ناجي ملاعب*

حسابات القوى الإقليمية.. ومصالح الدول الكبرى

 أولاً – مصر و”منتدى غاز شرق المتوسط”

تطور قطاع النفط والغاز المصري خلال السنوات القليلة الماضية بسرعة اكتشافاً وتسويقاً، وتم ربطه بإتفاقات عدة مع دول في حوض البحر الأبيض المتوسط من بينها إسرائيل، وتخطط مصر إقتصادياً للإستغناء عن استيراد مشتقات الطاقة ورفع نسب النمو الإقتصادي لتوازي أو تظل متفوقة على نسبة الزيادة السكانية، ولأن تكون مركزاً إقليمياً ودولياً لتجارة الطاقة في البحر المتوسط، ومنافسة تركيا وباقي الدول على المكانة والدور على مستوى المنطقة. ولذلك ترى القاهرة في قطاع الطاقة عامة وحقل “ظُهْر” الغازي خاصة بارقة أمل للخروج من شرنقة الإستدانة والعجز المالي.

لقد عرفت السنوات الأربع الأخيرة تقارباً مصرياً يونانياً قبرصياً تبلور في حزمة من الإتفاقات، ومذكرات التفاهم التي وقعتها الدول الثلاث، كان أبرزها إتفاقية ترسيم الحدود التي أتاحت الفرصة أمام مصر لتنفيذ أعمال تنقيب عن الغاز أحادية الجانب في شرق المتوسط، وما تمخض عنها من اكتشافات في مجال الغاز الطبيعي.

وأعلنت مصر، في 14 يناير/كانون الثاني (2019)، إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” مقره القاهرة، وهو سوق غاز إقليمي يهدف “لخدمة مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب”، وهو يضم 7 دول هي: إسرائيل والأردن واليونان وقبرص والسلطة الفلسطينية ومصر وإيطاليا، وهو ما يشعل المنافسة مع تركيا وروسيا، وباقي دول حوض المتوسط، لا سيما أن قبرص اليونانية، العضو في المنتدى، تواجه ممانعة تركيا العمل في مياهها الإقليمية (كما أسلفنا آنفاً). كما يتزامن إطلاق المنتدى مع المراحل الختامية من مشروعي روسيا لإمدادات الغاز: “السيل الشمالي” باتجاه ألمانيا و”السيل الجنوبي” بإتجاه تركيا، ومنهما إلى المستهلك الأوروبي.(2)

“منتدى غاز شرق المتوسط” يأتي ضمن سلسلة من المواقف أحادية الجانب التي تتخذها دول مؤسسة في هذا المنتدى الجديد، تستبعد من خلالها تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية ولبنان وسوريا من اتفاقيات وترسيمات حدودية، متعلقة بإستغلال الثروات الطبيعية الموجودة في هذه المنطقة، ومعظمها من الغاز الطبيعي، وسط تمسك كافة الأطراف بحفظ حقوقها في المنطقة المتنازع عليها، الأمر الذي يهدد بخلق نزاعات جديدة.(3)

ثانياً – كباش دولي.. ولبنان وسوريا في المواجهة

يسعى لبنان إلى استئناف ضخ الغاز المصري الذي توقف أيضاً إثر عمليات التفجير في سيناء، والذي وقع عقده مع القاهرة عام 2009، ريثما تبدأ عمليات التنقيب واستخراج النفط والغاز التي سوف تحل تدريجياً محل مستورداته من النفط والغاز، وفي مرحلة تالية الإفادة من عائدات البيع. في هذا السياق، يمكن لنا تلمس جهود الدول الإقليمية والدولية المنافسة للولايات المتحدة وتوجهاتها في المنطقة، فـ “منتدى غاز شرق المتوسط” هو تحالف تجاري بين دول يهدف، فيما يهدف إليه، لخدمة رؤية واشنطن في محاولة تخفيف اعتماد أوروبا على روسيا في إمدادها بالنفط والغاز، فيما ستسعى الصين وروسيا وإيران وباقي دول الحوض المتضررة من هذا التحالف إلى إفشال احتكار الطاقة في المتوسط بيد مصر، وذلك يحتاج إلى تسخير هذه الدول قدراتها واستثمار شركاتها النفطية بمليارات الدولارات في هذا القطاع، وستجد في لبنان وسوريا، وهما خارج المنتدى، منصة مواجهة بوجود فرصة للتعاون معهما في هذا القطاع وامتداداً إلى التواجد السياسي، فسوريا لديها كميات جيدة من النفط والغاز بمحاذاة شواطئها الجنوبية قبالة بانياس وطرطوس وكميات كبيرة في عمقها البري الشمالي الشرقي، فيما لبنان يحتاج إلى ظهير سياسي لمواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية لإتمام خطوات استخراج ثرواته.(4)

