8 – انتقال العالم من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية وتداعياتها

تأسست الجمهورية الأميركية على قاعدتين أساسيتين هما: الإبادة والاستعباد. أولاً بدأ استيطان القارة الأميركية الشمالية في 13 أيار 1607 بقيادة المملكة البريطانية التي أسست جيمس تاون James Town في ولاية فرجينيا Virginia. ثانياً أبحر الطهرانيون (1620) The Puritans على سفينة ماي فلاور Mayflower من انكلترا إلى الأرض الجديدة ورسوا في مقاطعة بليموث Plymouth county على الشرق الأمريكي. تميزت تلك المجموعة على أنها وقّعت اتفاقية بين المستوطنين لتوحيد حقوقهم وتوفير نظام حكم يحكم على قاعدة الأكثرية.

ولم يمضِ أكثر من 16 عاماً حتى أسست المجموعة جامعة هارفرد Harvard في سنة 1636 بغية اكتناه أسرار الكون وقوانين الطبيعة من أجل السيطرة على الطبيعة وتالياً السيطرة على الأرض لخدمة المجتمع الجديد.

رغم الصعوبات التي واجهها المستوطنون، قطعوا مسافة 5000 كلم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي من سنة 1620 حتى 1886، عندما قضوا نهائياً على وجود الهنود الحمر، وأبادوا 18.5 مليون ونصف إنساناً دون وخزة ضمير. استعبدوا ملايين السود من أجل بناء عالم جديد بعيداً عن إقطاع أوروبا وتعظيماً لإنجازاتهم في المجد والعظمة. والمجد هنا يعني تأسيس جمهورية في 4 تموز 1776على أنقاض السيادة الملكية البريطانية وإعلان انتصار أول حركة تحرر في التاريخ الحديث.
السؤال كيف تم ذلك التوسع وبأي أدوات؟
الجواب: الشراء والضم.

انطلق الشراء أولاً بشراء ولاية لويزيانا Lousiana (عام 1803) من فرنسا وفلوريدا Florida من إسبانياً (1819). ثانياً، جاءت السيطرة بشن الحرب على المكسيك (1846 – 1848) وانتزاع تكساس وأريزونا Texas و Arizona وغيرها وصولاً إلى كاليفورنيا California. وفي الموجة الثالثة من التوسع، ابتاعت أميركا ألاسكا Alaska (1869) من روسيا. واجتاحت الهادي وضمت هواي Hawaii إلى اليابسة الأميركية (1888). أما الموجة الرابعة فتمثلت بالاستيلاء على مستوطنات الإمبراطورية الإسبانية (1898) من كوبا إلى بورتوريكو إلى الفليبين. وفي الموجة الخامسة، استولت أميركا على جزء من وطن سيمون بوليفار في فنزويلا واستقطعت منه قناة بنما Panama لربط المحيط الأطلسي بالهادي وهكذا تأسس “المجد الديمقراطي”!

بعد السيطرة على القارة الغربية من العالم عسكرياً واقتصادياً، توجهت أميركا إلى أوروبا في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وشاركت في الحرب إلى جانب الحلفاء من 4 نيسان إلى 11 تشرين الثاني 1918، بعدما تأكدت من احتمال انتصار الحلفاء في الحرب ضد الإمبراطورية الألمانية. انسحبت أميركا من أوروبا وعادت إلى حصنها المنيع خلف الأطلسي، بعدما فشلت في فرض هيمنتها على أوروبا، علماً أن الأوروبيين أرادوا أن تشارك أميركا في الحكم لا التفرد بالقيادة.

“أميركا الحلم وأميركا الديمقراطية وأميركا العالم الجديد” تخلت عن “برائتها” في الحرب العالمية الثانية وقررت السيطرة ليس فقط على أوروبا، إنما على روسيا والعالم. ونشرت ثقافتها وحضارة التفوق استلهاماً للنموذج الروماني وإليكم ما تعلمته لنشر الأمركة والتأمرك انطلاقاً من الأغريقي بوليب.

