6-حرب الشراكة الأميركية السوفياتية والحرب القارية الثالثة
مقدمة
بعد اندحار الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى، انبثق عالم جديد غيَّر مصائر ومصير الشعوب: استولى البلاشفة على الحكم في موسكو وشنوا حرب الشيوعية العالمية(1919 – 1944) لتحرير العالم من الاستبداد والطغيان. مصطفى كمال أتاتورك (1880 – 1938) أسس الجمهورية التركية (29 تشرين 1925) كدولة قومية حديثة بعدما تخلى عن السلطنة وألغى الخلافة (1924). أما التركة العثمانية في بلادنا فقد وُزّعت بين بريطانيا وفرنسا ووُضعت تحت الانتداب لكي تتعلم “الحكم الذاتي”، بريطانيا قامت بتنصيب فيصل ملكاً على عرش العراق (1921 – 1933)، بعد ما طرده غورو من دمشق، وعيّنت أخاه عبد الله أميراً في الأردن (1882 – 1952). فرنسا وظفت أحباءها في بيروت واخترعت لهم السنجق الكبير (1920) وفي دمشق قهر يوسف العظمة في معركة ميسلون، وقسّمت سوريا إلى أربع مناطق. لكن في سياق هذه الأحداث، احتل الجنرال البريطاني اللنبي – Allenby (1861 – 1936) دمشق وجاهر صلاح الدين بقوله: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”! ماذا يعني ذلك البيان؟ إن لم يكن يعني أن احتلال المشرق كان بمثابة الحملة الصليبية التاسعة التي ستتوج بعد اغتصاب فلسطين (1948) وإعلان الكيان الصهيوني بالحملة الصليبية العاشرة التي ما زلنا نعيش تحت نير وطأتها وجورها.
الحرب العالمية الثانية
مع هتلر نبي مسلح وجيوش جرارة تهتف هايل هتلر، وشعب يحترق توقاً لافتراس بولندا وتحرير بروسيا السليبة من براثنها ومع الدكتور كوبلز – Goebbles (1886 – 1945) وزيراً للتنوير والدعاية وناطقاً باسم الأرض والسماوات بالعصمة الهتلرية والعظمة الآرية، رافعاً مشعل ليبنسروم – Lebensraum المجال الحيوي للرايخ، وعالم يرتعد خوفاً من جبروت وعدوانية هتلر من يستطيع أن يقف في وجه الفيوهرر ويوقف فتوحاته؟
أطلق هتلر حربه الخاطفة Blitzkrieg باتجاه الشرق في الفاتح من أيلول 1939: شقطت بولندا في 28/9، زحف على الدنمارك (9 نيسان 1940) واحتل بلجيكا ولكسمبورغ (15 أيار 1940) ثم اتجه غرباً، فاحتل فرنسا (22 حزيران 1940) وابتدع حكومة فيشي Vichy في جنوب فرنسا بقيادة المارشال الفرنسي بيتان Petain (1856 – 1951).
في معمعة الحرب الصاعقة والفتوحات الهتلرية الباهرة باسم الرايخ الثالث المخطط لإدامة ألف عام، انضم وريث الإمبراطورية الرومانية بنيتو موسوليني (15 حزيران 1940) إلى الحرب رافعاً لواء حلمه المعهود Mare Nostrum “البحر بحرنا” وأعلن الحرب على مصر البريطانية من ليبيا التي احتلتها إيطاليا عام 1911، فواجهه الجنرال وافل Wavell (1883 – 1950) بجيش قوامه 36000 جندياً، وخسر الحرب مرحلياً، لكنه عاد إلى الميدان بجند يناهز 120000 فاحتل سيدي براني واستولى على طبرق وبنغازي (كانون الثاني 1941) بعد استسلام جند الدوس.
وأعود إلى المسرح الأوروبي في إطار التحدي والاستجابة:
في عام 1941، تسارعت الأحداث بشكل مخيف وتجلت وقائعها كما يلي:
أولاً، دخلت أميركا في جلجلة الصراع إلى جانب الحلفاء، بقيادة الرئيس روزفلت (1822 – 12 نيسان 1945). خاض روزفلت انتخابات 1940 على قاعدة الحياد والانعزالية لكن بعد سقوط فرنسا (1940) وهزيمة بريطانيا في حرب النروج (11 أيار 1940) أيضاً ضد ألمانيا، الحرب التي دخلتها بريطانيا دفاعاً عن بولندا، أدت إلى استقالة شمبرلين chamberlain وتسلم “المغامر الكبير” تشرتشل (1847 – 1965) سدة الحكم.