لقد عبر الرئيس التنفيذي لأكبر شركات النفط الروسية “روس نفط”، إيغور سيتشين، بأن عقد تأهيل وتوسعة محطة تخزين منتجات نفطية في طرابلس شمال لبنان لمدة عشرين سنة، وهو عقد بسيط مقارنة بإهتمامات الشركة ومشاريعها، له بعد يتعلق “بالتوجهات الإستراتيجية لتطوير الشركة” و”بتعزيز وجودها في المنطقة”، و”بتطوير التجارة الدولية للشركة”، وأنه يتطلع إلى “توسيع التعاون مع لبنان وتنفيذ عدد من المشاريع المحتملة الأخرى في قطاع النفط والغاز في هذا البلد.”(5)

ونظرة عامة على أعمال الشركة في المنطقة، تعطينا فكرة عن ضخامة نشاطاتها، وهي بالأصل نشاطات مخططة وموجهة، لذلك، يعتبر الكاتب الأميركي سايمون هاندرسون، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أنه “على الرغم من أن مشاركة موسكو في أنشطة الطاقة البحرية السورية تأتي ظاهرياً ضمن إطارات فنية وتجارية، إلا أنه لن ينظر إليها على أنها حسنة النية. وسوف تلبي هذه الأنشطة مصلحة أصيلة لروسيا”.(6)

من المتوقع أن يشتد الكباش حول لبنان في القطاع الغازي والنفطي بين الدول الكبرى، كلما تقدم في إنجاز برنامجه الزمني لإستخراج النفط، وسيبدو كحمل ضعيف ولد للتو وسط جماعة أسود، باعتبار أن سوريا قد سلكت ضمن النفوذ الروسي بعد موافقة الرئيس السوري، بشار الأسد، في كانون الأول 2013، منح روسيا امتياز التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية لمدة 25 عاماً، وبتمويل روسي.(7)

وأشارت دراسة “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب، إلى أن حل النزاع مع لبنان “لن يغير وضع إسرائيل في مجال تزويد الغاز الطبيعي، سواء لداخل إسرائيل أو إلى خارجها (السلطة الفلسطينية والأردن ومصر). ومن الجهة الأخرى، فإن لحل النزاع مع لبنان تبعات في المستوى الإستراتيجي مقابل لبنان وأيضاً في السياق الإقليمي. والسؤال المركزي (وفق رؤية المعهد) هو: هل سيشكل التوصل إلى اتفاق حافزا بالنسبة لحزب الله للحفاظ على تهدئة على طول الحدود مع إسرائيل؟”(8)

ثالثاً: النفط والغاز السوري في الحضن الروسي

في 25 كانون الأول/ديسمبر 2013 تم التوقيع على اتفاق بين روسيا وسوريا يسمح بالتنقيب والحفر في منطقة قبالة الساحل السوري. وإذا تم اكتشاف النفط أو الغاز الطبيعي، فإن المجموعة الروسية “سيوزنفتا غاز” التي تسيطر عليها الدولة سوف تمتلك حصة مسيطرة لمدة خمسة وعشرين عاماً. ولا تذكر التقارير قيمة ما دفعته الشركة مقابل الرخصة، كما لا تشير إلى ما إذا كان قد تم تقديم أي عروض منافسة أخرى. وقالت وكالة الأنباء السورية إن “سيوزنفتا غاز” سوف تستثمر 15 مليون دولار لتغطية تكاليف الدراسات المسحية و75 مليون دولار أخرى لأعمال الحفر الأولية. وهذا الإمتياز هو الأول الذي يتم التوقيع عليه ويتعلق بالمناطق البحرية الواقعة قبالة ساحل سوريا على البحر الأبيض المتوسط.