كان بوليبوس Polybius المؤرخ الإغريقي (200 – 125 ق.م) مرافقاً لسكيبيو أميليانوس Scipio Aemiliuns القائد الروماني (185 – 129 ق.م) الذي انتصر في الحرب الكونية الثالثة على قرطاجة عام 146 ق.م، عام استباحة قرطاجة ونهب وإصراف وتدمير كامل لقرطاجة التاريخ وهنيبعل. كان بوليب وسكيبو يشاهدان حفل التدمير، وإذ لاحظ بوليب، إن سكيبو ينتحب وتنهمر الدموع من عينيه، وهو يتأمل حريق قرطاجة! سأله بوليب، لماذا تبكي وترتجف يا سكيبو؟ أجاب سكيبو، ماذا سيحدث لروما في حال هُزمت في الحرب مستقبلاً؟ أنا أبكي لأني أخاف على مستقبل روما! ابتسم صاحب نظرية الحكم المختلط قائلاً: عليك يا سكيبو رومنة المهزومين لتأبيد حكم روما وبهكذا سلوك وتعامل تستطيع حكم العالم. آنذاك ضم سكيبو افريقيا وجعلها محافظة في الامبراطورية وعمل بموجب النصيحة. وعليه في الحرب الروسية على أوكرانيا وبعد أمركة أوروبا، ونيل أميركا 141 صوتاً في الأمم المتحدة من أصل 193 بإدانة روسيا، هل تنجح أميركا في الانتصار في الحرب وتفكيك روسيا أم ستُهزم أميركا وتدخل في عالم الإقليميات الآتي لا محالة؟

أما بعد، فلننظر إلى أميركا في خمسينيات القرن العشرين، وتخطيط وتطلعات أميركا للهيمنة على العالم.

إقطاعية دلاس Dulles الخارجية والأمن الخارجي

تأسس الرايخ الأميركي على قاعدة صلبة وقارية في الولايات المتحدة، وكانت أميركا قد ساهمت في حرب تحرير أوروبا من النازية والفاشية، وها هي الآن في الخمسينيات تحول التحرير إلى احتلال، وبالتالي تحول الاحتلال إلى مدار أميركي حيث تزدهر الأمركة والتأمرك وتنتصر أوروبا لأميركا وتدخل في مخططاتها العسكرية والاقتصادية والأمنية وغيرها. وفي هذا السياق، أستطيع أن أكتب، ان الخمسينيات تميزت بظاهرتين هما: انتشار النازية الأميركية وبروز العسكرتاريا لا البروليتاريا في حكم العالم الثالث.

في العلاقات الدولية ورثت إدارة الرئيس أيزنهاور (1890 – 1969) من إدارة ترومن، البيان الثلاثي (25 أيار 1950) الذي تعهد بالحرص والحماية لإسرائيل، والحرب الكورية (1950 – 1953) بين شمالها وجنوبها. وفي الأمن الخارجي، ورثت أيضاً قيام الحلف الأطلسي (1949) وأداة التجسس وكالة الاستخبارات الأميركية CIA (1949) والأخوان دلاس جون وآلن عُينا في الخارجية لشدة عدائهما للشيوعية وحماسهما في التخطيط لانتزاع بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر من الاتحاد السوفياتي.

أخذ جون فوستر دلاس John Foster Dulles (1888 – 1959)على عاتقه تبني سياسة ROLL BACK في أوروبا الشرقية، أي انت ا زع بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر من المعسكر السوفياتي في إدارة الرئيس ايزنهاور (1952 – 1960) وكُلف أخوه آلن بإدارة وكالة الاستخبارات الأميركية CIA للتجسس في الخارج واستثني بالقانون من المحاسبة ووُفر له المال الخفي، ومُنح حق التوظيف بتعيين من يشاء لتحقيق عرقلة مهمة النمو الشيوعي في العالم والتأسيس مع أخيه جون لعالم واحد بقيادة الحلف الأطلسي، الذراع العسكري لأميركا الذي يربو تعداد أعضائه في عام 2022، على ثلاثين عضواً مع الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية وليس لديه ميزانية واحدة ولا جيش واحد ولا سياسة خارجية.