استطاع روزفلت بقيادته الحكيمة إقناع الكونغرس الذي كان في طوره الانعزالي، بتمرير قانون الإعارة والتأجير (آذار 1941) لتوفير المساعدات المادية والتسليحية للحلفاء لمحاربة النازية والفاشية. لكن الفاجعة الكبرى التي داهمت أميركا في ذلك العام، كانت العملية اليابانية التي حطمت الأسطول الأميركي في المحيط الهادئ بيرل هاربر Pearl Harbor (7 كانون الأول 1941) وتلى ذلك إعلان ألمانيا الحرب على أميركا بعد ثلاثة أيام.
ثانياً، هاجم هتلر الإتحاد السوفياتي في 22 حزيران 1941، باسم عملية برباروسا Barbarossa التي كانت أكبر وأوسع حملة في تاريخ البشرية وحروبها. تضمنت العملية جيشاً قوامه ثلاثة ملايين ومئتي ألفاً وجبهة امتدت على مدى ثلاثة آلاف وخمسمئة كلم. باختصار شديد: المعركة الفاصلة كانت في ستاليننغراد Stalingrad. وبعد معركة دامت من أيلول 1942 إلى 31 كانون الثاني 1943، استسلم الجنرال فردريك بولوس – Fredrich Paulus (1890 – 1957) القائد الألماني إلى قائد الجيش الأحمر، حورجي زوكوف – Georgi Zhukov (1896 – 1977) وبقي أسي ا رً في الاتحاد السوفياتي إلى عام 1953.
اعتقد أن لا ضرورة للوقوف تقديراً للضحايا لتمجيد البطولات أو تحقيرها على الجانبين: الأرقام تتكلم ببلاغة عن تلك المعركة وغيرها من المعارك وصولاً إلى برلين إذ قدم الاتحاد السوفياتي 27 مليون شهيداً. بينما قدمت ألمانيا في معركة ستاليننغراد Stalingrad وحدها 146000 قتيلاً و90000 أسيراً منهكاً ومريضاً وعاد من هؤلاء إلى ألمانيا ستة آلاف حزيناً ومشوهاً من الحرب.
التسويات الدولية ثلاث: أولاً: مؤتمر طهران 28 تشرين الثاني حتى الأول من كانون الأول 1943، ثانياً: مؤتمر يالطا 4 شباط 1945، وثالثاً: مؤتمر بوستدام postdam 17 تموز – 2 آب 1945. كان أبطال تلك المؤتمرات ستالين، روزفلت وتشرشل.
أولاً، في الغرب كان ستالين معروفاً منذ أمدٍ طويل ومتهماً بالدكتاتورية والسلطوية والتوحش والإرهاب. في مؤتمر طهران اكتشف الغرب ستاليناً آخر متسلحاً بالذكاء والدهاء والابتكار والعلمية، تصوروا ستالين استضاف روزفلت في السفارة السوفياتية في طهران وبقي تشرشل وحيداً في السفارة البريطانية. وعند الظهور في قاعة المؤتمر، قدم روزفلت ستالين إلى تشرتشل Uncle Joe، برجل الثقة والموثوقية بستالين والتقدير والاحت ا رم. وفي المؤتمر، وبعد المؤتمر أكد روزفلت أن الغرب كان قد خسر الحرب بدون تدخل روسيا لحماية الغرب ومصالحه، ستالين طالب بتغييرات جذرية في شرق أوروبا وأهمها عودة بولندا إلى الحضن السوفياتي. وطرح كل من روزفلت وتشرشل تصوره إلى ما بعد الحرب. ستالين كرر الطلب للمرة المليون بفتح جبهة في الغرب وكان روزفلت يوافق وتشرشل يراوغ لأن همه كان حماية الإمبراطورية البريطانية وليس هزيمة هتلر فحسب. انتهى المؤتمر بظهور الشراكة الأمريكية – الروسية وتوطيدها وعلناً.