ويمكن أن يؤدي الاتفاق الموقع بين روسيا وسوريا إلى تفاقم التوترات الإقليمية المتوترة بالفعل المرتبطة بالغاز الطبيعي البحري، إلى جانب إدخال عامل جديد في سياسات مفاوضات السلام السورية. إذ أن لكل من إسرائيل ولبنان مزاعم متعارضة بشأن موقع حدودهما البحرية.

وتفيد التقارير بأن الإتفاقية الجديدة بين روسيا وسوريا تتعلق بمنطقة تبلغ مساحتها 845 ميلاً بحرياً مربعاً وهي جزء من منطقة “البلوك 2” الأكبر، التي تقع تقريباً بين مينائي بانياس وطرطوس السوريين. ولم تتوصل سوريا إلى اتفاقات بشأن حدودها البحرية مع جيرانها – قبرص وتركيا ولبنان – لكن “البلوك 2” لا يجاور في الجنوب ما يمكن أن تعتبره لبنان مياهها كما أنه غير متاخم للساحل التركي في الشمال. ومع ذلك، فإن المنطقة قد تتعارض مع المزاعم التركية بشأن قبرص، والتي لا تعتبرها أنقرة أكثر من كونها مياه إقليمية تمتد اثني عشر ميلاً بحرياً من الساحل.(9)

من المرجح أن ترى واشنطن أن المشاركة الروسية في تطورات الطاقة البحرية في سوريا غير مجدية. لقد كانت السياسة الأمريكية تقوم على تشجيع تطورات الطاقة في المياه الواقعة قبالة ساحل إسرائيل وقطاع غزة (حيث تمتلك السلطة الفلسطينية في رام الله حقل غاز غير مستغل) وقبرص ولبنان. وقد بذلت واشنطن الكثير من الجهود الدبلوماسية لتخفيف حدة النزاعات المحتملة، على الرغم من إرجاء أعمال التنقيب البحرية في لبنان، وهي القضية الأكثر إثارة للنزاع حتى الآن، بسبب غياب اتفاق سياسي داخلي في بيروت.

وعلى الرغم من أن مشاركة موسكو في أنشطة الطاقة البحرية السورية تأتي ظاهرياً ضمن إطارات فنية وتجارية، إلا أنه لن ينظر إليها على أنها حسنة النية. وسوف تلبي هذه الأنشطة مصلحة أصيلة لروسيا، فضلاً عن أنها ستجعل التوصل إلى حل للحرب الأهلية السورية أكثر صعوبة. إن اكتشافات الغاز الطبيعي في شرقي البحر الأبيض المتوسط، والتي تعد كبيرة من المنظور الإقليمي رغم كونها صغيرة من المنظور الدولي، لا تزال قادرة على تقويض الوضع المهيمن لروسيا كمورد للغاز الطبيعي إلى غرب أوروبا.(10)

رابعاً – إسرائيل

تساعد الإكتشافات المتزايدة للغاز إسرائيل على الإنعتاق من الإعتماد الذي كان قائماً على مصر كما تسد فجوة كبيرة في قطاع الطاقة لديها، ولا تكتفي بذلك فقط، فالغاز في الحسابات الإسرائيلية تحول إلى رافعة سياسية وأمنية، وإلى سلاح سياسي فعال لتحقيق التطبيع مع عدد من الدول العربية في الجوار الإقليمي ولا سيما مصر والسلطة الوطنية الفلسطينية والأردن. الإستعدادات لإستخراج الغاز من حقليها الرئيسيين، Leviathan و Tamar، قد وصلت بالفعل إلى مراحل متقدمة. للتذكير، فقد كان تمار أكبر اكتشاف للغاز الطبيعي في العالم في العام 2009، وبدأت المبيعات من الحقل في عام 2013، بعد أربع سنوات فقط من اكتشافه. تم اكتشاف Leviathan، في ديسمبر/كانون الأول 2010، وهو يمثل أكبر نجاح في الإستكشاف، حيث بلغ إجمالي موارده 22 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.(11)