للترويج للمشروع الأميركي، كان على أميركا أولاً أمركة أوروبا وتم ذلك “بمحو” الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا، وتالياً بتحطيم اليسار الأوروبي إبان القرن العشرين. تحرك جون نحو المشرق العربي لتشكيل ناتو إقليمي (آذار 1953) بدءاً من مصر عبد الناصر وفشل، ثم انتقل إلى بيروت لتشكيل حلف يصالح الازدراع الصهيوني ويؤازر تمدده. وحدث في حقل الاستقبال، غير المتوقع، فكان لجون فوستر أن واجه أول اعتراض شيوعي على مخططه وتجسد ذلك بقيام الحزب الشيوعي اللبناني بتكليف انطوانيت جريس بشارة من دير ميماس والياس عبود من القرعون، بإسقاط العلم الأميركي عن قبة البرلمان ورفع العلم الشيوعي العالمي مكانه. ذُهل الجميع والعالم وانتصرت الشيوعية اللبنانية وسُجن الياس وانطوانيت 6 أشهر، وخرجا من السجن، وتزوجا وأنجبا شهيدين هما الحج نقولا الذي استشهد في صنين 1 آب 1976 دفاعاً عن عروبة لبنان، واستشهدت أخته لولا في مواجهة العدوان الصهيوني إبان انسحابه من محيط القرعون في 16 نيسان 1985.

وبالعودة إلى الخمسينيات، يجب التأكيد:

أولاً، أن العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي اتسمت بالتناحرية. اختلفت قليلاً بعد وفاة الأمين العام الثاني للاتحاد السوفياتي في 5 آذار 1953، وعلى هذا المفصل أو الانعطافة أقول: أن الأخوين دالاس قد أسسا للحرب المباشر وغير المباشر ولطريقة التعاطي مع الدول الصديقة وغير الصديقة لمحاربة الشيوعية والإلحاد. فجاءت سياسات الاغتيالات والإطاحة بالأنظمة غير الصديقة (مثلاً آربنز Arbenz في غواتيمالا Guatemala 1952) والعلاقات الودية مع الازدراع الصهيوني في فلسطين وتأييد حروبها الخمسة التي شنتها إسرائيل على الأنظمة العربية “الوطنية” لكن المأثرة الأكثر فداحة، كانت حادثة الإطاحة بالرئيس الإيراني مصدق الذي أمم صناعة النفط، واستبدلته أميركا بالشاهنشاه الذي تربع على عرش الطاووس من 19 آب 1953 حتى 16 كانون الثاني 1979، عندما أطاحت به الخمينية.

ثانياً، في انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (25 شباط 1956) صحيح أن خروتشوف الأمين العام الثالث، قد ندد بسياسة ستالين للقمع المفرط، لكنه فتح آفاقاً جديدة للتشابك بين العملاقين التي تمثلت بطرح مقولة التعايش السلمي والتحديث في ذلك العصر، صحيح أيضاً، إن الاستجابة كانت فاترة. لذلك طلب خروتشوف السماح له بزيارة أميركا للإطلاع على تطورها من الداخل والتعرف على قادتها. فحدثت الزيارة بين 15 و27 أيلول 1959، وعاد خروتشوف إلى موسكو فرحاً لأنه كان في خلفية تفكيره تجربة الشراكة الأميركية الروسية في الحرب العالمية الثانية، التجربة التي أراد استحضارها بجيل انتقالي في عهد جديد. وزاده قناعة بالموضوع الخطاب الشهير للرئيس أيزنهاور في وداعه للسلطة في (20 كانون الثاني 1961) الذي حذر فيه من خطورة التجمع الصناعي العسكري Military Industrial Complex في أميركا وروسيا.