ثانياً: في مؤتمر يالطا 4 شباط إلى 11 شباط (القرم في الاتحاد السوفياتي) الذي دام أسبوعاً كاملاً،اُتفق على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ وسيطرة، ومناطق لكل دولة عظمى فيها حصة بنسبة 10 .%وكانت المعادلة التي طرحها تشرشل مازحاً أثناء تعثر المحادثات، فانقضّ عليها ستالين مؤيداً. وهي إن الاتحاد السوفياتي له الهيمنة بنسبة 90 % في البلدان التي حررها الجيش الأحمر بقيادة جوكوف ونسبة 10% في المناطق التي حررتها دول الحلفاء. بكلمة، للاتحاد السوفياتي مطلق الصلاحيات في شرق أوروبا والبلقان و10% في جنوب أوروبا. وأضيف إلى تلك المعادلة، إعادة الجزر والأراضي التي فقدتها الامبراطورية الروسية في حربها مع اليابان عام 1904 – 1905 . وفي هذا السياق، لم يطالب ستالين بفتح الجبهة الغربية، لأن إنزال النورمندي (6 حزيرارن 1944) كان قد حرر الجزء الأكبر من فرنسا مع حركات المقاومة التي قادها الحزب الشيوعي الفرنسي. وعاد ديغول إلى باريس وترأس احتفالات التحرير في 5 آب 1944. وفي نهاية المؤتمر، تقرر قبول فرنسا كشريك رابع مع الدول العظمى.
ولمكافأة ستالين في جهوده الجبارة لتحرير أوروبا من النازية والفاشية، طُرح السؤال المحرج: ماذايمكن أن يحدث في حال شيء ما حدث، كوفاة ستالين؟ لذلك بعث روزفلت رسالته الشخصية لستالين التي أكدت فيها “أن الولايات المتحدة لن تقدّم أي دعمٍ من أي نوع، لأيٍ من يريد أن يقوم بعمل يؤذي الاتحاد السوفياتي”!!!.
تسلح ستالين بتلك الرسالة في معاركه مع خلفاء روزفلت في الخمسينيات وما تلاها من معارك الحرب الباردة. لكن الفاجعة التي حدثت في أعقاب مؤتمر يالطا كانت وفاة روزفلت في 12 نيسان 1945 بعد 82 يوماً على مؤتمر يالطا واستيلاء أعداء الاتحاد السوفياتي على السلطة في واشنطن برئاسة هاري ترومن (1884 – 1972). “الرئيس المجتهد والمتوسط الجودة حسب سفير بريطانيا في واشنطن.
ثالثاً: تقع بوستدام Postdam في ألمانيا على مقربة من برلين المهزومة حيث اجتمع الحلفاء المنتصرون الثلاثة بعد نهاية الحرب من (17 تموز إلى 2 آب 1945). حضر المؤتمر ستالين، صاحب العزم والحزم، عن الاتحاد السوفياتي، وترومن القليل الخبرة، خلِف تشرشل، رئيس الوزراء الجديد كليمنت أتلي Clement (1883 – 1967) القائد العمالي المتعاطف مع ستالين.
وافق المؤتمر على كافة البنود في جدول الأعمال بدون نقاش يُذكر:
أولاً: وافق على طرد الألمان من بولندا، تشكوسلوفاكيا والمجر.
ثانياً: تقرر إخماد النازية في كل مكان انطلاقاً من ألمانيا والإعداد لتشكيل حكومات ديمقراطية.
ثالثاً: تم إقرار انحلال العسكرتاريا وتدمير مصانع الأسلحة وتنظيم حكومات محلية منعاً لقيام أحزابمركزية ثانيةً .
رابعاً: أكد، وبدون تردد، حق الحلفاء، الذين قسموا ألمانيا إلى أربع مناطق وفرض تعويضات على ألمانيا كل في منطقته، كما يرى مناسباً، والمناطق الأربعة كانت لروسيا، بريطانيا، أميركا وفرنسا.
خامساً: تبنى المؤتمر بيان بوستدام Postdam لتحذير اليابان وأمرها بالاستسلام بدون شروط وإلغاء الامبراطورية ولم تمضِ بضعة أيام على هذا الإنذار، حتى أعلن ترومن قصف هوروشيما بالقنبلة النووية في 6 آب 1945 ونكازاكي في 9 آب 1945. وبالتالي استسلمت اليابان بدون شروط في 15 آب 1945.