بعد موافقة محكمة العدل العليا في إسرائيل على قرار حكومي بتصدير 40% من اكتشافات الغاز البحري في البلاد، تنظر إسرائيل في مجموعة من خيارات التصدير على أساس أن الغاز يعد لعبة تغييرية تؤكد على حتمية الإقتصاد الكلي والمواقف الجيوسياسية. وفي هذا السياق، تعطى هذه الأولوية للأردن لأن اضطرابات واردات الطاقة من مصر أثرت على الميزانية العامة للمملكة وحيزها المالي لتحقيق أهداف التنمية الأوسع نطاقاً.

إسرائيل – الأردن

 تندرج مبيعات الغاز الإسرائيلي للأردن ضمن إستراتيجية عمان الواسعة للتغيير التغيري في إمدادات الطاقة، بما في ذلك تنويع واردات الغاز الطبيعي من مصادر بديلة في المنطقة. وقعت “نوبل إنيرجي”، المستثمر الأجنبي الكبير في حقول إسرائيل، عقداً بقيمة 500 مليون دولار لتزويد 66 مليار قدم مكعب من الغاز من حقل تمار الإسرائيلي إلى شركة البوتاس العربية في الأردن وفرعها برومين الأردن. ووقع نوبل وديليك شريكان في شركة ليفاثان أيضاً خطاب نوايا غير ملزم مع شركة الكهرباء الوطنية الأردنية، التي ستعمل كمشتري للغاز، لتزويد 1.6 تريليون قدم مكعب على مدار خمسة عشر عاماً.(12) وتركز المشروعات الأخرى التي تم التحقيق فيها على إنشاء خط أنابيب بطول 25 كلم يربط شمال إسرائيل بشمال الأردن، مما يسهل توريد الغاز الطبيعي إلى مصانع التصنيع الأردنية الرئيسية.

عندما يتعلق الأمر بالجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية، تدور النقاشات حول السيطرة الفلسطينية على قطاع الطاقة في الضفة الغربية من خلال تنفيذ صفقة موقعة بين شركاء ليفياثان وشركة فلسطين لتوليد الطاقة، والتي تتوقع شراء ما قيمته 1.2 مليار دولار من المواد الطبيعية الإسرائيلية، الغاز، على مدى فترة 20 عاماً.(13) لكي يتم شحن الغاز إلى محطة توليد الكهرباء الفلسطينية في جنين، والتي ستسمح للفلسطينيين بإنتاج الكهرباء الخاصة بهم وخلق فرص العمل في الضفة الغربية، يجب أن يتحقق بناء خط أنابيب للغاز بطول 10 كلم من شمال إسرائيل. لكنها لا تزال معلقة بسبب الإفتقار إلى الإرادة السياسية.

إسرائيل – مصر

 إن سياسة الطاقة الإسرائيلية تجاه مصر لها بعد مزدوج؛ فمن ناحية، تركز الشركة على بيع الغاز من حقول ليفياثان وتمار، ومن الجانب الآخر، فهي تبحث في استخدام منشآت الغاز الطبيعي المسال في مصر كمحطات تصدير للوصول إلى أسواق مثل أوروبا وآسيا.

وبالتالي، أصبحت خطوط الأنابيب من احتياطيات إسرائيل من الغاز إلى مصر للتسييل وإعادة التصدير خياراً حقيقياً، مع الأخذ في الإعتبار المسافة القريبة بين السواحل المصرية والإسرائيلية. إن خيار نقل الغاز الإسرائيلي إلى مصر هو إما عن طريق عكس التدفق في خط أنابيب التصدير المصري الذي يعبر سيناء أو بناء خط أنابيب جديد تحت سطح البحر، وهو محترم باعتباره قابلاً للتطبيق ليس فقط بسبب الإتاوات والعائدات التي ستجمعها إسرائيل ولكن أيضاً بسبب التأثير الإيجابي المحتمل على العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل.

