم لها أحد ممثلي أصحاب الحق في فلسطين، فـ “جينات” المنطقة وتربتها تلفظ كل غريب غادر، والتاريخ شاهد على ذلك خصوصاً أن مصر كانت مركز التفاعلات لإحداث هذه النتيجة ولن تستمر طويلاً في غيبوبتها.
لا شك عندي أن مصدر شرعية إسرائيل، الأول، هو الإعتراف المصري بها كصفقة سياسية، لكن اللافت بأن المصريين أنفسهم، منذ أكثر من أربعين عاماً، لم يقتنعوا بها رغم ضغوط أنظمتهم السياسية عليهم المتمثلة في أن إسرائيل هي الدولة الأكبر، وأن مصر قد انسحبت إلى الهامش. أما المصدر الثاني، فهو عدم شرعية نُظم الحكم العربية بنظر إسرائيل نفسها، وهذا هو الذي سهل لها وللولايات المتحدة رسم معادلة البقاء في المنطقة، حيث أصبح بقاء هؤلاء الحكام أو تعيينهم في مناصبهم هو المكافأة لهم للمحافظة على إسرائيل ضد الغضبة الشعبية العربية؛ وهذه أيضاً ليست ضمانه دائمه لأن الشعوب في موجتها الأولى، في العام 2011، ثم التجربة المريرة للقوى المضادة في الثورات اقنعت هذه الشعوب بأن الحكَّام وإسرائيل في سلة واحدة ومعهما الغرب كله بما فيها واشنطن، والخلاص يجب أن يكون من السلة كلها وهذا أمر صعب ولكنه ليس مستحيلاً. من هنا، أدعو المفكرين العرب إلى دراسة تفكيك العلاقة بين إسرائيل وواشنطن والحكام العرب، وإعادة هؤلاء إلى أحضان شعوبهم وأوطانهم فهي أوفر الطرق كلفة، ولكنها تبدو الأصعب ولكن ليس ذلك على الله بعزيز.
بالعودة إلى مصادر الشرعية الحالية لإسرائيل، يمكننا تلخيصها بعدة أمور وهي شرعية ذاتية نابعة من الكذب على النفس ثم نقله على أنه يقين الي الغير، ثم قرار التقسيم والإعتراف الدولي وعضوية المنظمات الدولية، واعتراف مصر، الذي يعادل كل هذه المصادر، ثم المصدر السادس للشرعية وهو القوة العسكرية الداخلية وما يسميه رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، بـ “النصر الحاسم” على العرب، أضافة إلى بدعم واشنطن والغرب، مروراً بإعتراف الفلسطينيين بها وهو هدف تلح عليه إسرائيل دائماً، وصولاً إلى عدم شرعية النظم العربية. لذلك، تحارب إسرائيل الديمقراطية في المنطقة والثورة على الحكام لأنها بذلك تدافع عن بقائها؛ فيوم يعود هؤلاء الحكام إلى شعوبهم ويستمدون شرعيتهم منها، فإن هذا الكيان الصهيوني سوف يذبل ويدخل إلى مخلفات التاريخ العالمي. بالإضافة إلى ما سبق، هناك مصدر أخير وهو الزعم بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأن مهمتها هي نشر الفضائل الديمقراطية بين العرب المتخلفين.
لكن الغريب أن عناصر المشروع الصهيوني في الداخل تحرك كياناً أطلقوا عليه “الدولة الإسرائيلية”، فإنسجم كل من القضاء والحكومة والبرلمان والإعلام مع المشروع وأهدافه وأهمها نظرية إسترجاع فلسطين إلى أصحابها القدامى وهم اليهود وهذه كذبة كبرى، إذ يكفي أن يعود أنصار التطبيع مع هذا الكيان إلى تقرير اليونسكو الذي تضمن نتائج بعثة الحفريات التابعة للمنظمة، ديسمبر/كانون الأول 2016، والذي يشير بشكل قاطع إلى عدم وجود أثار يهودية مطلقاً في مدينة القدس. بذلك، يصبح الإستيلاء عليها وضمها إلى بقية فلسطين المحتلة أمراً طبيعياً عندهم مع أنني لا أفرق بين القدس، رغم قدسيتها، وبقية الأراضي الفلسطينية المغتصبة، فالكل عندي ضحية المشروع الصهيوني وأتباعه في المنطقة.
أخيراً، يبدو من الواضح أن الشرعية الداخلية بين أجهزة هذا الكيان تجسد “اللا شرعية” لهذه الطغمة، ولا يمكن الإستناد عليها كما يفعل بعض السفهاء من العرب بالقول بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، والصحيح أنها أكبر مشروع استيطاني عنصري استعماري في التاريخ.
الخلاصة، إن معضلة الشرعية الدولية تكمن أساساً في اعتراف مصر بإسرائيل، وليس سعى إسرائيل إلى توسيع الإعتراف العربي بها في محاولة، من جانبها، لتحصين ومحاصرة القاهرة والقضاء عليها، ولكنني أقول لهؤلاء وهؤلاء ما قاله شاعرنا العربي القديم عن قريش.
“أيها المشتهى فناء قريش… بيد الله عمرها والفناء”
إن مصر باقية ولن تنتهي حتى لو إنتهى الزمن.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: سبوتنيك – موقع خبير.
موضوع ذا صلة: أسطورة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وفلسطين