7. أميركا في طور الرايخ الرابع – أميركا نازية جديدة
مقدمة
نجم عن الحرب الأوروبية القارية الثالثة ثلاث ظواهر خارقة هي:
1 .سطوع معسكرين الشيوعي مع الثورة العالمية والرأسمالي مع الثورة المضادة.
2 . صعود حركات التحرر في العالم وتصفية الكولونيالية.
3 . ظهور القنبلة النووية والتكنولوجيا الحديثة وتبعاتها.
ملخص “الحلم الأميركي”:
أميركا في لغة أربلا Arbbla 1630، أميركا المنارة – مدينة على الرابية، وفي لغة المؤرخ بول كيندي: أميركا كانت من البداية “أمة امبريالية – وفي أول مبدأ في السياسة الخارجية: “مبدأ مونرو – Monroe 1823″، أعلن مونرو إن الأميركيات ليست حقولاً للاستيطان الأوروبي، وإن الولايات المتحدة تنظر باستياءلأي تدخل أوروبي في الحياة السياسية للبلدت الأميركية. وتلى ذلك البيان، صياغة “المصير الجلي اوسلفين O’sullivan 1848، وتبعه بيان الرئيس ولسون الذي قمع ثورة المكسيك قائلاً: “أخيراً عرف العالم أن أميركا هي مخلص العالم”. وفي طور الرايخ الرابع كتب استراتجيو أميركا “استراتيجية الطيف الكامل للهيمنة”. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الأحادية القطبية قيل: إن الأمة الأميركية أمة لا يمكن الاستغناء عنها The Indispensable Nation .
لكن عقلاء العالم يقولون بأعلى الصوت: أميركا دولة مارقة تتشدق بشعارات الثورة الفرنسية: “الحرية، المساواة، الأخوة” وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير وتفعل عكس ذلك بالسيف والقلم في جميعأرجاء العالم!
أما بعد، تعرفوا على أميركا
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قال دعاة الحرية أن أميركا قد تحولت بفعل السحر إلى “دولة أمن قومي Transmogrification” يتحكم فيها إدغر هوفر Edgar Hoover(1895 – 1972) بفعالية أو كما يريد، لأنه يمتلك ملفات تضم كل السياسيين والرؤساء وذوي القيمة في كل مجالات الحياة من (1920 – 1972). وذلك كان في عصر طُرح فيه “القرن الأميركي” مقابل “الرجل الاعتيادي”. في هذا السياق سأختصر أميركا في كبسولة:
برنامج الرئيس ترومن للأمن والولاء 1947، الذي تجسّد في المكارثية التي مارسها ريتشارد نيكسون Richard Nixon في الكونغرس والسناتور مكارثي Mecarthy والتي ضمت أربع توجهات:
1. Witch hunt حملة ضد خوارج السلطة والمنشقين عنها.
2. . Eviscerat نزع أحشاء أي إزالةالعضو المعارض.
3. Decimate إجراء قرعة ويُقتل رجل رقم عشرة.
4. Guilt by Association إثم بالمزاملة.
في السلاح: العقل الموجه لاستخدام القنبلة النووية ضد اليابان، الجنرال كرتس ليماي، الذي قال إن أميركا كانت تمتلك 13 قنبلة نووية في وسط عام 1947، وفي عام 1950 كانت تملك300 قنبلة. وبصفته كقائد للقيادة الجوية الاستراتيجية Strategic Air Command، قد أعد مشروع لضربة قاسية وقاضية للاتحاد السوفياتي وقال في دقائق يستطيع أن يسقط 133 قنبلة على الروس يدمرفيها 70 مدينة و40% من الصناعة الروسية ويقتل فيها: 2.700.000 إنسان، وبعد نجاح اختبار القنبلة السوفياتية في 29 آب 1949، تحدث هو وغيره عن إعداد قنبلة هيدروجينية لتدمير العالم.
ترومن: التأسيس للرايخ الرابع
اتّسم عام 1940 في أميركا بالتسيد الانعزالي والحياد في العلاقات الدولية. وكان الرئيس روزفلت المرشح الديمقراطي الرئاسي للدورة الثالثة، يفتش على شريك له في النيابة محارب من أجل الحرية والديمقرارطية لاستكمال توطيد وتعميق “الصفقة الجديدة” التي أرساها روزفلت، لا بل فرضها من 1932 -1945.