لقد وقع الشركاء في حقل تمار الإسرائيلي بالفعل خطاب نوايا غير ملزم لتصدير ما يصل إلى 2.5 تريليون قدم مكعب من الغاز على مدار 15 عاماً عبر مصنع دمياط للغاز الطبيعي المسال في مصر الذي تديره شركة يونيون فينوسا غاز، وهي مشروع مشترك بين شركة الغاز الطبيعي الإسبانية وشركة إيني الإيطالية.(14) وبالمثل، توصل شركاء Leviathan إلى اتفاق مبدئي مع شركة British Gas – BG، وهي شركة نفط وغاز بريطانية، للتفاوض على صفقة لتصدير الغاز إلى مصنع BG للغاز الطبيعي المسال في Idku (شمال مصر) عبر خط أنابيب جديد تحت سطح البحر.

إسرائيل – تركيا

 خيار آخر للتصدير إلى الجيران المباشرين يشمل خط أنابيب تحت سطح البحر من حقل ليفياثان في إسرائيل إلى تركيا، لكن هذا يعتبر حالياً غير قابل للإستمرار من الناحية السياسية. هناك إجماع واسع النطاق في إسرائيل على أنه بدون تحقيق مصالحة سياسية بين البلدين، فإن أي تقدم في اتفاقية التصدير يظل بعيداً. على وجه التحديد، على الرغم من أن المشروع يميل إلى الشركات الخاصة لأن إنشاء خط أنابيب بطول 480 كلم سيكون رخيصاً(15)، تبدو إسرائيل حذرة في إسناد أغلى مواردها إلى تركيا الإسلامية بسبب احتمال أن تلوح القيادة التركية ببطاقة الغاز في وجه إسرائيل في أوقات الأزمات السياسية مما يجعل إسرائيل رهينة لتركيا.

أوروبا: الرحلة المستمرة للعطش إلى الطاقة

كانت القارة الأوروبية دائماً متعطشة للطاقة وقليلة الطاقة. وقد أثرت هذه العلامة المميزة للإتحاد الأوروبي على العلاقات الخارجية للكتلة، وكذلك على التشنجات الداخلية (داخل الدول الأعضاء)، وتشكيل مجموعة تصويت المجلس وروابط الولاءات غير الشفافة، المباشرة والضمنية، مع شركات الطاقة. وبينما تم تبني الإعتماد على مورد واحد بشكل علني، فإن سيناريوهات للتنويع بعيداً عن هذا الإعتماد الحصري، قد تم تطويرها على عجل، من دون تقييم طبيعي هيكلي أو اقتصادي أو جيوسياسي مناسب.(16)

وأكدت إستراتيجية أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي، لعام 2015، بوضوح على أهمية تنويع أوروبا لمصادر الطاقة وطرقها. لقد تبنت أوروبا الغاز بشكل واضح كجزء من سياستها الخاصة بتغير المناخ وكوسيلة مهمة للوفاء بالتزامات COP21، وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن يزداد الطلب على الطاقة، إلا أن الطلب على الغاز سيزداد بسبب تحول الفحم إلى الغاز وتناقص موارد الغاز المحلية في بحر الشمال. تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يستورد الإتحاد حوالي 70 مليار متر مكعب من الغاز بحلول العام 2020. وفي هذا السياق، ينظر إلى حوض المشرق على أنه أساسي لتطلعاتنا في مجال أمن الطاقة، ولكن أيضاً كمحرك للإستقرار الإقليمي في منطقة مجاورة للإتحاد الأوروبي .