أعاد خروتشوف طرح مقولته مجدداً مع الرئيس الشاب جون كنيدي في فيينا واتفقا على متابعة الموضوع. وفي نفس الوقت، كان الرئيس كيندي قد طرح في مراسلته مع الرئيس جمال عبد الناصرإمكانية السلام بين العرب وإسرائيل، الأمر الذي أرعب الصهيونية العالمية. وعندما بدأت تظهر بعض النتائج في المسألة الفييتنامية إيجاباً وفي موضع تشريد الشعب الفلسطيني كذلك اغتيل كنيدي في 22 تشرين الثاني 1963 في دالاس تكساس، وأطيح بـ خروتشوف في 16 أكتوبر 1964.

في قراءتي لسياق تلك التحولات المثيرة للإعجاب والتأمل، أنا أعتقد بيقين إن مخابرات الـ CIA هي التي اغتالت كيندي لا، لي هارفي اوزوالد Lee Harvey Oswald الذئب المنفرد الذي قُتل في محطة الشرطة بعد يومين على اغتيال كيندي، على يد اليهودي الصهيوني جاك روبي الذي اقترف الجريمة على التلفاز أمام العالم. وأعتقد أيضاً جازماً أن المجمع السوفياتي الصناعي العسكري هو من قام بالإطاحة بـ خروتشوف بقيادة برجنيف وأُسدل الستار على جيل جديد من القيادة. واستمرت العلاقات الصدامية بين الثنائي الأعظم حتى انهار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات للقرن العشرين. واستعادت أميركا الأحادية القطبية، وبشكل مباشر أطاحت بنظام الحكم في أفغانستان (7 تشرين الثاني 2002) وقامت بذريعة ملفقة، بعنوان أسلحة الدمار الشامل في العراق واحتلت العراق (9 نيسان 2003) وأعادته إلى “العصر الحجري” كما هدد بوش الإبن ذلك لحماية الازدراع الصهيوني وتكريماً لأنظمة الخليج السلطوية، التي حماها صدام حسين من تصدير الثورة الإيرانية.

وأخيراً بالنسبة إلى حركات التحرير العالمية، فقد شاركت الدول العظمى في قمة جنيف (20 تموز 1954) ومنها الولايات المتحدة، حيث اعترفت القمة بكوريا شمالية شيوعية وكوريا جنوبية بحماية الولايات المتحدة، هذا أولاً، وثانياً أجمعت القمة على فييتنام شمالية بقيادة هوشي منه Hochi minh وفييتنام جنوبية بقيادة العميل ديم Diem. وتم ذلك في أعقاب هزيمة فرنسا وطردها من الشرق الأقصى في معركة ديان بيان فو Dien Bien phu (7 أيار 1954) وبدأت حرب التحرير في الجزائر (1 تشرين الثاني 1954) الحرب التي انتصرت فيها جحافل الشعب الجزائري نهائياً على فرنسا وأعلنت استقلالها في 4 تموز 1962.

في الخاتمة، لا بد من كلمة مختصرة ومفيدة حول التطورات التي تناولتها في هذا البحث: في غياب التصنيع والتحولات الاجتماعية التي ترافقه انتشرت في العالم الثالث العسكريتاريا لا البروليتاريا وخاصة في الوطن العربي. وبقيت الأمة العربية التاريخية الوحيدة في العالم بدون أمة – دولة واحدة.

وبالتالي كان النصر للحركات والأحزاب التي امتشقت السلاح بدءاً من الجبل كقاعدة للتغيير، لذلك انتصرت ووضعت مجتمعاتها على سكة التحول الاجتماعي والتطوير. أما الأحزاب والحركات التي تبنت الشارع والتظاهرة والسجن والثقافة كقاعدة للتغيير، فقد فشلت وعادت إلى أحضان الأمبريالية تابعة ومتسولة!

مصدر الصور: إندبندنت – بلومبرغ – قناة العربي.

موضوع ذا صلة: أوروبا: الجزيرة الكونية وحروبها القارية الأربعة (2/5)

د. جورج حجار

رئيس منتدى العروبة للدراسات الاشتراكية – لبنان