وجد روزفلت ضالته المنشودة في وزير الزراعة هنري ولاس Henry Wallace (1888 – 1967) الوزير الذي أطعم جياع أميركا في الثلاثينيات وطوّر الزراعة، وساهم في الازدهار الاقتصادي.
ولكن الأبرز في جاذبية السيد هنري هي تقدميته ومعاداته للنازية والفاشية السائدة آنذاك في العالم الغربي. أما في أميركا فقد كان السيد الوزير نجماً ساطعاً في عالم التنوير والثقافة اليسارية ونشاطاته في الندوات والمؤتمرات المعادية للنازية.
فاز الرئيس في الانتخابات بنسبة مريحة (55%) بوعده للناخبين: “إن الشباب لن يذهبوا إلى الحرب”!.
في الدورة الرابعة (انتخابات تشرين الثاني 1944) كانت أميركا منخرطة في الحرب حتى أذنيها، وكانت قد اتضحت معالم النصر، وخاصة بعد إنزال النورمندي Normandyفي (6 حزيران 1944) شمال فرنسا وافتتاح الجبهة الغربية. في هذه الأجواء، استغنى روزفلت عن نائبه هنري ولاس، وأخذ شريكاً جديداً له، هو السيد السناتور هاري تروس (1884 – 1972). وبعد فترة قصيرة وقعت الجائحة: توفي بطل يالطا في 12 نيسان 1945 بعد 82 يوماً على انتخابه وتسلم ترومن الرئاسة في ذات اليوم.
عام 1945 كان عام نصر الحلفاء والتأسيس لعالم جديد يسوده السلام والوئام، في ظلال الأمم المتحدة، التي تأسست (26 حزيران 1945) لكن أميركا ترومن والمنظومة الحاكمة، في نيويورك واشنطن كان لديها مخطط لفرض الهيمنة على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
في السياسة الدولية، كانت لترومن المشاركة الأولى في مؤتمر بوستدام Postdam (17 تموز –2 آب 1945) مع ستالين ورئيس الوزراء البريطاني الجديد كليمنت أتلي Clement Atlee، الذي فاز في الانتخابات وهزم تشرشل الذي حل مكانه في بوستدام Postdam (وقد أشرت إلى مضمون قرارات المؤتمر في الفقرة السابقة)، ترومن في ذلك المؤتمر لم يشارك بفعالية، ولم يكترث بمقرراته، لأنه كان ينتظر نتائج اختبار القنبلة النووية: جاءته أخبار نجاح الاختبار أثناء المؤتمر، فهرع عائداً إلى واشنطن لكي يُصدر أوامر قصف هي روشيما ( 6 آب) ونكازاكي (9 آب) لأجل “إنقاذ حياة الأميركيتين” To Save American Life .
القنبلة النووية كانت الرمز الأميركي للتفوق في السلاح، الرمز الذي سيفرض على العالم قاطبة الرؤية الأميركية في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.
الرئيس ترومن، هتلر أميركي
بعد وفاة روزفلت تصارعت في أميركا رؤيتان في مجال العلاقات الدولية والمحلية. الرؤية الأولى تمثلت في وزير التجارة في حكومة ترومن، التقدمي هنري ولاس، الذي ابتغى استمرارية الشراكة الأميركية السوفياتية وترجمتها في عصر عالمي من أجل “الرجل الاعتيادي (The common man ). وقدّم تصميماً أو مخططاً من أجل تحقيق ذلك، الرؤية الثانية قدمها هنري لوس Henry Luce (1898 – 1967) ناشر مجلة تايم، كناطق باسم شارع المال والمنظومة الحاكمة التي انتصرت ودعته “القرن أميركي” من أجل عالم تهيمن فيه أميركا وتنشر رأسماليتها “الليبرالية”.
الاختبار الأول في الصراع حصل عندما ألغى ترومن قانون الإعارة والتأجير مع الاتحاد السوفياتي، وتلاه مقولة تشرشل في إسقاط “الستار الحديدي” على أوروبا للفصل بين الشرق الشيوعي والغرب الديمقراطي (1946) وإعلان الحرب الباردة. الاختبار الثاني، جاء كمفاجئة لترومن، وتُرجم كتخلي لبريطانيا عن حماية اليونان حيث كان الحزب الشيوعي على وشك الاستيلاء على السلطة. لذلك أقدم ترومن على ملء الفراغ وقدم 400 مليون دولار لليونان وتركيا التي كانت تعاني من انتفاضة الكرد فبلور مشروعه في مبدأ ترومن لمحاربة الشيوعية والانفصاليين مبدأ ترومان ( Truman Doctrine ).