هل يمكن لوعود اكتشافات غاز شرق المتوسط ​​مساعدة المنطقة على التغلب على التوترات والحساسيات التاريخية؟ هل ستخفف أوروبا من مشاكل الإعتماد على الطاقة وتأمين إمدادات جديدة وطرق جديدة لتشغيل نظام الطاقة المتعطش للغاز؟ ما مدى سهولة إعادة توجيه شركات الطاقة الكبرى لإستثمارات مهمة لإستغلال الإحتياطيات؟ يتساءل المركز الأوروبي للطاقة والتحليل الجيوسياسي بدراسة القضايا الرئيسية وآخر التطورات في المنطقة مع التركيز على الفرص والتحديات التي تواجه التعاون الإقليمي في مجال الطاقة وآفاق استغلال احتياطيات الغاز، ليخلص أن “الحقائق تدل على أنه بعد مرور ست سنوات على الإكتشاف الكبير الرائد، ما زال العالم ينتظر أول متر مكعب من الغاز من حوض شرق المتوسط.”(17)

ويبرر المركز الأوروبي هذا التقاعس الى كون “الوضع السياسي غير المواتي يتفاقم بسبب الديناميكيات التشريعية المحلية التي تتداخل مع تطوير أية استراتيجية قابلة للإستمرار في مجال الطاقة. في إسرائيل، توقف استكشاف ليفياثان بسبب الصراع السياسي المستمر بين الحكومة والمحكمة العليا، وبدء مراقبة الأسعار والتصدير والتغيرات المستمرة في لوائح الطاقة. في لبنان، يجعل إطار الطاقة من المستحيل على الشركات الأجنبية التنقيب في المياه اللبنانية المفترض أنها غنية بالغاز. في مصر، لا يمكن للشركات الأجنبية تشغيل نظام الكهرباء المحلي. وفي الأردن، فإن خصومة السكان تجاه إسرائيل تجعل استيراد الغاز الإسرائيلي موضوعاً محلياً شائكاً.(18)

أمن البنية التحتية للنفط والغاز في البحر المتوسط

يشكل الإرهاب والإتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية تهديدات كبيرة لأمن صناعة النفط والغاز، وبالتالي ينبغي الاستجابة الإقليمية لإعطاء أولوية لأمن المنشآت النفطية في شرق المتوسط. يكشف فحص شامل للتدابير الأمنية الفعالة أن التجربة الأسترالية يمكن أن تكون دليلاً فعالاً لشرق المتوسط. أستراليا هي تاسع أكبر منتج للطاقة في العالم، حيث تمثل حوالي 2.4% من الإنتاج العالمي للطاقة، وتدر إيرادات تبلغ 28 مليار دولار سنوياً، وتساهم بنسبة 58% من احتياجات البلاد من الطاقة الأساسية.  قد تم بنجاح استخدام تجربة أستراليا لتحسين الإطار الأمني ​​للبنية التحتية للنفط والغاز في خليج المكسيك.(19)

تشير التقييمات إلى أن التهديدات الإرهابية للبنية التحتية البحرية يمكن أن تنبع من عمليات إرهابية محلية أو مدفوعة دولياً. وبالتالي، يجب إيلاء الاعتبار لتوسيع وتصعيد حدود منطقة الإستبعاد الأمني ​​الحالية وزيادة سلامة وأمن المنشآت البحرية من الإقتحام والتهديد غير القانوني أو غير المصرح به. تركز التوصيات على إدخال نهج ثلاثي المستويات في تقسيم المناطق الأمنية لجميع المنشآت البحرية:

1) منطقة تحذيرية تبلغ 15 ميلًا بحرياً؛

2) منطقة يجب تجنبها من 5 أميال بحرية ؛

3) منطقة استبعاد بين 1 و 2.5 ميل بحري، مع الموافقة على الدخول بموجب بطاقات ممنوحة فقط من قبل مشغل المرافق.(20)

كما يجب معالجة التهديدات المادية لإمدادات الطاقة في شرق البحر المتوسط ​​من حيث أمان خطوط الأنابيب:

1) تعمل معظم خطوط أنابيب النفط والغاز فوق سطح الأرض وتمتد على بعد مئات الأميال، مما يجعلها مرئية بشكل كبير ويصعب حمايتها. وخطوط الأنابيب هي أهداف رمزية رئيسية، ينظر إليها على أنها تمثل التأثير الأجنبي وعدم المساواة الإقتصادية أو السياسية. على سبيل المثال، هاجمت الجماعات ذات الدوافع السياسية خطوط أنابيب النفط في كولومبيا ونيجيريا، بينما منذ العام 2011 تم تفجير خط أنابيب العريش عسقلان من مصر إلى إسرائيل والأردن عدة مرات.