المبدأ وفّر لترومن منصة للدعاية الأميركية وخيريتها الإنسانية، وقاعدة للتمدد إلى المشرق العربي والخليج. وتالياً، للاعتراف الأميركي بالكيان الصهيوني بعد إحدى عشر دقيقة على إعلانه في 15 أيار 1948. بكلمة تراجعت بريطانيا عن مسؤولياتها الامبراطورية في ظل حكومة العمال بقيادة أتلي (1945 – 1951) وتقدمت أميركا للاستيلاء التدريجي على المنطقة حتى استولت نهائياً على بلدان النفط وتعهدت بحماية إس ا رئيل بدون منازع.
إزاء تلك التحولات المتسارعة في زمن الأحادية القطبية (1945 – 1948) لأميركا، لم يكن داخلياً أي مناوئ لترومن سوى هنري ولاس الذي اتهم ترومن بخيانة مشروع روزفلت وتخليه عن “الرجل الاعتيادي” فطرده من وزارة التجارة في 12 أيلول 1946. عندها شكل ولاس مع أنصاره وأصدقائه الحزب التقدمي الأميركي بغية تحدي ترومن في انتخابات 1948. هُزم ولاس وانتصر ترومن ولم يبق في أميركا صوت واحد معارض أميركي.
في الولاية الجديدة، تفرغ ترومن لإنجاز الركيزة الثانية لمشروعه الأميريالي، فطرح مشروع مارشال (47 –52) لإعادة إعمار أورربا بقيادة الجنرال جورج مارشال (1880 – 1959) القائد للقوات المسلحة منذ عام 1939، والذي كان له دور مؤثر في الحرب بنسج علاقات طيبة مع الحلفاء.
أُعلن المشروع في 5 حزيران 1947، وكان الهدف منه إعادة إعمار أوروبا، وبعد المفاوضات، رفض ستالين المشاركة في المشروع لأنه اشترط شراء احتياجات أوروبا من أميركا مباشرة. لذلك اقتصر المشروع في 1948 على دفع المبالغ التالية: بريطانيا 3.2 مليارات، فرنسا 2.7 مليارات، إيطاليا 1.5 مليار، ألمانيا 1.4 مليار، أي ما مجموعه 13.2 مليار! المبلغ بمقاييس عصرنا مبلغ ضئيل، لكن قيمته لا تكمن بالعملة، بل بالتشابك الاقتصادي الأميركي الأوروبي. المساهمة في تقسيم أوروبا ما بعد الحرب على الطريقة الأميركية، والنفخ في معاداة الاتحاد السوفياتي والشيوعية.
بعد إخضاع أوروبا الغربية للدمج الاقتصادي الأميركي، انتقلت الولايات المتحدة لتشكيل عالم اقتصادي على صورتها الرأسمالية. باختصار، بريتون وودز Bretton Woods (1944), استولدت:
1 . البنك الدولي للإعمار ووفرت له 7.6 مليا ا رت.
2. صندوق النقد الدولي 7.3 مليارات.
3 . ولاحقاً، منظمة التجارة العالمية التي حددت معايير الانخراط فيها على أساس النيوليبرالية الصاعدة.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد السوفياتي شارك في المفاوضات ولم يجارِ أميركا في اختياتها لأن أدواتها ليست سوى فروع لشارع المال المسيطر على دورة المال العالمي وول ستريت.
التحولات المفصلية في ولاية ترومن 1948 – 1952
تربع ترومن على رأس الهرم الأميركي للسلطة على يقين بأبدية الأحادية القطبية الأميركية في قبضته. تفرغ عندها للإمساك بقيادة الغرب بالعسكر، بالإضافة إلى السياسة والاقتصاد، وقد تطرقت إلى هذين الحقلين.
أميركا في المفهوم السلطوي الأميركي، تعتبر أنه قد حررت أوروبا من النازية والفاشية، وبالتالي إن من حقها تحويل التحرير إلى بقاء دائم لجيوشها عوضاً من الانسحاب والعودة إلى الحصن المنيع وراء المحيط. لذلك قررت قيام الحلف الأطلسي NATO)) في 4 نيسان 1949، لحماية مكاسبها وتعزيز احتلالها لأوروبا وأمركتها على الطريقة الرومانية بدعوة نشر الديمقراطية والقيم الكونية الأميركية. وفي هذا السياق، اخترعت أكبر كذبة في العلاقات الدولية، بغية تجنيد وتجييش وتحشيد الشعوب الأوروبية في خدمة مصالحها. الكذبة تمثلت في أن الاتحاد السوفياتي يستطيع احتلال أوروبا خلال 48 ساعة في غياب الجيوش الأميركية عن المنطقة. للأسف، ابتاعت أوروبا الفكرة طوعاً أو إكراهاً علماً أن أي مطّلع ساذج على الأحداث يدرك تماماً ويعرف أن الاتحاد السوفياتي لم يكن لديه لا الجند ولا السلاح ولا المال ولا الإرادة والطموح لإنفاذ قرار من هذا الشأن. والسبب هو أن الاتحاد السوفياتي كان منهمكاً في إعادة الإعمار والتخلص من الدمار العام وكان قد فقد 27 مليون شهيد في الدفاع عن الوطن السوفياتي ومحاربة النازية والفاشية. بكلمة، الاتحاد السوفياتي لم يشكل خطراً محدقاً على أوروبا ونهضتها وانبعاثها مجدداً. وكان جنده من الأحزاب الشيوعية يشارك في حكومات الجبهات الوطنية في فرنسا وإيطاليا ولم تحاول تلك الأحزاب الإطاحة بتلك الدول. لكن “الخطر الأحمر” الذي ابتدعته أميركا حسم أمر احتلاله لأوروبا ونبذ سياسة الانكفاء والعودة إلى الديار الأميركية.
لكن الحدث الثاني الذي زعزع العالم في عام 1949، هو التفجير السوفياتي البروليتاري للقنبلة النووية في 29 آب الذي أسقط الأحادية القطبية الأميركية وفرض احترامه على العالم بعدما كان الغرب وعلى رأسه أميركا ينظرون بازدراء إلى العقل البروليتاري المتخلف والمتحجر. باختصار، بدأ عصر الثنائية القطبية الذي أرعب ذوي النزعات العدائية للثورة والاشتراكية واستمر الأمر على هذا المنوال، حتى انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991 واستعادت أميركا هيمنة القطب الواحد الذي توَّجته بالتمدد إلى شرق أوروبا وبلدان البلقان فأمست أميركا نازية فاضحة في قرنها الثاني للإمبراطورية.
وخاصة بعد تدمير العراق وسوريا وليبيا والانسحاب المخزي من أفغانستان الذي سيليه هزائم عديدة في مشرقنا.
أما الحدث الذي أشعل حروب التحرير في آسيا وأفريقيا أوميركا اللاتينية، وبعث الأمل في النفوس وفتح آفاقاً جديدة للنهوض القومي، فكان في تحرير الصين من الكمبرادور وإعلان الجمهورية الشعبية الصينية بقيادة الرفيق ماو تسي تونغ. والسؤال التاريخي: هل كان يمكن تحرير الجزائر الفرنسية من براثن الأخطبوط الفرنسي بدون سلسلة الثورات التي اجتاحت فييتنام وكوبا وغيرها؟
الحرب الكورية والتقسيم
وبالعودة إلى إدارة ترومن الذي اعترف بالازدراع الصهيوني في فلسطين، لأن يهود أميركا انتخبوه، وقد ضم إلى رايخه الشرق العربي والخليج، بقي أن يشن حرباً في كوريا لانتشار الرايخ الرابع واستكمال التأسيس من اليابان إلى كوريا والمحيط الهادئ. لذلك استنجد بقرارات مؤتمر القاهرة (1943) التي أسست لحق كوريا بالاستقلال والسيادة بعد تحريرها من الاستعمار الياباني بالاتفاق بين الولايات المتحدة وبريطانيا والصين.
في هذا السياق، يجب التذكير بأن الاتحاد السوفياتي، كما اتفق في بوستدام، هاجم اليابان في 8 آب 1945، وبعد استسلام اليابان، توجه الجيش الأحمر نحو شمال كوريا التي حررها كيم إيل سونغ Kim il sung وفق الاتفاق بين السوفيات والأميركان وبريطانيا (27/ 12/ 1945).