2) أما من ناحية الأمن البحري، فإن ناقلات النفط والغاز الطبيعي المسال تتحرك ببطء ونادراً ما يدافع عنها بشكل جيد. المنصات البحرية والموانئ ضعيفة. قد تكون ممرات الشحن العالمية التي تمر عبر قنوات ضيقة – وتعرف بإسم chokepoints – أهدافاً (مثل مضيق هرمز ومضيق البوسفور). وقد يؤدي الهجوم على سفينة في نقاط المرور أو حظرها إلى إغلاق أو تقييد حركة المرور، وبالتالي سيؤثر ذلك بشكل خطير على إمدادات الطاقة العالمية.

3) من الواضح، أنه، قبل البدء وحتى بالحفر، يجب حماية حقول النفط والغاز في البحر المتوسط من خلال مجموعة من قوات الأمن الحكومية المحلية وقوات الأمن الخاصة لمشغلي الشركة. لذلك يمكن لدول إقليمية مثل لبنان وسوريا وقبرص وتركيا أن تتشارك في تحليل المخاطر وإيجاد حلول تعتمد إما على الوقاية والكشف أو الاستجابة والانتعاش.

في الخلاصة .. خطوط غاز لبنان الى الجنوب أو الى الشمال

بدت الدراسة الإسرائيلية متفائلة، بأنه سيكون بالإمكان، في حال التوصل إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل حول حدودهما البحرية، أن تضخ الدولتان الغاز عبر جهاز ضخ إقليمي من شرقي البحر المتوسط إلى أوروبا، بالإشتراك مع مصر وقبرص، وذلك بواسطة استخدام منشآت تسييل الغاز في مصر أو قبرص أو في كلتيهما، ونقلها بحاويات إلى موانئ أوروبية؛ مد أنبوب من شرقي البحر المتوسط إلى أوروبا؛ وأنبوب قصير نسبياً يرتبط بجهاز الأنابيب في تركيا. وأضافت الدراسة أن “التكلفة المرتفعة لكل واحدة من هذه البدائل تحتم على أي دولة في شرقي البحر المتوسط الموافقة على استخدام مشترك لمنشآت ضخ الغاز من أجل تبرير الإستثمارات التي سيكون مصدرها من خارج المنطقة.”

وحسب الدراسة كذلك، فإن “الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية هو خطوة إيجابية، لكنها ليست الوحيدة التي تسمح ببدء عمليات التنقيب واستخراج الغاز في المنطقة المتنازع عليها. وعلى الأرجح أن الغاز الذي سيتم العثور عليه في هذه المنطقة سيكون حقلاً تمتد حدوده إلى خارج المنطقة الحدودية التي سيتفق عليها. وإذا تم حل قضية ترسيم الحدود، ستضطر إسرائيل ولبنان إلى التوصل إلى اتفاق تقاسم الأرباح من استخراج الغاز في هذه المنطقة، والذي قد يتأخر جراء الخلاف بين الجانبين. وبإمكان لبنان وإسرائيل الإمتناع عن تأخير ذلك إذا اتفقتا على إيداع حل تقني – اقتصادي لهذه القضية بأيدي الشركات التي لديها الإمتيازات في كلا جانبي خط الحدود المتفق عليه، فيما تحتفظان لنفسيهما بحق المصادقة على قرار الشركات.”(21)

في كل هذا البحث لم نتطرق الى الشمال اللبناني حيث ترتسم مشكلة كبيرة في الحدود البحرية على شاطئ النهر الكبير الشمالي بين سوريا ولبنان، وما تمرير تلزيم عقد صيانة لميناء طرابلس الى الشركة الروسية (كما مر معنا آنفاً) سوى وضع قدم للشركات الروسية بالدخول الى المنطقة ومحاولة التوسط بين الدولتين الشقيقتين – ويبدو أن هذا الموضوع مؤجل الآن في ظل الأحداث الجارية في الشقيقة سوريا – على أن يتم الإنتاج وتوزيعه وفق ما تتعهد به الشركة المنتجة بالتوافق بين البلدين، بطريقة مماثلة لما تقترحه أو تتوقعه الدراسة الإسرائيلية المشار إليها في متن البحث.

في العبور الى المئوية الثانية لدولة لبنان الكبير – اذا ما بقيت اتفاقية سايكس – بيكو قيد التنفيذ، وهذا شأن آخر يعالج في غير موضع – يبقى السؤال، في ظل نظام العولمة، أي إقتصاد السوق الذي يسود عالم اليوم ويوفر أحادية قطبية، ويمهد لعدم فاعلية السيادة الوطنية، وفي ظل سيطرة “البترو دولار” على عالم الطاقة، هل سينعم لبنان بثروته الوطنية أم سيمثل اكتشاف واستثمار الغاز نقمة عليه؟

*عميد متقاعد، وعضو اللجنة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية، وباحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري – “إينغما”.

المراجع:

(1) سايمون هندرسون، اتفاق الغاز البحري بين روسيا وسوريا يضيف عاملاً جديداً إلى محادثات السلام، في 27 كانون الأول/ديسمبر 2013

(2) ناصر الحسيني، مرجع سابق

(3) منتدى غاز شرق المتوسط خطوة تهدد بخلق نزاعات جديدة. مرجع سابق.

(4) ناصر الحسيني، مرجع سابق.

(5) وكالة أنترفاكس الروسية في 24/1/2019.

(6) سايمون هندرسون، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، “اتفاق الغاز البحري بين روسيا وسوريا يضيف عاملاً جديداً إلى محادثات السلام” في 27/12/2013.

(7) وكالة الصحافة الفرنسية في 26/12/2013

(8) الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية:

(9) سايمون هندرسون، مرجع سابق

(10) المرجع السابق.

(11) راجع: Jeffrey Kupfer, «The Link between Israel and America’s Natural Gas Boom”, Fortune (Electronic Magazine), December 12, 2014

(12) راجع: Noble Energy, “Noble Energy Announces Agreement to Sell Tamar Gas to Multiple Customers in Jordan”, February 19, 2014. Accessed at: http://investors.nobleenergyinc.com/releasedetail.cfm?ReleaseID=826568

(13) راجع: Sharon Udasin, “Palestinian Power Company Nixing Leviathan Gas Import Deal”, Jerusalem Post (Israeli Daily), November 3rd, 2015.

(14) راجع: Reuters, “Israel Gas Field Partners Sign LOI on Exports to Egypt LNG Plants”, May 6, 2014

(15) راجع:Matthew Bryza, “Build a Turkey-Israel Pipeline to Bring Stability”, The Japan Times (English Daily), January 26, 2014

(16) القضايا الرئيسية وآخر التطورات والآفاق المستقبلية لشرق المتوسط للغاز. مرجع سابق

(17) القضايا الرئيسية وآخر التطورات. مرجع سابق.

(18) المرجع السابق.

(19) راجع: Parliament of Australia, Migration Amendment (Offshore Resources Activity) Repeal Bill 2014; Second Reading. Accessed at: http://www.aph.gov.au/Parliamentary_Business/Hansard/Hansard_Display?bid=chamber/hansardr/6f011bde-9138-44d1-93a9-08f7c4113f58/&sid=0190

(20) راجع:Mikhail Kashubsky and Anthony Morrison, Security of Offshore Oil and Gas Facilities: Exclusion Zones and Ships’ Routeing, Australian Journal of Maritime and Ocean Affairs, Vol. 5(1), 2013

(21) الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية: مرجع سابق

المصدر: Future Concepts

مصدر الصور: Future Concepts

موضوع ذات صلةحقي: مصالح مشتركة تركية – سورية في شرق المتوسط