لكن ري سيغنان Rhee Syngnan الأميركي، خلافاً للاتفاقات أعلن برعاية أميركية استقلال الجنوب في 5 آب 1948. ولحق به كيم Kim في الشمال وأعلن الاستقلال في 9 أيلول 1948 . وكان كل من كيم وري يتطلع إلى استقلال كوريا تحت إمرته. استمرت الحرب أو التوتر حتى في نهاية المطاف، أعلن كيم حرب تحرير كوريا في 25 حزيران 1950 بالكامل وهزم ري .آنذاك استغلت أميركا غياب السفير السوفياتي للأمم المتحدة، وفرضت إصدار قرار باسم الأمم المتحدة لتحرير كوريا من الاحتلال السوفياتي، وكلفت الجنرال دوغلاس ماك أرثر Douglas MacArthur بقيادة جيوش الأمم المتحدة للدول الـ 16 التي شاركت في الحرب، وعلى أ رسها الدول الأنكلوسكسون الخمسة: الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا، أوستراليا ونيوزيلاندا. تمادى ماك أرثر وهدد باستخدام القنبلة النووية لهزيمة الصين. تدخل ترومن وفصل ماك أرثر 1951 واستمرت الحرب حتى 1953 عندما أنجزت الهدنة ورحل ترومن.
سياسة الاحتواء وتصدعها
إزاء تلك التحولات الكبرى: إنشاء الحلف الأطلسي وقيام العسكرتاريا الغربية، وتفجير القنبلة السوفياتية وردع أميركا، وإعلان الثورة الصينية كقطب أسيوي يتحدى جبروت الغرب وبالتالي، يخلق اصطفافات جديدة لمواجهة الغرب وأحابيله. السؤال: كيف يمكن احتواء هذه التحولات وتجييرها لصالح الغرب؟ تمخضت عن العقل الغربي نظرية الاحتواء التي صاغها جورج كينن Kennan عام 1949 .
افترض دعاة الاحتواء، أن الاتحاد السوفياتي إمبراطورية توسعية استبدادية يجب احتواؤها بالتطويق لحرمانها من التوسع وبالتالي، يطلق الانفجار الداخلي الذي يفكك الاتحاد السوفياتي ويزعزع استعماره في شرق أوروبا والعالم. وعليه، نظّمت أميركا وحلفاؤها 44 معاهدة دفاعية حول العالم بتسميات متعددة ومنها الأحلاف التي ما زال العالم ينتفض ضدها. ورغم تلك الأحلاف اخترق الاتحاد السوفياتي التطويق وأسقط سياسة الاحتواء. وأسطع مثل على ذلك، أزمة الصواريخ التي وقعت في أكتوبر 1962.
المسألة بإيجاز هي: أن الولايات المتحدة بقيادة وكالة الإستخبارات الأميركية CIA نظمت محاولة لإسقاط الرئيس كاسترو في معركة خليج الخنازير (نيسان 1961) وفشلت في تحقيق المهمة. وبالتالي، قرر الرئيس غوروتشوف Khrushchev (1894 – 1971) تحدي أميركا بوضع صواريخ قد تكون نووية في كوبا التي تبعد 95 ميلاً فقط عن أميركا. إهتنز كيندي (1916 – 22 تشرين الثاني 1963). وبعد أسبوع من التهديدات توصل القائدان الروسي والأميركي إلى تسوية، مفادها تخلي أميركا عن إسقاط النظام مقابل سحب الصواريخ من الجزيرة. النتيجة: أميركا احتفلت بالنصر المبين والسوفيات احتلفوا بالاختراق، فتوطدت قيادة كاسترو البطل التاريخي العالمي، مع رفيقه تشي غيفارا الثوري الأممي الذي استشهد في بوليفيا (9 أكتوبر 1967) دفاعاً عن سيادة فقراء العالم!
مصدر الصور: AP – روسيا بالعربية – GETTY – إندبندنت عربية – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: أوروبا: الجزيرة الكونية وحروبها القارية الأربع (5/1)
د. جورج حجار
رئيس منتدى العروبة للدراسات الاشتراكية – لبنان